الجاسوس المصري في برلين: فضح لممارسات النظام ضد الفارين

الجاسوس المصري في برلين: فضح لممارسات النظام ضد الفارين

11 يوليو 2020
التفاهم بين ميركل والسيسي ازداد في السنوات الماضية (الأناضول)
+ الخط -

جاء إعلان هيئة حماية الدستور التابعة لوزارة الداخلية الألمانية في تقريرها السنوي عن اكتشاف عميل لجهاز أمني مصري في المكتب الإعلامي الاتحادي للمستشارة أنجيلا ميركل، ليقدّم دليلاً قاطعاً على الممارسات التي عكف النظام المصري عليها منذ انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 بتكريس أموال طائلة وجهود متواصلة في الدول الأوروبية والعربية وتحديداً العواصم التي تقيم فيها جاليات مصرية كبيرة، لمراقبة المواطنين المصريين المقيمين في الخارج حتى ولو تخلوا عن الجنسية المصرية، وتحركاتهم واتصالاتهم. الأمر الذي كان ينكشف دوماً في صورة اعتقال النظام لنشطاء مصريين بعد عودتهم إلى مصر، أكان على سبيل العودة النهائية أو الزيارة، وكذلك في الضغوط التي تمارس على ذويهم داخل مصر لأغراض مختلفة.

وسلّطت صحيفة "بيلد" الألمانية الضوء على التقرير، الذي تم تقديمه رسمياً أول من أمس، الخميس، في إشارته إلى مصر، وحصلت على تأكيد من مصدر في الادعاء العام على استمرار التحقيقات منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وأن المتحدث باسم الحكومة الألمانية ماركوس شرايبر هو من أبلغ عن العميل الذي ما زال في طور الاشتباه، لكن شرايبر ومكتبه رفضا تماماً التعليق على الواقعة، باعتبارها ما زالت محل تحقيق. وحصلت "العربي الجديد" على النص الكامل لتقرير هيئة حماية الدستور، واتضح أنها ذكرت معلومة تجنيد "جهاز أمني مصري لموظف بالخدمة الإعلامية للمستشارية الألمانية"، على سبيل المثال، لأنشطة أخرى يقوم بها جهاز المخابرات العامة (الفرع الدولي) وجهاز الأمن الوطني التابع لوزارة الداخلية، داخل ألمانيا، لتحقيق "هدف رئيسي" هو "جمع أكبر قدر من المعلومات عن المعارضين المصريين الذين يعيشون في ألمانيا، خصوصاً المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، والنشطاء السياسيين من أصول مصرية، وأفراد الجالية المسيحية القبطية". وأضاف التقرير أن "مصر تعمل على تجنيد مواطنين مصريين أو من أصول مصرية يعيشون في ألمانيا للحصول على المعلومات، كما يتم استخدام البيانات التي يتم تسجيلها لدى البعثات الدبلوماسية المصرية وخلال رحلات المواطنين إلى مصر لأغراض استخباراتية".

 

منذ عام 2014، تتبادل الدولتان الخدمات المعلوماتية والخبرات الأمنية

 

ثم أورد التقرير كدليل على هذه الظاهرة معلومة مفادها أنه "تم اكتشاف الموظف في الخدمة الإعلامية والصحافية للمستشارية الاتحادية من قبل المدعي العام، وتم القبض عليه بواسطة الشرطة الاتحادية، وقيل إنه عمل لصالح جهاز معلوماتي أمني مصري لعدة سنوات، وأن التحقيق ما زال مستمراً"، ما يعني أن نتائج التحقيق لم تصل بعد إلى القضاء أو هيئة حماية الدستور. وفي التقرير أيضاً أشارت الهيئة إلى أن "لمصر تقاليد عريقة في مكافحة الإسلام السياسي والإرهاب الإسلامي"، وأن جماعة "الإخوان المسلمين" (التي يذكر التقرير أن لها أكثر من 1600 عضو في ألمانيا) تعتبر جماعة إرهابية في مصر وهدفاً أساسياً للأجهزة الأمنية، وأن أعضاءها ومؤيديها والمتعاطفين معها يتعرضون للاضطهاد والاعتقال وكذلك لأحكام الإعدام.

وبينما التزمت القاهرة وبرلين الصمت التام إزاء تلك المعلومات، التي لم تكن لتكشف إلا من خلال التقرير السنوي لحماية الدستور، كما امتنع مكتب ميركل عن توضيح أي بيانات عن الشخص المشتبه به أو أصوله، قال مصدر دبلوماسي مصري في ديوان وزارة الخارجية، لـ"العربي الجديد"، إن "العلاقات بين القاهرة وبرلين لم تتأثر في الأشهر الستة الماضية بسبب تلك الواقعة تحديداً، ولكن كانت هناك العديد من النقاط الخلافية خصوصاً حول الشأن الحقوقي والأوضاع في ليبيا، لكنها لم تؤثر بالسلب على ملفين مهمين".

أولهما يرتبط بالواقعة بشكل مباشر وهو التعاون الأمني المتطور بين البلدين، لا سيما في مجال مراقبة "الإسلاميين الشرق أوسطيين" الذين ينشطون في أوروبا والإسلاميين المتطرفين الألمان الذين يفدون إلى مصر ودول المنطقة والحد من الهجرة غير الشرعية، على الرغم من أن برلين كان لها موقف محافظ إزاء الأفكار التي طرحت بين القاهرة وفيينا وروما في العامين الماضيين لتحويل مصر إلى محطة لاستقبال اللاجئين وإعادة تأهيلهم وتوزيعهم على دولهم، باتفاق طويل الأجل مدعوم من الاتحاد الأوروبي.

ووفق هذا التنسيق المتطور منذ عام 2014، تتبادل الدولتان الخدمات المعلوماتية والخبرات الأمنية، فألمانيا على رأس الدول التي قدمت لمصر خدمات تدريب أمنية عالية المستوى بعد الإطاحة بحكم جماعة "الإخوان"، على مراحل بين عامي 2014 و2015، على الرغم من اعتراض دوائر واسعة داخل الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم بزعامة ميركل، وكذلك اعتراض الوزراء اليساريين في حكومتها على منح مصر أي أفضليات بسبب سجلها السيئ في حقوق الإنسان، وعدم وضوح نوايا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ذلك الوقت.

لكن بعد زيارة السيسي الأولى إلى برلين في 2015، واعتراف ميركل رسمياً بشرعيته السياسية وتوطيد العلاقات الاقتصادية في ما بعد بزيارتها للقاهرة وعقد صفقة إنشاء مولدات الكهرباء العملاقة لشركة "سيمنز" في مصر، أخذ التعاون الأمني مساراً آخر أكثر عمقاً باتجاه العمل المشترك على تبادل المعلومات حول قيادات المجموعات الإسلامية، في ظل رغبة الأجهزة الألمانية في الحصول على معلومات دقيقة عن طبيعة الفوارق السياسية والشرعية بين تلك المجموعات كـ"الإخوان المسلمين" "وداعش" و"القاعدة" والسلفية الوهابية التقليدية، حتى تستطيع التعامل مع الطيف المتنوع من المسلمين الذي نزح إلى ألمانيا عن طريق اللجوء، خصوصاً من سورية أو ليبيا. وبسبب انخراط بعض المنظمات الإسلامية الألمانية في اتصالات مع بعض التيارات الإسلامية في المنطقة العربية، خلال السنوات الأولى من فترة الربيع العربي، حصلت الأجهزة الألمانية، ممثلة في الشرطة والاستخبارات، على كم كثيف من المعلومات من الأجهزة المصرية.

وتعمّق التنسيق الأمني بعد تعيين المتحدث السابق باسم الخارجية المصرية، بدر عبد العاطي، سفيراً في برلين، وهو المعروف بعلاقته الوطيدة بالأجهزة الأمنية، فبات عبد العاطي ومعه عدد من ضباط الاستخبارات في السفارة نقطة الاتصال الرئيسية بين الأجهزة الأمنية في البلدين. وفي المقابل، أظهرت ألمانيا تغيراً تدريجياً في سياستها المتساهلة في استضافة اللاجئين، بهدف تقليص أعدادهم بصورة عامة، وجعل الأولوية للدول غير المستقرة تماماً كسورية وليبيا، ومن ثم تصعيب شروط اللجوء السياسي من مصر، وزيادة القيود على استضافة المصريين الآتين من مصر، وبدرجة أقل الآتين من دول عربية أو أجنبية للعمل والدراسة وحتى السياحة.

 

خلال الربع الأول من العام الحالي فقط باعت ألمانيا أسلحة لمصر بقيمة 308 ملايين يورو

 


وفي عهد عبد العاطي الذي امتد لخمس سنوات، راجت بشدة أنباء عن توسع السفارة المصرية في متابعة أنشطة المصريين الذين سافروا إلى ألمانيا بعد 2013 ورصدهم والمساعدة في اعتقالهم بمصر أو التنكيل بهم في ألمانيا. ولعل الواقعة الأشهر كانت اعتقال الباحث إسماعيل الإسكندراني في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 وهو عائد إلى مصر، بعد أشهر معدودة من تسلم عبد العاطي منصبه، وتبين من أوراق قضيته أنه خضع لمتابعة أمنية لصيقة لأنشطته البحثية خارج مصر. كما تم اعتقال عدد كبير من العائدين من رحلات قصيرة وطويلة لألمانيا خلال الفترة نفسها بسبب أنشطتهم هناك.

وفي مارس/ آذار 2018، رحّلت السلطات الألمانية عدداً من المصريين، بينهم بعض طالبي اللجوء السياسي بسبب الاضطهاد الديني، إلى القاهرة، بعدما كانت سياسة الترحيل المباشر غير متبعة إلا مع بعض دول شرق أوروبا وتركيا، في بعض الفترات، نتيجة زيادة أعداد المهاجرين غير الشرعيين. فالسلطات الألمانية عادة كانت تتسامح مع استضافة اللاجئين لأسباب دينية وسياسية من دول أفريقية وإسلامية، وهو ما أكد تغيير تصنيف ألمانيا لمصر واختلاف تعاملها مع النظام الحاكم.

وفي يناير/ كانون الثاني 2019 ونتيجة التنسيق الأمني بين البلدين أيضاً، تنازل المواطن الألماني من أصل مصري محمود محمد عبد العزيز عن الجنسية المصرية ليتمكّن من الحصول على قرار ترحيل إلى ألمانيا، بعد احتجاز استمر نحو أسبوعين بشبهة انتمائه لتنظيم "داعش". أما زميله الألماني الآخر عيسى الصباغ، فكان حظه أفضل نسبياً، إذ تم اعتباره متنازلاً عن الجنسية المصرية تبعاً لتنازل والده عنها عام 2007 ليبقى متمتعاً بالجنسية الألمانية وحدها، لكونه قاصراً، لتتخذ إجراءات ترحيله إلى برلين أيضاً.

أما الملف الثاني الذي لم يُصبه أي ضرر فهو التسليح، فقبل ساعات معدودة من صدور تقرير حماية الدستور متضمناً تلك الفقرة الفاضحة لممارسات النظام المصري، أبلغ وزير الاقتصاد الألماني البرلمان بموافقة مجلس الأمن الاتحادي على تصدير غواصة رابعة لمصر وسط انتقادات سياسية وحقوقية من أحزاب وقوى مختلفة ووسائل إعلام. وهي ثاني غواصة ستتسلمها مصر في عام واحد من طراز "أس 34" (209/1400) بعد التي تسلمتها في إبريل/ نيسان الماضي.
وخلال الربع الأول من العام الحالي فقط باعت ألمانيا أسلحة لمصر بقيمة 308 ملايين يورو، وبإضافة الغواصة الرابعة وبعض الصفقات الأخرى المحتملة قبل نهاية العام، بحسب المصدر المصري، بالتوازي مع صفقات بحرية أخرى من إيطاليا وفرنسا، فإن قيمة الاستيراد مرشحة للزيادة عن العام الماضي. ففي عام 2019 اشترت مصر أسلحة من ألمانيا بقيمة 801 مليون و847 ألف يورو، متفوقة على بريطانيا والولايات المتحدة والجزائر وكوريا وأستراليا وقطر، وجاءت فقط خلف المجر التي اشترت أسلحة بقيمة مليار و769 مليوناً و869 ألف يورو، في إطار خطة رئيس الوزراء اليميني فيكتور أوربان، الذي تجمعه علاقة وطيدة بالسيسي، لتحديث الجيش المجري.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وخلال استقباله وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، تحدث السيسي عن أهمية المضي قدماً في إصدار الحكومة الاتحادية أذون التصدير لمصر من شركات السلاح في مختلف الولايات الألمانية، علماً أن بعض طلبات الشراء قوبلت بالرفض من برلين، بسبب تقارير استخباراتية ألمانية عن عدم وضوح سبب شراء مصر تلك الأسلحة، أو الاشتباه في إعادة تصديرها لدول محظورة أو استخدامها في اليمن وليبيا.

وعلى الرغم من تأكيد حكومة ميركل ضرورة الحفاظ على العلاقة الخاصة بمصر شريكاً استراتيجياً، لا سيما على المستويين الاقتصادي والإقليمي، إلا أن ماس في تلك الزيارة وجه انتقادات معتادة من المسؤولين الأوروبيين عموماً والألمان خصوصاً، بشأن حالة حقوق الإنسان والتعامل الأمني الغاشم مع المعارضة والمتظاهرين، وصرح بأنه "من الضروري للمصريين أن يتنفسوا نسائم الحرية".

وفي يناير الماضي، طفت الأوضاع الحقوقية في مصر إلى سطح الجدل العام، بعدما منحت دار أوبرا دريسدن وسام "القديس جورج" للسيسي، نهاية الشهر الماضي، بحجة أنه "حامل للأمل ومشجع لقارة أفريقيا بكاملها". وهو ما يعكس انقسام الدوائر الألمانية الرئيسية حول أهمية التعامل مع السيسي باعتباره رئيساً لبلد بحجم مصر، على الرغم من كل الملاحظات السلبية على سجله الحقوقي والسياسي. وأدت المعارضة السياسية لقرار الأوبرا إلى إعلانها التراجع عن منح السيسي وسامها بعدما سلمته إياه باحتفالية في القصر الرئاسي بالقاهرة.

المساهمون