الخنساء... أنموذج الرّثاء المتفرّد

الخنساء... أنموذج الرّثاء المتفرّد

10 اغسطس 2017
+ الخط -
أزعُم في هذا المقال أنّ النّساء الشّاعرات في أدبنا العربيّ، بلغنَ شرفَ المعنى في غرضِ الرّثاء أكثرَ من غيرِه، وشرفُ المعنى حين يتواردُ في كتب النقد التّراثيّة إنّما يُقصَد به: أن يكون هذا الشعر من أشرفِ ما قيلَ في غرضِه، وليس معناه -ممّا سمعتُه من أساتذةٍ جامعيين- يربطونه بموافقة الأخلاق والبعد عن الفحشِ في الشعر؛ فإن قيل: هذا البيتُ شريفُ المعنى، أيّ أنّه تميّز وارتفع على غيره، وبلغ مبلغًا عظيمًا بأن توافرتْ فيه أصول عمود الشعر العربيّ، ولا دخلَ لذلك بموضوع البيتِ إطلاقًا فمثلًا قول المتنبّي: 

لو كان يُمكنني سَفرْتُ عن الصّبا                     فالشّيْبُ من قبــــــل الأوان تلثُّـــــم

فهذا بيتٌ شريف المعنى، في التعبير عن معنى روحِ الشباب المتّقد وإن خانك المظهر وظهرَ الشّيب.

والنساء الشاعرات، على قلّتهنّ، قد نظلمُهنّ إن جئنا وقارنّا شعرًا بشعر مع الشعراء، فهم أكثر إنتاجًا وعددًا؛ وليسَ هذا مقامُ بحثِ سببِ هذا؛ بل أتناولُ شاعرةً أدورُ حولَ غرضها إذ نبغتْ فيه، وهو الرّثاء، ولا بدّ أن يُقال: إنّ الخنساء شاعرة الرثاء، وأجلّ الشاعرات قدرًا وقيمةً فنيّة، ولعلّنا نعوج، فيما بعدُ، على شاعرةٍ أمويّة هي ليلى الأخيليّة، كانت منوّعةً في أغراضِها، فهجتْ وأحبّت ورثتْ؛ بل ومدحت.

لا تُذكَر الخنساء إلّا وصخرٌ حاضرٌ في هذا الحديث، وهو أخوها الّذي أكثرتْ من رثائه، فلو جئتَ تُقارِن ما قالتْه في أخيها، واطّلعْتَ على عوالي المراثي العربيّة، كعينيّة متمّم بن نويرة في جمهرة أشعار العرب، وكعينيّة أبي ذؤيب الهذليّ، ومراثي البحتريّ للمتوكّل، ورثاء مالك بن الريب التميميّ نفسَه، ورثاء عبد يغوثَ بن الحارث، الّذي قُطِع عِرقُه الأكحل، وأُعدِم وهو يُخرجُ من قلبه عشرين بيتًا خالدات، ومرثيّة دريد بن الصّمة لأخيه عبد الله، وغيرِها لمَا وسِعَك إلّا أن تجعلَ الخنساء بينهم؛ وهذا لسببٍ أراه: أن الشّاعر إذا ملك الشاعريّة واستوفى مطالبَها لم يكُن شيءٌ يدعو لعلوّ قصيدته سوى مناسبتها، أيّ شعورَه الصادق، فشعور الفقْد من أعظم المشاعر وأصدقِها؛ إذ أنّك لا تطلُب منفعةً أو توظّف منقبةً ليستْ في المرثيّ، فكما قال البحتريّ: من تمام الوفاء أن يعلو على المدح الرّثاء، فكيف وإن اجتمعَ الفقد والقرابة والتأثّر الشديد في شخصِ الخنساء، ودليل ذلك، أنّها بعد الإسلام ظلّت ترثيه.

فمناقبُ الميّت هي الحاضرةُ في هذا الشّعر؛ لا نفاقَ ولا مراء، ولا مبالغةَ أيضًا، فلستَ في موضعٍ يدعوك لذلك؛ بل هذا ممّا تُعابُ عليه، حسْب ما أرى، فأنت في موضعٍ يجبُ عليك فيه الإخلاص، وأن تنفثَ الّذي في قلبك بصدق، فقط كأنّك تعزّي نفسَك بفقدِه.

إن العلاقةَ بين صخرٍ والخنساء متينةٌ قبل وفاته، يدلّك على ذلك بيتُ الشّعر الذي يقوله: 

أرى أمّ عمرٍو لا تمــلّ عيــادتي                             وملّت سُليمى مضجعي ومكاني

فأمّ عمرٍو هي الخنساء، فهي مكثرةٌ لعيادته أثناء مرضه، ويعرّض هو بزوجِه الّتي ملّت مكانه وضاقت به

والإكثارُ من المراثي لذات المفقود دليلُ صدقٍ وتأثّرٍ، فهذا المهلهل مثالٌ في ذلك، إذ ديوانُه غالبيّته في رثاء كليب بن وائل -أخيه- وما يعزّز هذا الرثاء تعطّشُه للثأر، والخنساء مكثرةٌ في غرض الرّثاء؛ بل لا تكاد ترى غيرَه في ديوانها، وقليلًا رثاءَ أخيها معاوية، الّذي قُتِل قبل صخر.

ومن عوالي مرثيّاتها قولُها: 

يا عينُ، مالك لا تبكين تَسكابـــا                     إذا رابَ دهرٌ وكان الدهرُ ربّابـــــــــا

فـــــابكي أخــــاكِ لأيتــــــــــــــــامٍ وأرملــةٍ            وابكي أخاكِ إذا جاورتِ أجنابـــــــــا

هو الفتى الكاملُ الحامي حقيقتَه                     مأوى الضريك إذا ما جاء منتابا

خطّــــــابُ مَحفِلــــــــةٍ فــــرّاجُ مَظلمـــــةٍ               إن هاب مُعضلةً سنّى لها بابــــــــا

ولها في بائيّة أخرى:

مـــــــــــا بـــــال عينكِ منهــــا دمعُها سَــرَبُ        أراعَهـــا حـــزَنٌ أم عادهـــــا طَــــــرَبُ

أم ذِكْـــــر صخـــــــــــرٍ بُعَيْــد النوم هيّجها                فالدمعُ منها عليه الدهر ينسكبُ

يا لهفَ نفسي على صخرٍ إذا ركبتْ                      خيلٌ لخيلٍ تُنادي ثم تضطــــربُ

فالخنساء شاعرةٌ كانت ذا أثرٍ في الشّعر العربيّ الغنائيّ، مثّلتْ نظرةَ المرأةِ للرّجل، وما الّذي يبدو الرّجلُ العربيّ المثاليّ عليه في نظرِها، في نظرِ ابنة البادية وبنت القبيلة، الفارسُ، والعطوف على غيره، الجواد الكريم، الحييّ، وديوانها شاهدٌ على ذلك فراجعْه، وقد طبعتْه المكتبة الثقافية ببيروت، ولن أقول: إنّ هناك اختلافًا حولَ تناول القيمِ من ناحية الرجل أو المرأة في الشعر؛ حتّى في مسألة الحبّ، وسنجدُ هذا عند ليلى الأخيليّة الّتي مثّلت نفسيّة المرأة في تعاملِها مع الرّجل عاطفيًا؛ سوى في جزئيّة بسيطة، لعلّي أوفّق في الكتابة عنها قريبًا، يُعاضدُني في هذا عمر بن أبي ربيعة، الّذي نالَ موافقةَ النساء فيما روي عنه، وهو القائل لأمير المؤمنين حينما سأله: لماذا لا تمدحُنا؟ قال: إنّما أمدحُ النساء.

دلالات

FB2D9CE8-9F73-4D0E-BB9D-11EE0C0B1196
عبد الله محمد بني مفلح

كاتب فلسطيني. طالب لغة عربية في جامعة بيرزيت. يقول: "ما زال الأدب العربي بحاجة لجهود جبارة تظهر مكامنه وبهاءه".