الثقافة في مواجهة السرديات الصهيونية

الثقافة في مواجهة السرديات الصهيونية

28 فبراير 2016
(غرافيتي من غزة)
+ الخط -

"أفهم ماذا تقول، ولكن "إسرائيل" لها حقٌّ في الوجود وحقّ في جلب اليهود من كل العالم ولها الحق في الدفاع عن نفسها، فهم لهم تاريخ طويل في هذه الأرض". هذه كلمات بروفيسور أوروبي في إحدى حلقات النقاش التي لا تنتهي حول الصراع العربي الاسرائيلي.

للأسف، هناك العشرات من الفلسطينيين والعرب الذين يتبنّون هذا الخطاب المتأسرل، والذي يجافي الحقيقة والمنهج العلمي الصحيح في المحاججة المبنية على حقائق علمية. لا يمكن إغفال الواقع بأن عملية أسرلة للخطاب الأوروبي لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة تعبئة إسرائيلية ويهودية صهيونة كبيرة في مراكز البحث العلمي والجامعات الغربية وخصوصاً الأميركية.

فالرواية التاريخية الحقيقية أُسرلت علمياً عبر أدوات اللوبي الصهيوني ومراكز البحث المدعومة إسرائيلياً ويهودياً في الغرب. وليس ببعيد عنّا فصل الأكاديمي الفلسطيني الأصل ستيفين سلايطة، البروفسور في جامعة أميركية، بسبب تغريدة كتبها دعماً لأطفال غزة وانتقاداً للعدوان الإسرائيلي عليها سنة 2014.

فُصل بعد أن قرّرت رئيسة الجامعة أن التغريدة سوف تؤثّر على مستوى الدعم المالي لإحدى المؤسّسات اليهودية للجامعة. ولم تقف الأمور عند ذلك الحد، إذ قامت جمعيات الحريات الأكاديمية بمقاطعة الجامعة وأجبرت رئيستها على الاستقالة وحكمت المحكمة للفلسطيني سلايطة بالتعويض والعودة إلى العمل.

هذه إحدى صور المقاومة الثقافية ورفض السردية الإسرائيلية المفروضة على العالم الغربي والمضمار الثقافي الغربي في أوروبا وأميركا.

وفي ظل الهبّة الشعبية ضد الوجود الاحتلالي والممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلّة، لا بد من مراجعات لأساليب النضال الفلسطيني فى الداخل والخارج وتضافر الجهود الفلسطينية، خصوصاً جهود المثقّفين، لشرعنة الهبّة الجماهيرية عبر رفض السردية الإسرائيلية بشكل علمي وأكاديمي، ومحاججات واقعية.

لقد فعل إدوارد سعيد ذلك من قبل، في خضم الدعم الغربي الأميركي والأوروبي لـ"إسرائيل"، وتلقّى تهديدات عديدة بالقتل في مكتبه الجامعي وبيته. لكن في ظل هذه الظروف والتطوّر التكنولوجي الذي جعل الوصول إلى القارئ الغربي سهلاً جدّاً، مع تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن شرعنة النضال الفلسطيني تحتاج القلم الفلسطيني لمقاومة السردية الإسرائيلية وكشف زيفها، وهذا ما حدث مع حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل، والتي تحاول حكومات الغرب وقفها وتجريمها.

إن أسرلة السردية التاريخية هي جزء من الاستيلاء الثقافي الواسع على فلسطين وعلى تراثها ومحتوياتها المحسوسة وغير المحسوسة. فمجرّد وجود سردية صهيونية إسرائيلية في الغرب، هو نتاج ضعف وجود السردية المقابلة المدعومة بالأدلّة والبراهين والحجج.

عملية الاستيلاء الثقافي تُعرَف على أنها استخدام الرموز، الآثار، الفنون، الطقوس التاريخية والعادات والملابس والتكنولوجيا وكل ما أنتجته وتنتجه التركيبة الثقافية في أرض مجموعة ما من قبل مجموعة أُخرى غير تلك المجموعة التي تمتلك أحقيتها وأحقية إنتاجها على تلك الأرض.

ويقول عالم الإنسانيات ريتشار روجرز أن الاستيلاء الثقافي هو جزء من عملية سياسية معقّدة للاستيلاء السياسي والأرضي (territorial) على شعب محتلّ، في محاولة لطمس ثقافته أو أحقيّته التاريخية في ملكية تلك الأراضي أو الرموز والتاريخ والآثار والفنون.

ولكن هذا التعريف يمكن توسعته على أساس أن مقاومة السردية التاريخية الحقيقية لجماعة تقع ضمن عملية الاستيلاء الثقافي. وهذا ينطبق على دولة الاحتلال وأذرعها في الخارج والتي تحاول منذ أكثر من ستّين عاماً إثبات أن فلسطين أرضهم، وأن الفلسطينيين جماعات إرهابية تارة، وشعب غير موجود تارة أخرى.

وعلى مدار الأعوام العشرين الماضية، نجح الفلسطينيون في خوض الكثير من المعارك بشكل فردي أو كجاليات في العالم الغربي، ونجحوا في صد عملية الاستيلاء الثقافي أو الهيمنة على السردية الفلسطينية وأحقيتها عبر منبر الحرّيات الأكاديمية.

هنا يبرز دور المثقّف والأكاديمي الفلسطيني الذي يمكن بفضله اختراق السردية الاحتلالية الكولونيالية من خلال التوصيف الصحيح ومقاومة أحادية السردية في ميادين الأبحاث والمؤسّسات البحثية العالمية. ويبدأ ذلك من توصيف صحيح لوجود دولة الاحتلال الإسرائيلي وتوصيفها بشكل صحيح كدولة استعمارية كولونيالية.

هناك احتلال، ولكنه احتلال واستعمار للأرض والإنسان والثروات. الاستعمار "Colonization" بكل بساطة هو إقامة مستعمَرة في أرض معيَّنة، ويمكن للاستعمار أن يحدث بوجود السكّان الأصليين أو بعدم وجودهم.

فعندما تقوم جماعات كبيرة، أو غير متجانسة عرقياً أو دينياً، أم لا بغزو أرض معيّنة وطرد وتهجير سكّانها الأصليين، ومن ثمَّ اضطهادهم كنتيجة لوجود هذه المجموعات الغازية، يكون الاستعمار قد وقع ولا يمكن تسميته إلّا استعماراً ومسمّى "الاحتلال" هو تجميل لوجه الاستعمار ومحاكاة للأكاديميين والمحلّلين الغربيين التي لا تريد أن تربط "إسرائيل" بما اقترفه الاستعمار الغربي من جرائم ضدّ الإنسانية في المستعمرات السابقة، والتي تُعتَبر أقرب للتخيّل والتصوّر من مفهوم الاحتلال، حيث صورة الاستعمار البشعة المرتبطة بأذهان الغربيين.

وبرأيي، أن هذا جزء من الاستيلاء على الثقافة أو الاستيلاء على السردية الثقافية. هنا، لا أدعو إلى التخلّي عن كلمة "احتلال"، ولكن استخدام الاستعمار إلى جانب الاحتلال سيعطي معنى أكثر وضوحاً، لذلك فإن مقاومة "إسرائيل" يجب أن تأتي من منطلق أنها قوّة كولونيالية، وليس فقط كقوّة محتلّة للأرض الفلسطينية.

هنا، تجدر بالفلسطينيين دراسة كفاح الشعوب التي رضخت تحت الاستعمار لفترات طويلة، ومن بينها الجزائر. دعونا ننظر إلى "إسرائيل" كدولة فصل عنصري. سنجد أن كل العناصر تنطبق عليها كذلك، وهو ما يضيف عنصراً جديداً ويجعل من هذا الكيان كياناً استعمارياً مبنيّاً على الفصل العنصري وسرقة الثروات والاحتلال.

لم يشهد التاريخ الكولونيالي قوة استعمارية تماثل ما تقوم به "إسرائيل" من فصل عنصري ومجازر واعتقالات وسرقة للأراضي والثروات والكثير ممّا تعدّى مفهوم الاستعمار والفصل العنصري، فهي أسوأ من ذلك، لأنها تستخدم الدين كأداة لتحقيق مآرب استعمارية، ما يجعلها تتفوّق على كافة قوى الاستعمار في دَمَويتها.

ورفض السردية الإسرائيلية لا يقتصر فقط على الخارج ومكافحة سرديتها عبر الأبحاث الأكاديمية، ولكن أيضاً في الداخل الفلسطيني المحتل. رفض الاحتلال وأدواته جنباً إلى جنب مع الهبّات الجماهيرية هي مهمّة تقع على عاتق المثقّف الفلسطيني للتنبيه لها بشكل أوسع.

ففي خضمّ المعركة الكبيرة التي خاضها الجزائريون ضدّ الاستعمار الفرنسي، وجد الفيلسوف "فانون" أن أكبر تحدّيَين للشعب الجزائري كانا اللغة الفرنسية والتكنولوجيا التي يتمتّع بها المستعمر.

ومقارنةً بالاستعمار الصهيوني والمشروع التوسّعي في فلسطين، فإن مجموعة التحدّيات كبيرة، ومنها اللغة والتكنولوجيا والاقتصاد والإعلام. ومن أهم عوامل نجاح عملية التحرّر هي رفض كل قيم وأخلاقيات ومنتجات ولغة والمستعمر بكافة أشكالها.

المقاومة تبدأ برفض كل ثقافة المستعمر بكل ما تحمله، حتى لو كانت على المستوى الفردي لأن كلفتها المستقبلية ستكون عالية من خلال عملية المجانسة لثقافتين مختلفين تجعل من تداخل عناصر إيجابية أو عملية مع ثقافة المستعمر جزءاً من الحياة التي يريد المستعمر إدخالها في الحياة على منوال (خرطوم الفيل) وهي تطعيم ثقافتنا بثقافة المحتل.

وهنا يجب رفض اللغة العبرية من الأساس، حتى لو كانت مهمة جدّاً لفهم المستعمر أو لفهم أخبارهم وتحليلاتهم ومن ثم الانخراط في الحياة العامة والعمل والتجارة والسياسة، لأن لغة المستعمر الجديد ليست بلغة الأرض وأبنائها.

الجزائريون في بداية الحرب ضدّ الاستعمار قرروا عدم الحديث بلغة غير لغتهم الأصلية وعدم الاستماع إلى راديو الفرنسيين لأنهم كانوا واثقين من أن عملية الاستعمار تبدأ من النقاط الصغيرة. وهنا يمكن مقارنة ذلك بالمحاولات الاستعمارية لأسرلة الشباب الفلسطيني في الداخل، والإغراءات الكبيرة للتجنيد في جيش المستعمر.

في النهاية، يجب القول إن عملية الأسرلة الإسرائيلية في الداخل تترافق مع عملية استيلاء أوسع على التاريخ الفلسطيني ومحاولة منع السردية الفلسطينية في أحقّية الفلسطيني في أرضه وتاريخه من منافسة السردية الاحتلالية. وهنا يجب على المثقّف والأكاديمي الفلسطيني العمل في اتجاهين متوازيين جنباً إلى جنب مع المقاومة الفلسطينية بما تتمثّل من هبّات جماهيرية وغيرها.

الخطّان المتوازيان هما مكافحة الأسرلة الإسرائيلية داخلياً ومكافحة الاستيلاء الثقافي على السردية الفلسطينية واحتكار المجال الأكاديمي والبحثي للاحتلال والداعمين له.


(باحث فلسطيني/ السويد)