الدولة وجدلية الخير والشر

الدولة وجدلية الخير والشر

14 سبتمبر 2018
+ الخط -
"هل عرف أي قطر عربي في أية فترة من تاريخه حالة تسبيق المجتمع على الدولة؟ لا نعني حالة تتميز بالتباعد والتنافر والإهمال، لأن هذا كان هو الوضع العادي وهو الذي تسبب في كل بلاء، بل نعني حالة توظف فيها قدرات الدولة لتأسيس المجتمع على شكل يؤهله للاستغناء لاحقا وبالتدريج عن كثير من صلاحيات تلك الدولة. وهو ما تعنيه عبارة التربية المدنية". 

عبد الله العروي "نقد المفاهيم" ص127

إذا كان التاريخ الفكري للبشرية في تطوره، ينبني على الرفع من شأن الدولة باعتبارها الخير المطلق، الذي انتقل بالبشرية من الفوضى وحرب الكل ضد الكل، وتنظيم حياة الناس، وضبط العلاقة في ما بينهم، والحرص على استتباب الأمن وضمان العدالة والحرية، فالدولة كانت دائما تحمل في طياتها بذور فشلها. بحيث غالباً ما كانت تسقط في ممارسات مخالفة لما جاءت من أجله، وذلك بتحولها إلى سلطة قاهرة على عموم الشعب، وجهاز للنهب الاقتصادي وخدمة مصالح فئة معينة ضد طموحات المجتمعات المتعلقة بتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية والحرية. في هذا السياق من انفصال الدولة عن المجتمع، وفشلها في أن تكون تعبيراً عن إرادة المجموع، خرجت أغلب حركات الاحتجاج العالمية. والبلدان العربية الإسلامية الأمازيغية لا تشذ عن هذه القاعدة، ففي إطار الثورات الأخيرة لمجتمعاتنا لما بعد 2011، شهدنا سيلاً من تبادل التهم بين الدولة والمجتمع، إذ في سياق "حراك الريف" بالمغرب نتذكر مثلا اتهام الدولة وترويجها لفكرة الانفصال والخيانة، فيما ردت الجماهير أن الدولة هي المنفصلة، ويقصدون بذلك أنها لا تعبر عن طموحاتهم وإرادتهم وأن أصواتهم غير مسموعة، فنتج عن هذا الإهمال والتباعد كل هذا البلاء كما أورد العروي. 

إن نجاح الدولة ينبني على مدى تمثيلها لإرادة المجموع، ومدى تعبيرها والتصاقها بهموم المجتمع، والدفع به إلى اكتساب تربية مدنية تجعله مؤهلاً لتجاوز الدولة والتخلي عن تدخلاتها تدريجياً. فالسؤال الذي يبقى مطروحاً بعد تأسيس الدولة بتعبير عبد الله العروي في كتابه "نقد المفاهيم" هو: "هل يسير التطور بعد تأسيس الدولة في اتجاه الترشيد والتوكيل أم يبقى قائما التهديد المعروف: أنا أو الفوضى" ص127. هكذا تنبع شرعية الدولة واستمرارها من التزامها الأخلاقي، الذي يتجلى في دفعها بالمجتمع نحو مزيد من الترشيد والتوكيل، لكن هذه الأمور غالباً ما تستعملها الدولة على مستوى الشعارات دون أن تلتزم بها أخلاقياً. بهذا يبقى الإصلاح معلقاً على مستوى الشعارات دون أن يتجسد واقعياً، وهذا الفشل نلمسه أيضاً في تعبيرات الفاعلين المجتمعيين الذين يرفعون اليوم شعارات ضد الدولة يدعون فيها إلى تفعيلبنود الدستور والالتزام بها، ودعوتهم أيضاً إلى تفعيل بعض مؤسسات الدولة التي تنهك جيوب المواطنين على مستوى ميزانياتها دون أن تقدم أي خدمة للصالح العام.

إذا كان توسع مد حركات الاحتجاج يعبر عن الفشل المتزايد للدولة، فإن هذا الأمر نلمسه أيضا على مستوى انتشار وازدهار الفلسفة الأناركية anarchisme على المستوى العالمي والعربي والإسلامي، وخصوصاً أنّ الأناركية تعترف بالدور السلبي والمضر للدولة على المجتمع. وبدأنا نشهد انتشار التعليم غير النظامي والرسمي في صفوف بعض الفئات التي تشكل عندها وعي بفشل التعليم الرسمي النظامي وسعيها إلى تجنب أبعاده الأيديولوجية.

عبر هذا السياق، برزت بعض الأفكار التي تقول بنهاية الدولة واستنفاد ذاتها دون أن تطرح بديلاً آخر، فيما حاول البعض الآخر التنصل من سلطة الدولة وعدم الاعتماد على خدماتها، بتبنيه فلسفة ضد الدولة. لكن الغالبية العظمى لا تزال حناجرها تصدح في آذان الدولة المتسلطة والصمّاء وكلها أمل، أما البعض الآخر فلا يزال يقدس جهاز الدولة ويعدّها صمام أمان ضد الفوضى والعنف الذي يتربص بنا، بعد استفحال الجهل والتخلف في صفوف المجتمع، دون النظر في جذور الأزمة التي تعود في جزء كبير منها إلى فشل مؤسسات الدولة التعليمية والتربوية والأمنية.

دلالات