الجدّة الحكيمة

الجدّة الحكيمة

01 يناير 2018
الفطرة هي حكمة الجدة الملموسة (فابريس كوفريني/ فرانس برس)
+ الخط -
كانت الجدّة أمّ كامل، ابنة الجنوب اللبناني، سيّدة طيّبة بسيطة، ومكافحة صلبة شغوفة بالحياة ومحبّة للأطفال. جمعتْ حسن الإدارة العائلية إلى معرفة فطرية عميقة راكمتها عبر تجربة ارتبطت ارتباطاً مباشراً بالأرض وخيراتها، وبالعمل الدؤوب طيلة عقود طويلة في منطقةٍ عانت الفقر والإهمال.

على الرغم من أنّ الجدّة لم تكن تلمّ بالقراءة والكتابة، مثل كثيرات من بنات جيلها، كان في مخزونها المعرفي الوجداني من الأغاني والمواويل والقصص والأمثال الشعبية ما يملأ مكتبة كاملة. كانت مكتبتها هذه في رأسها وقلبها، تنمو سنة بعد سنة، وكان من السهل نقل معارفها وخبراتها إلى أبنائها وأحفادها. لم يكن النقل بحاجة إلى نموذج ولا مدرسة. كان بيت العائلة بلقاءاته وسهراته ومشاغله وبقصصها التي كانت تستمتع بسردها على الزائرين، نوعاً من مدرسة أليفة، تنتقل فيها الذاكرة مع الخبرة من جيل إلى آخر.

أتقنت الحاجّة أمّ كامل فنون المساومة والتفاوض والحساب وبناء العلاقات، حتى أنّها كانت تتباهى بالسعر المنخفض الذي تتوصّل إليه بعد نقاش طويل مع بائع أو موظف بنك.
لم تسمع الجدّة يوماً بالأمم المتحدة، ولا بمجلس الأمن، كما أنّها لم تكن تعرف شيئاً عن التنمية المستدامة ولا عن أهدافها، لكنّها حققت الهدف الخامس المتعلق بالمساواة بين الجنسَين (من أهداف التنمية المستدامة) من دون أن تدري أو تخطط له. كانت فطرتها هي الحكمة الملموسة في سلوكها وتصرّفاتها وقراراتها. لم تكن لها المساواة ولا حتى العدالة هاجساً تذكّر به زوجها أبا كامل مع بزوغ فجر كلّ يوم، لكنّها فرضت عليه أن يعاملها كندّ له وقرينٍ مساوٍ يتشاركان الحب وتعب العمل. كانا صديقَين في حياتهما، وبقيا في مماتهما راقدَين جنباً إلى جنب.

الصبورة على المحن والراضية الشاكرة النعم، حاكت هي وزوجها قصة حب مميزة. كانت تنتظره في صباها طويلاً حتى يعود من عمله عتّالاً في مرفأ عكا، وهي تغنّي له "يا أوتومبيل الرايح ع عكا/ خدلي هالمكتوب جبلي جوابو/ أمانة سلم ع محمد حسن/ وقلو يبعتلا قطعة من تيابو/ ما بدها بدلة ولا بدا كبوت/ ما بدا إلا حضرة جنابو". وبصوتها الحنون كانت تغني "يا حادي العيس سلّملي على أمي، واحكيلها عاللي جرى واشكيلها همي... يا حادي العيس قول للغايبين يلفوا وعيوننا السود من كتر التعب تلفوا...".

ما زرعت الجدة أمّ كامل نبتة أو شجرة أو شتلة ولم تنبت وتزهر وتثمر، من البطيخ والشمام والبندورة والخيار والمقتا وسائر الخضار والفواكه إلى أجمل الزهور والأشجار، وكانت بذلك تساهم في تحسين الإنتاجية الزراعية البسيطة، تلك التي تُسمَّى الآن بالشركات العائلية، من دون أن يتطلّب ذلك استراتيجيات حكومية تصرف من أجلها مبالغ طائلة.

المساهمون