الجميلة التي لم تكسرها الحرب

الجميلة التي لم تكسرها الحرب

23 يوليو 2020
+ الخط -

توقفت الحافلة عند المنطقة الحدودية بين اليمن والسعودية، يعلو صوت السائق: "هنا تبدأ رحلة الانتظار"، لا أحد يعلم على وجه اليقين كم من الوقت، قد لا يطول الانتظار أكثر من ساعة، وقد يمتد عدة أيام. 
أدخلنا السائق ومساعده إلى حجرة ضيقة قذرة، تعلو مطعماً أشد قذارة. خالية من أي أثاث عدا بساط مهترئ تتكدس فوقه النساء والأطفال. اتكأتُ على حافة النافذة، أغمضتُ عينيّ وأسندتُ رأسي إلى الجدار، كان كل شيء يصطخبُ في رأسي، برودة الطقس ممزوجة بروائح الطعام المنبعثة من المطعم، الأرضية اللزجة، الجدران التي تقشّر طلاؤها، صخب الأطفال يختلط مع ثرثرة النساء. الانتظار المفتوح على جميع الاحتمالات. فتحتُ عيني فلمحتها، فتاة سمراء لا تتجاوز الحادية عشرة، تنتقل بخفة في زوايا الحجرة، تنظّف وتقدم الطعام، ترتدي عباءة ممزقة استحالت إلى لون الرماد، تغطي شعرها بمنديل ملون، وحقيبة صغيرة تلتف حول جسدها النحيل. 

الصورة
نازحة يمنية (جميلة عبده قائد)

راقبتها بهدوء، رحماك يا إلهي، ها هي طفلة بائسة جديدة، استعرضتُ في ذهني المنهك صنوف الاستغلال الذي يمكن أن تتعرض له تلك الطفلة، بل وربما تعرضت له بالفعل، حين التفتتْ كان في عينيها شيء ما شدّني إليهما، لم تكن منطفئة بالبؤس المبرر في مثل حالها، ولا بالحزن المقيم عادة في عيون الأطفال المنكسرين.

لم أر دموعًا توقعتها تلمع في عينيها،كان  فيهما بريقٌ مختلفٌ، ابتسمتُ لها،  تأملتني لثوانٍ، شجعتها ابتسامتي فاقتربت. وقفتْ لصق الجدار، رفعتْ ذقنها وأرختْ عينيها. 
سألتها: ما اسمك؟ ردت بصوت قوي النبرات:  جميلة عبده قائد.

من أين أنت يا جميلة ؟: من ذمار. 

يشغلني مصيرها، غير أن الوميض في عينيها ونظراتها التي تفيض بصلابة الإرادة يطمئن هواجسي 

 

وكيف جئت إلى هنا ومع من؟، لتبدأ بسرد حكايتها بصوت ثابت كيف فقدت والديها في الحرب، وكيف ظلّت تهيم في الطرقات إلى أن أحضرها مالك المطعم إلى منزله بعد أن كاد يصدمها بسيارته. وهي الآن تعيش مع أسرته وتعمل في مطعمه. يوفّر لها وجبات مقتصدة  مقابل عملها.
 سألتها: أين تنام؟ ومع من؟ قالت أنها تتشارك حجرة مع بناته الصغيرات. 
- هل يدخل إلى حجرتكم ليلًا؟، ردت: لا 
- هل ……، ترددتُ قليلًا في طرح السؤال، خفت من الجواب. 
- هل لمسك في أي جزء من جسدك؟ رفعت إلي عينيها وهتفتْ: لا يجرؤ ، سأضربه بهذا، وأشارت إلى حذائها. 

حدّة جوابها جعلتني أوقن أنها أكثر صلابة مما توقعت. ثمة قوة تشعّ من تلك الصغيرة الواقفة جواري. 
أعطيتها بعض النقود، قالت إنها المرة الأولى التي تمتلك فيها مالًا، سألتها ماذا ستشتري بها، هزّت رأسها نافية، لا.. سأخبئها، أريد أن أدرس. 

لم تتلق أي قدر من التعليم في حياتها، بيد أنها على يقين من أنها ستتعلم يوماً ما: سألتحق بالمدرسة، قالت مؤكدة. 

لا أدري أي نوع من الخطط لديها، أؤمن أن في ذهنها صورة لمستقبل ترسم خطاه بهدوء وإصرار عنيد. حديثها عن التعليم اجتذب فتاة تجلس قربي. أعطتها بدورها بعض النقود وقطعة حلوى. شدّت على يديها هامسة: لا تتخلي أبدًا عن حلمك هذا.  أثرنا فضول من حولنا، تركزّت عليها نظرات مستطلعة، بدت سعيدة بالتفات الأنظار إليها. ابتسمتْ للمرة الأولى.
استأذنتها كي آخذ صورة لها. ابتسمتْ ورحّبت موافقة، قلت لها: قد أكتب عنكِ، أحكي للناس قصتك، هل يروق لك هذا؟. هزت رأسها بسعادة: نعم يروق لي كثيراً.
تناهى إلي صوت سائق الحافلة ينادي الركاب للتجمع، تنطلق الرحلة بعد قليل، يحسن بي أن أغادر. ودّعتها، وأوصيتها أن تعتني بنفسها جيدًا، أن تظل محتفظة بقوة لا تنكسر على مدى العمر.  
مر عام ونصف لا أعلم عنها شيئًا.كيف هي الآن؟ ما حالها يا ترى؟ 
لا يكاد يمر يوم دون أن ترد على خاطري. يشغلني مصيرها، غير أن الوميض في عينيها ونظراتها التي تفيض بصلابة الإرادة يطمئن هواجسي. 
أرجو أن تكوني بخير أيتها الجميلة. 

صفاء ناصر
صفاء ناصر
صحافية وكاتبة يمنية