الجنوب اللبناني المحرَّر: أرضٌ بلا ناس... لولا السوريّون

الجنوب اللبناني المحرَّر: أرضٌ بلا ناس... لولا السوريّون

24 مايو 2014
في الخيم الزراعية قرب الحدود (عبد الرحمن عرابي)
+ الخط -
لا تختلف الأرض عن الأرض. التراب ذاته هنا وهناك. لا تأبه مياه الأمطار للأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة التي يزرعها جيش الاحتلال الإسرائيلي. تنتقل من الجهة اللبنانية إلى الفلسطينية والعكس. تماماً، كالأحصنة البرية التي تجول في النقطة الحدودية بين لبنان وفلسطين وسوريا. لا تُغيّر السياسة الجغرافيا. الإنسان يفعل ذلك.
أيّام بعد تحرير الجنوب اللبناني في مايو/ أيار 2000، بدأ زوار الأرض المحررة يسألون: لماذا أرضنا جرداء وأرضهم خضراء؟ الجغرافيا هي نفسها، فما المبرر؟ تغيّر المشهد اليوم.
يُمكن لزائر الجنوب اللبناني أن يكتشف الفارق. الأرض لم تعد جرداء. تغطي بساتين الخضار وأشجار الفواكه مساحة كبيرة من المنطقة الحدودية، وخصوصاً في قضاء مرجعيون.

قد يكون لأصحاب الأراضي فضل وجرأة في إقامة هذه المشاريع في مناطق محاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، لكن الفضل الأكبر يعود بكل تأكيد للعمال السوريين المنتشرين بأعداد كبيرة في المنطقة.
بعد انطلاق الثورة السورية، نزح المئات من العمال الزراعيين السوريين المهرة، خصوصاً من منطقة مشاريع القاع نحو الجنوب. يسكن هؤلاء مع عائلاتهم في خيم، تحوّلت إلى مخيمات صغيرة.



يقول أبو محمد، الذي يعمل في أحد المشاريع في منطقة الوزاني الحدوديّة، إنه يعمل مع عائلته. أجوبة أبو محمد مختصرة وحذرة. يسأل عمّا إذا كنا قد حصلنا على إذن من حزب الله والجيش اللبناني للتصوير. يتردد كثيراً بين رغبته في التخلّص من زوار لا يرغب فيهم، لأنه يُريد الابتعاد عن الكاميرا، وبين عاداته وتقاليده التي تقول باحترام الضيف. تظهر خلف أبو محمد خلال شرحه عن المزروعات، شعارات مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة على الخيم التي تعيش فيها عائلته.

يؤكّد سمير غفري، أحد المزارعين القلائل المتبقين في مرجعيون، هذا الأمر. يقول الرجل الستيني إن اللاجئين السوريين استطاعوا نقل خبراتهم الزراعية إلى المنطقة. الأهم بالنسبة له، أن أجر هؤلاء منخفض، خصوصاً أن كثيرين منهم لا يريدون أكثر من ملجأ لهم ولعائلاتهم. سمح هذا الأمر بعودة الزراعة إلى سهول قضاء مرجعيون. في المنطقة العقارية لجديدة مرجعيون (مركز القضاء) يوجد مخيم يضم نحو ألفي شخص، يعمل معظمهم في الزراعة.

يتشابه هذا الأمر، مع الثورة الزراعية التي قام بها العمال الزراعيون الفلسطينيون بعد النكبة في الساحل الجنوبي، خصوصاً في بساتين الحمضيات.

نزوح سكاني

لا يشمل التغيير الذي حصل على المستوى الزراعي، عدد السكان، إذ لا يزال عدد المقيمين في المنطقة بتناقص مستمر. نزح العديد من أبناء الشريط الحدودي عن بلداتهم باتجاه المدن الساحليّة وبيروت لأسباب عديدة، من أبرزها الهرب من التجنيد الإجباري الذي كان يفرضه جيش لحد (الميليشيا التي قاتلت إلى جانب الجيش الإسرائيلي خلال فترة الاحتلال).
استمر الأمر على حاله بعد 14 عاماً من التحرير. يقول عضو بلدية جديدة مرجعيون، حسان عبلا، لـ"العربي الجديد"، في وصف حالة مدينته، إنها "مدينة عَجَزة". فهذه المدينة التي أدّت دوراً أساسياً في التجارة بين لبنان وفلسطين وسورية قبل عام 1948، باتت كجرد مقفر اليوم.
في ذلك الوقت، كان عدد القاطنين فيها نحو 13000. اليوم يبلغ عدد القاطنين نحو 1300 فقط. بعد 66 عاماً خسرت المدينة نحو 90 في المئة من المقيمين فيها. لهذا الأمر أسبابه: سوق مرجعيون الشهير، لم يعد موجوداً. أوقف العمل به بعد الاعتداء الذي حصل على قوات اليونيفيل عام 2007. قبل العام 1975، كان هناك في مرجعيون دار للسينما، وسوق للخياطين، وسوق لمصلحي الأحذية وعدد من ورش الأثاث والمفروشات. كل هذا غير موجود حالياً. في سبعينات القرن الماضي، ساهم الجيش اللبناني بتفعيل الحركة الاقتصادية عبر إسكان حوالى 600 عنصر مع عائلاتهم في المدينة. خلق هؤلاء دورة اقتصادية، وساهموا مع السوق التجاري الكبير، في جعل المدينة مركز قضاء يضم 39 بلدة.

يُشير عبلا، إلى أنه في فترة الاحتلال الإسرائيلي، أدى جيش لحد هذا الدور، إضافة إلى نحو 700 عائلة لجأت من قرى شرقي صيدا إلى مرجعيون. كانت المدينة عاصمة اقتصادية للمنطقة المحتلة. عمل الآلاف من سكان بلدات الشريط الحدودي في إسرائيل. يُقدّر أبناء الشريط الدخل الشهري لهؤلاء بأكثر من خمسين مليون دولار. توقفت هذه الدورة الاقتصادية بعد التحرير. كما ارتفعت الأسعار بشكلٍ كبير، بسبب الفارق بين الأسعار في لبنان وفي إسرائيل. سعر ليتر البنزين تضاعف نحو ثماني مرات بعد التحرير.

لا يختلف هذا الواقع في بلدتي الخيام أو بنت جبيل في منطقة الشريط الحدودي. يعيش في الخيام بين 3000 و4000 شخص، من أصل عدد السكان الذي يصل إلى نحو 30 ألفاً. ويعيش في بنت جبيل 4000 من أصل 45 ألف نسمة.

لم تقم الدولة اللبنانيّة بدورها في تعزيز اقتصاد المنطقة. عاملتها كما تُعامل الريف اللبناني في البقاع وفي الشمال. الريف مجرد مصدر للعمالة النازحة صوب العاصمة بيروت.

السياحة: تراجع خارجي وتحسّن داخلي

يشكو عدد من أصحاب المحال السياحيّة في الشريط الحدودي من غياب السياح الخليجيين، في السنوات الأخيرة. كما أن الجيش الإسرائيلي أنشأ جداراً عازلاً على الحدود. لم يعد بالإمكان استفزاز جنوده. يقول صاحب أحد المطاعم بالقرب من "بوابة فاطمة" الحدودية، وقد رفض ذكر اسمه، إن هذين السببين أديا إلى تراجع حاد في الحركة السياحية.
في المقابل، تنشط حركة سياحيّة في نقاط محدودة. حديقة مارون الرأس مثال بارز. كذلك المشروع السياحي الذي أقيم في النقطة الحدودية بين لبنان وسوريا وفلسطين عند نهر الوزاني. يقول مدير مشروع "قرية حصن الوزاني" إن الطاولات تُحجز مسبقاً لأيام نهاية الأسبوع، كذلك الغرف الفندقية. لا يُسمع هذا الكلام في أماكن كثيرة في المنطقة الحدودية. أصلاً، يُمكن لأي زائر أن يكتشف هذا التراجع بعينه، عندما يرى معظم الطاولات في المطاعم غير مشغولة.

اليونيفيل... "باب رزق"

تُشكّل قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) واحداً من أهم المصادر الاقتصاديّة، إذ يوجد نحو 12 ألف جندي يُساندهم نحو ألف موظف مدني. ويُشارك هؤلاء في الحركة الاقتصادية على المستوى السياحي والتجاري، إضافةً إلى المشاريع التنموية التي تنفذها هذه القوات في البلدات الواقعة ضمن عملها.

تأييد مطلق لحزب الله

يقول الجنوبيّون إنهم لا يلومون جميع الذين تعاملوا مع إسرائيل خلال الاحتلال. يجدون التبرير لجزء كبير منهم. يروي أبناء المنطقة الحدوديّة، كيف كان يُفرض التجنيد الإجباري على الشبان، ورفض ذلك كان يعني السجن. ويروي هؤلاء كيف فتحت إسرائيل أبوابها للعمال اللبنانيين في الزراعة والصناعة وفي فنادق حيفا وملاهيها الليلية. ويقول هؤلاء إن هذا ثمناً دفعه كل مَن بقي في أرضه. أما البعض الآخر، فيقولون إن العمالة لا يُمكن أن تُبرّر.
في النتيجة، ذهب الاحتلال وبقي الناس. صدرت أحكام مخفّفة بحق العملاء، ومنهم مَن لم يُقدّم إلى القضاء حتى. استطاع حزب الله استيعاب جزء كبير منهم. تُروى في الجنوب قصص كثيرة من هذا النوع. أبناء بعض العملاء السابقين، باتوا مقاتلين في الحزب. بالطبع، حصل هذا الأمر بعد "توبة" هؤلاء، و"اهتدائهم إلى الطريق القويم".
استطاع حزب الله أن يكسب ثقة الغالبية من الناس جنوباً. كيف لا، وهو مَن رفع راية التحرير. ثم خاض حرباً شرسة في يوليو/ تموز 2006، وأعيد بناء كلّ ما دُمّر، لا بل أكثر مما دُمّر. ويرتبط سكّان المنطقة الحدوديّة بشبكة علاقات اجتماعية وسياسيّة واقتصادية تربطهم بحزب الله وحركة أمل. ففي غياب الدولة عن المنطقة على مختلف المستويات، تُركت الساحة خالية للأحزاب القادرة مالياً.
يُترجم هذا الولاء السياسي في حالات كثيرة. فعندما يرغب حزب الله في توجيه رسائل سياسيّة لقوات الأمم المتحدة (اليونيفيل)، فإنه يرسل هذه الرسائل عبر "الأهالي". كل فترة، يحدث "إشكال" بين "الأهالي" واليونيفيل، فيتولى المسؤولون المحليون في حزب الله حلّه.

في المقابل، توجد قلّة تختلف مع حزب الله، وتكاد تكون مشاركة الحزب في القتال بسورية، أبرز عنوان خلافي مع حزب الله. لكن هناك عناوين أخرى. يروي أسرى محررون كيف يتم تهميشهم عن احتفالات التحرير، لأنهم مختلفون سياسياً مع حزب الله. ربما كان أكثر موقف معبّر، هو ترشّح الأسير الشيوعي المحرر، أنور ياسين، ضد لائحة حزب الله وحركة أمل في انتخابات 2005. فرُفع حينها شعار أن التصويت للائحة حزب الله وأمل هو تصويت لخيار المقاومة. بكلام آخر، كل مَن ليس معنا، فهو ضد المقاومة.
بعد 14 عاماً على تحرير الجنوب، لا تزال الكاميرا كفيلة باستفزاز الجميع هنا. دقائق من تصوير مستعمرة المطلة، كانت كفيلة بأن يستنفر الجيش الإسرائيلي عسكره، وتبدأ الاتصالات مع "اليونيفيل" التي أرسلت دورية، تبعتها دورية لأحد الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة. صورت الكاميرا. استفز الإسرائيلي. وبقي وضع الجنوبيّين على حاله.

المساهمون