الشيء الإيجابي الوحيد في نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة في ما يخص الأحزاب العربية هو الصدمة، التي أكدت ما حذّر منه العديد من الكتاب والناشطين خلال السنوات الثلاث الماضية، وهو أن أداء القائمة المشتركة وخطابها ليس خطوة إلى الأمام بل خطوات إلى الوراء، وأن المجتمع صار أكثر انفتاحا وعصرنة من الأحزاب العربية قاطبة، على الرغم من المنزلقات التي وقع فيها، وتحديدًا العنف والجريمة المنظمة.
خلفية لا بد منها
المجتمع الفلسطيني في إسرائيل لم يعد ذاك المجتمع التقليدي قبل عقدين أو ثلاثة، وللمفارقة، ساهم انفتاح العالم العربي أمامه بعد اتفاقيات السلام، وتحديدًا مع الأردن، إلى تدفق آلاف الطلاب الفلسطينيين من الداخل إلى الجامعات الأردنية والفلسطينية في جنين ونابلس وبير زيت، ما انعكس ارتفاعا بنسب الأكاديميين في التخصصات الطبية والهندسة، بالتزامن مع نمو جدي في الاقتصاد الإسرائيلي في العقد الأخير وحاجته لقوى عاملة بشرية في قطاع الصحة والطب والصيدلة والتكنولوجيا المتقدمة، وقد استفاد الفلسطينيون في الداخل بشكل غير مباشر (لأنهم ليسوا المستهدفين بهذا النمو) من بحبوحة اقتصادية وارتفاع في مستوى المعيشة والدخل، بحيث أصبح أقرب إلى مستوى الدخل الأوروبي، لكن الواقع المادي للبلدات الفلسطينية في إسرائيل لم يتطور في موازاة ذلك، لأن مصادرة الأراضي طيلة عقود، حوّلتها إلى بلوكات سكنية أشبه بأحياء فقر على هامشها أحياء فيها بيوت فخمة، بعضها مستوحى من تصاميم المنازل في المسلسلات التركية.
هذا كله خلق واقعًا مركبًا وتمايزًا طبقيًا، ولم يقلّل من نسب الفقر، إذ وصلت في أوساط العائلات العربية إلى نحو 50 في المئة في العام 2016 (18.6% المعدل العام)، ولم يمنع هذا الواقع عمليات التشريد اليومية في النقب، المنكوب بالفقر، ويعاني غياب مقومات تحتية أساسية.
الواقع المعيشي الجديد هو، عمليًا، تطوّر قسري بلا أداة أو مؤسسة وطنية ناظمة، بل هو تطور عشوائي لم ينعكس على تطوّر المجتمع الفلسطيني سياسيًا من خلال بناء مؤسسات قومية ووطنية، ولا على تحسن مكانتهم السياسية في إسرائيل، بل بالعكس، ازدادت العنصرية وأصبحت دستورية على غرار "قانون القوميّة". والتحسن في الوضع المعيشي رافقه خطاب إسرائيلي مفاده أن اقبلوا بما أنتم عليه، لأن حولكم محيطا عربيا يهيج بالقتل والفقر والدمار. اقبلوا بالفتات الاقتصادي واتركوا السياسة وأحزابكم الوطنية التي "تضر" برفاهيتكم، رفاهية الفتات والمهمشين، أي نحن أقوى منكم وصادرنا وطنكم وتسلوا بحرية التعبير والتسوق. هذه العصا، وهذه الجزرة.
استبطان الدونية
تعرض الفلسطينيون في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة لعمليات "غسيل دماغ" قادها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تقول إن لا شرعية سياسيّة للمواطنين العرب، وقد وصل ذلك إلى ذروته في الانتخابات الأخيرة عندما اتّهم قائمة "كاحول لافان" بقيادة بيني غانتس بأنها ستشكل حكومة يسارية تستند إلى أصوات النواب العرب؛ ورغم أنّ متحدّثي قائمة غانتس صرّحوا، مرارًا وتكرارًا، بأنهم لن يضمّوا أيّة قائمة عربية للائتلاف الحكومي المستقبلي، إلا أن المهم في هذا السياق هو أن دعاية نتنياهو هدفت إلى نزع الشرعية السياسية للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وأحزابهم الوطنية، حتى تلك التي مثل الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (الحزب الشيوعي الإسرائيلي في صلبها)، التي تعرّف نفسها حركة يهودية – عربية وأبدت استعدادها مرارا أنْ تكون كتلة مساندة لائتلاف غانتس بهدف إسقاط نتنياهو، على الرغم من رفض غانتس المتكرر لهذه الفكرة.
وقبل ذلك، وبعد إقرار "قانون القومية"، صرّح نتنياهو بأنه توجد في إسرائيل مساواة مدنية في الحقوق لكافة المواطنين، ولكن لا مساواة في الحقوق القومية، التي هي حصرية لليهود في ما تسمّى "أرض إسرائيل"، وتباهى من على كل منصة دولية بأن المواطنين العرب في إسرائيل يحظون بحقوق مدنية ومستوى معيشي وحرية دينية غير متوفرة في أيّ دولة عربية.
وقد سبق نتنياهو إلى هذا الخطاب، نائب رئيس جهاز "الشاباك" وعضو الكنيست عن حزب "كاديما" سابقًا، غدعون عزرا، بادّعائه أن الأحزاب العربية لا تهتم بقضايا المواطنين العرب المدنية والخدماتية، بل إن كل مجهودها ينصب على القضايا القومية، أي القضية الفلسطينية والاحتلال والاستيطان، وهو كذب تثبته تقارير الكنيست الرسمية، التي أظهرت أن معظم القضايا التي يهتم بها النواب العرب هي قضايا حياتية خدماتية. وفي ذلك عنصرية وفوقية واضحة، إذ يقول منطق عزرا ونتنياهو إنه يحقّ للنائب اليهودي تناول القضايا السياسية والقومية، فيما على النائب العربي أن يهتم بالقضايا الحياتية، مثل قضايا الصرف الصحي والبطالة وغيرها، التي هي أصلا نتاج سياسات الحكومات المتعاقبة العنصرية.
الأحزاب العربية تقع بالفخ
في محاولتها لمواجهة لهذا الخطاب، وبعدما دفع أفيغدور ليبرمان لرفع نسبة الحسم في انتخابات الكنيست بهدف إسقاط الأحزاب العربية، اضطرت هذه الأحزاب إلى التوحد في قائمة انتخابية مشتركة، شملت التيار الشيوعي اليهودي العربي ممثلا بالجبهة، والتيار القومي الديمقراطي ممثلا بالتجمع، والتيار الإسلامي ممثلا بالحركة الإسلامية الجنوبية، والتيار الشعبوي المؤسرل، ممثلًا بأحمد طيبي.
فرح الناس بوحدة الأحزاب العربية أخيرًا، وعوّل كثيرون، وأنا منهم، على أن تعيد الوحدةُ الهيبةَ للعمل السياسي والوطني نتيجة انعدام المنافسة الحزبية الضيقة والتناحر الفئوي والحسابات الصّغيرة، وتدفع إلى توفير مناخ وطني توافقي، يعزّز التوجّهات لبناء المؤسسات القومية وعلى رأسها لجنة المتابعة العليا. لكن سرعان ما انكشفت حقيقة الوهم، وجرى طمس الخطاب الوطني وصعود الخطاب الخدماتي المؤسرل، وبدلا من تسييس قضايا وهموم الناس وتحويلها إلى نضالية، فإنّه يذررها ويحولها إلى قضايا فردية منزوعة السياق السياسي والنضالي، ليصبح التنافس ليس حزبيًا فحسب، بل أسوأ من ذلك بكثير، فيصبح فرديًا و"حرب نجوم" بين بعض نواب "المشتركة"، من التقى الوزير فلان ومن عبّد شارعًا في قرية نائية، ومن سب عضو كنيست يميني في الهيئة العامة للكنيست (المسبات غير مكلفة سياسيا ووطنيا وجزء من اللعبة السياسية البرلمانية الشعبوية)، وأصبح بعض النواب منافسين لشبكة AJ+ في نشر الفيديوهات القصيرة على فيسبوك. ووصلت الشعبوية إلى درجة أن "سد نيعك"، التي قالها نائب عربي شعبوي لنائب يهودي شعبوي، تحوّلت إلى فيديو "نضالي" على غرار فيديو من البرلمان الأردني قال فيه أحد النواب لزميلته "اقعدي يا هند". هكذا تتحوّل السياسة إلى بهلوانيات.
وقعت معظم الأحزاب العربية في فخ اليمين الإسرائيلي، وصارت تتنافس في خطاب الخدمات بدلا من الخطاب الوطني والحقوق القومية، وبلغت ذروة ذلك في الترويج لخطة خمسية لتطوير الاقتصاد العربي المعروفة بالخطة 922، التي هي حاجة للاقتصاد الإسرائيلي أكثر من كونها اعترافا بالتمييز والغبن التاريخي للمواطنين الفلسطينيين، لأن فرص استمرار النمو في إسرائيل منوطة بتشغيل النساء العربيات واليهود الأرثوذكس المتزمتين (الحريديين).
خطاب الخدمات المنزوع عن السياق السياسي النضالي والحقوق الجماعية، في موازاة خطاب رئيس القائمة المشتركة، النائب أيمن عودة (الجبهة)، الذي روّج، منذ اليوم الأول، إلى مشروع بناء معسكر ديمقراطي إسرائيلي يشمل الجبهة والقوى الليبرالية الإسرائيلية، أدّى إلى خلق وعي سياسي جديد يرتكز على المواطنة المنقوصة، أي المساواة المدنية في دولة اليهود، مضحّيًا بالبعد الجوهري لنضال المواطنين الفلسطينيين من أجل المواطنة الكاملة في دولة جميع مواطنيها، ويشدّد على المساواة القومية قبل المدنية، لأن المساواة القومية في حالة المواطنين الفلسطينيين هي جوهريّة، لأنهم أصحاب البلاد الأصليّون، ولأن هويتهم القومية العربية العصرية جزء من معركتهم. من دون ذلك، يصبح نضالهم نضال أقلية أو جالية مهاجرة في دولة طبيعية.
خطاب الخدمات والاستعداد للتحالف مع قوى ليبرالية صهيونية لبناء معسكر "ديمقراطي" لا أحد يعلم أهدافه الحقيقية، وبدعم من السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، أعاد الخطاب السياسي في الداخل إلى فترة حكومة إسحق رابين، بعد اتفاقية أوسلو ووهم إمكانية المساواة في دولة اليهود، من دون تسوية حقيقية للقضية الفلسطينية، تشمل مكانة الفلسطينيين في إسرائيل السياسية والثقافية وحقوقهم الجماعية.
رغم ذلك، لم يرحم الإعلام الإسرائيلي الأحزاب العربية ونوابها، بل حاول اللعب على وتر المعتدلين (الجبهة وطيبي) والمتطرفين (التجمع)، وهو إعلام يدخل كل بيت فلسطيني في الداخل، بعد تراجع هيمنة قناة "الجزيرة" على المشاهدين في الداخل بعد الشرخ العميق الذي حصل في العالم العربي. ولم يواز هذا التحريض الإعلامي الإسرائيلي جبهة إعلامية عربية تصده، لأن الإعلام العربي المحلي معتمد في معظمه على سوق الإعلانات الإسرائيلية، وفشلت الأحزاب العربية في خوض "حرب شوارع" على وعي الناس والتواصل الميداني معهم، بل إنها انساقت مع توجه الإعلام الإسرائيلي وتنافس بعض النواب من يكون الأقرب والأكثر تحببا لدى هذا الإعلام.
في موازاة التحريض وتشويه الوعي، الذاتي والخارجي، جاءت انتخابات الكنيست الأخيرة لتفجر "القنبلة الموقوتة" هذه، بل جرى الهروب إلى الأمام، فقد أصبح مشروع تحالف الجبهة في المعركة الانتخابية هو إسقاط "الفاشية" ونتنياهو (إسرائيل ليست فاشية، ففيها تعددية حزبية وحرية تعبير ومعتقد وسوق حرة وصحافة مستقلة وقوية، بل هي استعمار استيطاني وأبرتهايد لكن الائتلاف الحاكم فاشي)، لدرجة إبداء الاستعداد المهين لدعم تحالف الجنرالات بقيادة غانتس (الذي رفض هذا الدعم في كل مناسبة)، وقد سبق ذلك إعلان أحمد طيبي الانشقاق عن المشتركة، وقدم طلبا رسميا بذلك للكنيست، وهو من ساهم في استمرار إفساد الحالة السياسية، الرديئة أصلا، وتحويلها إلى منزوعة الكرامة الوطنية وإلى أنانية فئوية وحسابات صغيرة.
نتائج الانتخابات
تراجعت نسبة التصويت العربي في الانتخابات الأخيرة إلى قرابة 50 في المائة، بعدما ارتفعت إلى 63 في المائة في انتخابات 2015 نتيجة تشكيل القائمة المشتركة. ويعبّر هذا التراجع، أساسًا، عن خيبة أمل من الأحزاب العربية وقياداتها نتيجة تفكك المشتركة كانعكاس لتردي الحالة السياسية والوطنية. فقد سبق هذا التراجع، تراجع الأحزاب بشكل عام في الانتخابات المحلية في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار، إذ خسرت الأحزاب التي دعمت مرشحا توافقيا في مدينة الناصرة، الانتخابات لرئاسة البلدية لصالح مرشح غير حزبي، علي سلام، الذي قدّم نفسه على أنه شعبي وخدماتي غير سياسي.
وهذا يثبت، على الرغم من الظروف الموضوعية، أنه إذا تبنت الأحزاب خطاب الخدمات والإنجازات وتنازلت عن الخطاب السياسي الوطني، فإن هناك من ينافسها بشكل أفضل ومتحرر من المحاذير الحزبية والسياسية الوطنية، وهذا يعني استعادة عقلية الجهوية والوساطة والحلول الفردية السريعة وكسر المحرمات الوطنية، أي ترسيخ العائلية والحمائلية في السياسة.
وهناك معطى مقلق آخر، هو تراجع نسبة التأييد للأحزاب العربية، أي تحالف الموحدة والتجمع وتحالف الجبهة وطيبي، من 85 في المائة للقائمة المشتركة في 2015 إلى 70 في المائة في 2019. أي أن ما يقارب 30 في المائة من الناخبين أدلوا بأصواتهم لأحزاب صهيونية (40 ألفاً صوتوا لقائمة "ميرتس"، التي نجحت بفضل العرب، ونحو 33 ألفاً صوتوا لتحالف الجنرالات برئاسة غانتس)، وذلك بعد نحو عقدين من كنس الأحزاب الصهيونية من البلدات العربية بعد تصاعد قوة خطاب التجمع والانتفاضة الثانية.
وتراجع نسبة التصويت لم يكن تأثرًا بحملة المقاطعة الأيديولوجية (تحول المقاطعة لأيديولوجية مشكلة بحد ذاتها)، بل هي تعبير عن عدم الثقة في أداء الأحزاب العربية، ودليل على تراجع السياسة والتسييس لدى الفلسطينيين في الداخل، ولامبالاة وتراجع الشعور بالانتماء والهمّ الجماعي، نتيجة عوامل متراكمة، التحريض الرسمي والإعلامي على الأحزاب وخطاب "العصا والجزرة"، ويُضاف إليه تقعير العمل السياسي وتحويله إلى خدماتي أشبه بالعمل البلدي، والأخطر هو قبول الدونية والتهميش السياسي وتعويضه بتحسين مستوى المعيشة، أي القبول بالفتات مهما كان قليلا أو كثيرا لكنه يبقى فتاتا.
القبول بالتهميش والعزوف عن السياسة والقضايا العامة ليست ميزة خاصة بالفلسطينيين في الداخل، فهي ظاهرة عالمية تترافق مع تحسن الاقتصاد واتساع الطبقات الوسطى، لكنها تكون خطيرة ومقلقة في حالة أصحاب قضية وطنية. وهذا يبعث إلى الاستنتاج بأن هناك نذرًا لعودة الأسرلة التي انتشرت في أعقاب البحبوحة الاقتصادية بعد اتفاقية أوسلو. والأسرلة ليست صهينة بالكامل وتخليا عن الهوية العربية بالكامل، بل عرّفها د. عزمي بشارة، في أواسط التسعينيّات، بأنها الاكتفاء بنصف المواطنة وبنصف الهوية القومية، أي أنها تشوّه ثقافي وقومي، ينتج عنه تشوه سياسي ووطني.
ما المطلوب؟
لن أكرر دعوة الأحزاب لمراجعة خطابها وممارساتها، وهذا إلزامي وضروري، وسأكتفي بالقول إن حزبا مثل التجمع استطاع محاصرة مظاهر الأسرلة بعد أوسلو، حين كان المجتمع الفلسطيني أقل عصرية وحداثة من اليوم، وبلا طبقة وسطى وبلا مقومات اقتصادية، وكانت نسب المتعلمين والأكاديميين فيه أقل، وكانت ممارسات إسرائيل العنصرية أكثر "نعومة". لكنه استطاع فعل ذلك بإمكانيات أقل من اليوم و"مشى عكس التيار" الفلسطيني والعربي العام بعد أوسلو، من خلال خطاب وطني واقعي مؤسس له فكريا، في موازاة أداء سياسي وبرلماني متطور على ما سبقه. وقد تمكن هذا الحزب، وهو الوحيد في الداخل الذي يعرف نفسه على أنّه جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس امتدادا لتيار سياسي يساري أو إسلامي فلسطيني أو عربي، أن يهيمن على الخطاب السياسي في الداخل منذ أواخر التسعينيات حتى سنوات قليلة مضت، لكنه تجمد ولم يطور خطابه وممارسته، بل دخل في حرب أجنحة داخلية وصراع نفوذ على لا شيء، فيما المؤسسة الإسرائيلية، الأمنية والسياسية والأكاديمية، تستهدفه وتريد القضاء عليه. التجمع، في نهاية المطاف، حزب صغير يعمل في ظروف معقدة ومركبة، ليست لديه رفاهية صراعات الأجنحة بالأحزاب الكبيرة والحاكمة.
وكلمة السر في تجربة التجمع، بأنه كان حزبا ابن عصره، حزبًا عصريًا وحديثًا استقطب نخبة المجتمع، وقدم للناس أملا وأفقا للتغيير، وأنقذ أجيالا من خطر الأسرلة وتشوه الهوية القومية، وبنى حوله مجتمعا مدنيا، وأكد أن الحركة الوطنية لن تقوى وتهيمن من دون تأسيس حزب سياسي عصري وديمقراطي يدرك واقع الفلسطينيين في الداخل المركب، وفيه مكان لكل الوطنيين.
وفشل التجمع في تحديث وعصرنة نفسه وتوسيع صفوفه وإجادة قراءة التحولات المجتمعية وأبرزها اتساع الطبقة الوسطى، أتاح المجال لبروز وعودة خطاب الأسرلة.
لذا، المطلوب لتغيير الواقع الحالي، أن تدرك الحركة الوطنية في الداخل، حتى بمعزل عن مراجعات الأحزاب الأخرى، أنها إذا لم تعمل على تطوير حزب سياسي عصري وديمقراطي يتسع لكل أبناء الحركة الوطنية، وأن تدرك، كذلك، أن المجتمع صار أكثر عصرية منه، فإن مصيرها الاندثار والمكوث في هامش الهامش في المجتمع، لأنه يسبقها حاليا حداثة وتطورًا، فنسبة المتعلمين والأكاديميين فيه أعلى، ونسب الشباب فيه أعلى. هذه مهمة الحركة الوطنية في المرحلة المقبلة: بناء حزبها السياسي ليكون عصريا وحديثا وسباقا وديمقراطيا.
خلفية لا بد منها
المجتمع الفلسطيني في إسرائيل لم يعد ذاك المجتمع التقليدي قبل عقدين أو ثلاثة، وللمفارقة، ساهم انفتاح العالم العربي أمامه بعد اتفاقيات السلام، وتحديدًا مع الأردن، إلى تدفق آلاف الطلاب الفلسطينيين من الداخل إلى الجامعات الأردنية والفلسطينية في جنين ونابلس وبير زيت، ما انعكس ارتفاعا بنسب الأكاديميين في التخصصات الطبية والهندسة، بالتزامن مع نمو جدي في الاقتصاد الإسرائيلي في العقد الأخير وحاجته لقوى عاملة بشرية في قطاع الصحة والطب والصيدلة والتكنولوجيا المتقدمة، وقد استفاد الفلسطينيون في الداخل بشكل غير مباشر (لأنهم ليسوا المستهدفين بهذا النمو) من بحبوحة اقتصادية وارتفاع في مستوى المعيشة والدخل، بحيث أصبح أقرب إلى مستوى الدخل الأوروبي، لكن الواقع المادي للبلدات الفلسطينية في إسرائيل لم يتطور في موازاة ذلك، لأن مصادرة الأراضي طيلة عقود، حوّلتها إلى بلوكات سكنية أشبه بأحياء فقر على هامشها أحياء فيها بيوت فخمة، بعضها مستوحى من تصاميم المنازل في المسلسلات التركية.
هذا كله خلق واقعًا مركبًا وتمايزًا طبقيًا، ولم يقلّل من نسب الفقر، إذ وصلت في أوساط العائلات العربية إلى نحو 50 في المئة في العام 2016 (18.6% المعدل العام)، ولم يمنع هذا الواقع عمليات التشريد اليومية في النقب، المنكوب بالفقر، ويعاني غياب مقومات تحتية أساسية.
الواقع المعيشي الجديد هو، عمليًا، تطوّر قسري بلا أداة أو مؤسسة وطنية ناظمة، بل هو تطور عشوائي لم ينعكس على تطوّر المجتمع الفلسطيني سياسيًا من خلال بناء مؤسسات قومية ووطنية، ولا على تحسن مكانتهم السياسية في إسرائيل، بل بالعكس، ازدادت العنصرية وأصبحت دستورية على غرار "قانون القوميّة". والتحسن في الوضع المعيشي رافقه خطاب إسرائيلي مفاده أن اقبلوا بما أنتم عليه، لأن حولكم محيطا عربيا يهيج بالقتل والفقر والدمار. اقبلوا بالفتات الاقتصادي واتركوا السياسة وأحزابكم الوطنية التي "تضر" برفاهيتكم، رفاهية الفتات والمهمشين، أي نحن أقوى منكم وصادرنا وطنكم وتسلوا بحرية التعبير والتسوق. هذه العصا، وهذه الجزرة.
استبطان الدونية
تعرض الفلسطينيون في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة لعمليات "غسيل دماغ" قادها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تقول إن لا شرعية سياسيّة للمواطنين العرب، وقد وصل ذلك إلى ذروته في الانتخابات الأخيرة عندما اتّهم قائمة "كاحول لافان" بقيادة بيني غانتس بأنها ستشكل حكومة يسارية تستند إلى أصوات النواب العرب؛ ورغم أنّ متحدّثي قائمة غانتس صرّحوا، مرارًا وتكرارًا، بأنهم لن يضمّوا أيّة قائمة عربية للائتلاف الحكومي المستقبلي، إلا أن المهم في هذا السياق هو أن دعاية نتنياهو هدفت إلى نزع الشرعية السياسية للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وأحزابهم الوطنية، حتى تلك التي مثل الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (الحزب الشيوعي الإسرائيلي في صلبها)، التي تعرّف نفسها حركة يهودية – عربية وأبدت استعدادها مرارا أنْ تكون كتلة مساندة لائتلاف غانتس بهدف إسقاط نتنياهو، على الرغم من رفض غانتس المتكرر لهذه الفكرة.
وقبل ذلك، وبعد إقرار "قانون القومية"، صرّح نتنياهو بأنه توجد في إسرائيل مساواة مدنية في الحقوق لكافة المواطنين، ولكن لا مساواة في الحقوق القومية، التي هي حصرية لليهود في ما تسمّى "أرض إسرائيل"، وتباهى من على كل منصة دولية بأن المواطنين العرب في إسرائيل يحظون بحقوق مدنية ومستوى معيشي وحرية دينية غير متوفرة في أيّ دولة عربية.
وقد سبق نتنياهو إلى هذا الخطاب، نائب رئيس جهاز "الشاباك" وعضو الكنيست عن حزب "كاديما" سابقًا، غدعون عزرا، بادّعائه أن الأحزاب العربية لا تهتم بقضايا المواطنين العرب المدنية والخدماتية، بل إن كل مجهودها ينصب على القضايا القومية، أي القضية الفلسطينية والاحتلال والاستيطان، وهو كذب تثبته تقارير الكنيست الرسمية، التي أظهرت أن معظم القضايا التي يهتم بها النواب العرب هي قضايا حياتية خدماتية. وفي ذلك عنصرية وفوقية واضحة، إذ يقول منطق عزرا ونتنياهو إنه يحقّ للنائب اليهودي تناول القضايا السياسية والقومية، فيما على النائب العربي أن يهتم بالقضايا الحياتية، مثل قضايا الصرف الصحي والبطالة وغيرها، التي هي أصلا نتاج سياسات الحكومات المتعاقبة العنصرية.
الأحزاب العربية تقع بالفخ
في محاولتها لمواجهة لهذا الخطاب، وبعدما دفع أفيغدور ليبرمان لرفع نسبة الحسم في انتخابات الكنيست بهدف إسقاط الأحزاب العربية، اضطرت هذه الأحزاب إلى التوحد في قائمة انتخابية مشتركة، شملت التيار الشيوعي اليهودي العربي ممثلا بالجبهة، والتيار القومي الديمقراطي ممثلا بالتجمع، والتيار الإسلامي ممثلا بالحركة الإسلامية الجنوبية، والتيار الشعبوي المؤسرل، ممثلًا بأحمد طيبي.
فرح الناس بوحدة الأحزاب العربية أخيرًا، وعوّل كثيرون، وأنا منهم، على أن تعيد الوحدةُ الهيبةَ للعمل السياسي والوطني نتيجة انعدام المنافسة الحزبية الضيقة والتناحر الفئوي والحسابات الصّغيرة، وتدفع إلى توفير مناخ وطني توافقي، يعزّز التوجّهات لبناء المؤسسات القومية وعلى رأسها لجنة المتابعة العليا. لكن سرعان ما انكشفت حقيقة الوهم، وجرى طمس الخطاب الوطني وصعود الخطاب الخدماتي المؤسرل، وبدلا من تسييس قضايا وهموم الناس وتحويلها إلى نضالية، فإنّه يذررها ويحولها إلى قضايا فردية منزوعة السياق السياسي والنضالي، ليصبح التنافس ليس حزبيًا فحسب، بل أسوأ من ذلك بكثير، فيصبح فرديًا و"حرب نجوم" بين بعض نواب "المشتركة"، من التقى الوزير فلان ومن عبّد شارعًا في قرية نائية، ومن سب عضو كنيست يميني في الهيئة العامة للكنيست (المسبات غير مكلفة سياسيا ووطنيا وجزء من اللعبة السياسية البرلمانية الشعبوية)، وأصبح بعض النواب منافسين لشبكة AJ+ في نشر الفيديوهات القصيرة على فيسبوك. ووصلت الشعبوية إلى درجة أن "سد نيعك"، التي قالها نائب عربي شعبوي لنائب يهودي شعبوي، تحوّلت إلى فيديو "نضالي" على غرار فيديو من البرلمان الأردني قال فيه أحد النواب لزميلته "اقعدي يا هند". هكذا تتحوّل السياسة إلى بهلوانيات.
وقعت معظم الأحزاب العربية في فخ اليمين الإسرائيلي، وصارت تتنافس في خطاب الخدمات بدلا من الخطاب الوطني والحقوق القومية، وبلغت ذروة ذلك في الترويج لخطة خمسية لتطوير الاقتصاد العربي المعروفة بالخطة 922، التي هي حاجة للاقتصاد الإسرائيلي أكثر من كونها اعترافا بالتمييز والغبن التاريخي للمواطنين الفلسطينيين، لأن فرص استمرار النمو في إسرائيل منوطة بتشغيل النساء العربيات واليهود الأرثوذكس المتزمتين (الحريديين).
خطاب الخدمات المنزوع عن السياق السياسي النضالي والحقوق الجماعية، في موازاة خطاب رئيس القائمة المشتركة، النائب أيمن عودة (الجبهة)، الذي روّج، منذ اليوم الأول، إلى مشروع بناء معسكر ديمقراطي إسرائيلي يشمل الجبهة والقوى الليبرالية الإسرائيلية، أدّى إلى خلق وعي سياسي جديد يرتكز على المواطنة المنقوصة، أي المساواة المدنية في دولة اليهود، مضحّيًا بالبعد الجوهري لنضال المواطنين الفلسطينيين من أجل المواطنة الكاملة في دولة جميع مواطنيها، ويشدّد على المساواة القومية قبل المدنية، لأن المساواة القومية في حالة المواطنين الفلسطينيين هي جوهريّة، لأنهم أصحاب البلاد الأصليّون، ولأن هويتهم القومية العربية العصرية جزء من معركتهم. من دون ذلك، يصبح نضالهم نضال أقلية أو جالية مهاجرة في دولة طبيعية.
خطاب الخدمات والاستعداد للتحالف مع قوى ليبرالية صهيونية لبناء معسكر "ديمقراطي" لا أحد يعلم أهدافه الحقيقية، وبدعم من السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، أعاد الخطاب السياسي في الداخل إلى فترة حكومة إسحق رابين، بعد اتفاقية أوسلو ووهم إمكانية المساواة في دولة اليهود، من دون تسوية حقيقية للقضية الفلسطينية، تشمل مكانة الفلسطينيين في إسرائيل السياسية والثقافية وحقوقهم الجماعية.
رغم ذلك، لم يرحم الإعلام الإسرائيلي الأحزاب العربية ونوابها، بل حاول اللعب على وتر المعتدلين (الجبهة وطيبي) والمتطرفين (التجمع)، وهو إعلام يدخل كل بيت فلسطيني في الداخل، بعد تراجع هيمنة قناة "الجزيرة" على المشاهدين في الداخل بعد الشرخ العميق الذي حصل في العالم العربي. ولم يواز هذا التحريض الإعلامي الإسرائيلي جبهة إعلامية عربية تصده، لأن الإعلام العربي المحلي معتمد في معظمه على سوق الإعلانات الإسرائيلية، وفشلت الأحزاب العربية في خوض "حرب شوارع" على وعي الناس والتواصل الميداني معهم، بل إنها انساقت مع توجه الإعلام الإسرائيلي وتنافس بعض النواب من يكون الأقرب والأكثر تحببا لدى هذا الإعلام.
في موازاة التحريض وتشويه الوعي، الذاتي والخارجي، جاءت انتخابات الكنيست الأخيرة لتفجر "القنبلة الموقوتة" هذه، بل جرى الهروب إلى الأمام، فقد أصبح مشروع تحالف الجبهة في المعركة الانتخابية هو إسقاط "الفاشية" ونتنياهو (إسرائيل ليست فاشية، ففيها تعددية حزبية وحرية تعبير ومعتقد وسوق حرة وصحافة مستقلة وقوية، بل هي استعمار استيطاني وأبرتهايد لكن الائتلاف الحاكم فاشي)، لدرجة إبداء الاستعداد المهين لدعم تحالف الجنرالات بقيادة غانتس (الذي رفض هذا الدعم في كل مناسبة)، وقد سبق ذلك إعلان أحمد طيبي الانشقاق عن المشتركة، وقدم طلبا رسميا بذلك للكنيست، وهو من ساهم في استمرار إفساد الحالة السياسية، الرديئة أصلا، وتحويلها إلى منزوعة الكرامة الوطنية وإلى أنانية فئوية وحسابات صغيرة.
نتائج الانتخابات
تراجعت نسبة التصويت العربي في الانتخابات الأخيرة إلى قرابة 50 في المائة، بعدما ارتفعت إلى 63 في المائة في انتخابات 2015 نتيجة تشكيل القائمة المشتركة. ويعبّر هذا التراجع، أساسًا، عن خيبة أمل من الأحزاب العربية وقياداتها نتيجة تفكك المشتركة كانعكاس لتردي الحالة السياسية والوطنية. فقد سبق هذا التراجع، تراجع الأحزاب بشكل عام في الانتخابات المحلية في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار، إذ خسرت الأحزاب التي دعمت مرشحا توافقيا في مدينة الناصرة، الانتخابات لرئاسة البلدية لصالح مرشح غير حزبي، علي سلام، الذي قدّم نفسه على أنه شعبي وخدماتي غير سياسي.
وهذا يثبت، على الرغم من الظروف الموضوعية، أنه إذا تبنت الأحزاب خطاب الخدمات والإنجازات وتنازلت عن الخطاب السياسي الوطني، فإن هناك من ينافسها بشكل أفضل ومتحرر من المحاذير الحزبية والسياسية الوطنية، وهذا يعني استعادة عقلية الجهوية والوساطة والحلول الفردية السريعة وكسر المحرمات الوطنية، أي ترسيخ العائلية والحمائلية في السياسة.
وهناك معطى مقلق آخر، هو تراجع نسبة التأييد للأحزاب العربية، أي تحالف الموحدة والتجمع وتحالف الجبهة وطيبي، من 85 في المائة للقائمة المشتركة في 2015 إلى 70 في المائة في 2019. أي أن ما يقارب 30 في المائة من الناخبين أدلوا بأصواتهم لأحزاب صهيونية (40 ألفاً صوتوا لقائمة "ميرتس"، التي نجحت بفضل العرب، ونحو 33 ألفاً صوتوا لتحالف الجنرالات برئاسة غانتس)، وذلك بعد نحو عقدين من كنس الأحزاب الصهيونية من البلدات العربية بعد تصاعد قوة خطاب التجمع والانتفاضة الثانية.
وتراجع نسبة التصويت لم يكن تأثرًا بحملة المقاطعة الأيديولوجية (تحول المقاطعة لأيديولوجية مشكلة بحد ذاتها)، بل هي تعبير عن عدم الثقة في أداء الأحزاب العربية، ودليل على تراجع السياسة والتسييس لدى الفلسطينيين في الداخل، ولامبالاة وتراجع الشعور بالانتماء والهمّ الجماعي، نتيجة عوامل متراكمة، التحريض الرسمي والإعلامي على الأحزاب وخطاب "العصا والجزرة"، ويُضاف إليه تقعير العمل السياسي وتحويله إلى خدماتي أشبه بالعمل البلدي، والأخطر هو قبول الدونية والتهميش السياسي وتعويضه بتحسين مستوى المعيشة، أي القبول بالفتات مهما كان قليلا أو كثيرا لكنه يبقى فتاتا.
القبول بالتهميش والعزوف عن السياسة والقضايا العامة ليست ميزة خاصة بالفلسطينيين في الداخل، فهي ظاهرة عالمية تترافق مع تحسن الاقتصاد واتساع الطبقات الوسطى، لكنها تكون خطيرة ومقلقة في حالة أصحاب قضية وطنية. وهذا يبعث إلى الاستنتاج بأن هناك نذرًا لعودة الأسرلة التي انتشرت في أعقاب البحبوحة الاقتصادية بعد اتفاقية أوسلو. والأسرلة ليست صهينة بالكامل وتخليا عن الهوية العربية بالكامل، بل عرّفها د. عزمي بشارة، في أواسط التسعينيّات، بأنها الاكتفاء بنصف المواطنة وبنصف الهوية القومية، أي أنها تشوّه ثقافي وقومي، ينتج عنه تشوه سياسي ووطني.
ما المطلوب؟
لن أكرر دعوة الأحزاب لمراجعة خطابها وممارساتها، وهذا إلزامي وضروري، وسأكتفي بالقول إن حزبا مثل التجمع استطاع محاصرة مظاهر الأسرلة بعد أوسلو، حين كان المجتمع الفلسطيني أقل عصرية وحداثة من اليوم، وبلا طبقة وسطى وبلا مقومات اقتصادية، وكانت نسب المتعلمين والأكاديميين فيه أقل، وكانت ممارسات إسرائيل العنصرية أكثر "نعومة". لكنه استطاع فعل ذلك بإمكانيات أقل من اليوم و"مشى عكس التيار" الفلسطيني والعربي العام بعد أوسلو، من خلال خطاب وطني واقعي مؤسس له فكريا، في موازاة أداء سياسي وبرلماني متطور على ما سبقه. وقد تمكن هذا الحزب، وهو الوحيد في الداخل الذي يعرف نفسه على أنّه جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس امتدادا لتيار سياسي يساري أو إسلامي فلسطيني أو عربي، أن يهيمن على الخطاب السياسي في الداخل منذ أواخر التسعينيات حتى سنوات قليلة مضت، لكنه تجمد ولم يطور خطابه وممارسته، بل دخل في حرب أجنحة داخلية وصراع نفوذ على لا شيء، فيما المؤسسة الإسرائيلية، الأمنية والسياسية والأكاديمية، تستهدفه وتريد القضاء عليه. التجمع، في نهاية المطاف، حزب صغير يعمل في ظروف معقدة ومركبة، ليست لديه رفاهية صراعات الأجنحة بالأحزاب الكبيرة والحاكمة.
وكلمة السر في تجربة التجمع، بأنه كان حزبا ابن عصره، حزبًا عصريًا وحديثًا استقطب نخبة المجتمع، وقدم للناس أملا وأفقا للتغيير، وأنقذ أجيالا من خطر الأسرلة وتشوه الهوية القومية، وبنى حوله مجتمعا مدنيا، وأكد أن الحركة الوطنية لن تقوى وتهيمن من دون تأسيس حزب سياسي عصري وديمقراطي يدرك واقع الفلسطينيين في الداخل المركب، وفيه مكان لكل الوطنيين.
وفشل التجمع في تحديث وعصرنة نفسه وتوسيع صفوفه وإجادة قراءة التحولات المجتمعية وأبرزها اتساع الطبقة الوسطى، أتاح المجال لبروز وعودة خطاب الأسرلة.
لذا، المطلوب لتغيير الواقع الحالي، أن تدرك الحركة الوطنية في الداخل، حتى بمعزل عن مراجعات الأحزاب الأخرى، أنها إذا لم تعمل على تطوير حزب سياسي عصري وديمقراطي يتسع لكل أبناء الحركة الوطنية، وأن تدرك، كذلك، أن المجتمع صار أكثر عصرية منه، فإن مصيرها الاندثار والمكوث في هامش الهامش في المجتمع، لأنه يسبقها حاليا حداثة وتطورًا، فنسبة المتعلمين والأكاديميين فيه أعلى، ونسب الشباب فيه أعلى. هذه مهمة الحركة الوطنية في المرحلة المقبلة: بناء حزبها السياسي ليكون عصريا وحديثا وسباقا وديمقراطيا.