البحث عن أثر الثورة

البحث عن أثر الثورة

07 ابريل 2015
تشويه صورة المرأة في السينما المغربيّة (Getty)
+ الخط -
لا شك أن ناقداً سينمائياً من مستوى خليل الدمون، مشهود له بتاريخه الطويل في مجال النقد وعطاءاته على مستويات متعددة تحيل على قضايا السينما المختلفة، وتتأصل عميقاً عبر تجربة غنية في هذا المجال. وأن يقدّم قراءات متعددة، تدور في فلك القضايا السينمائية، فذلك أمر مفيد ومثير، ولا سيما أنّ هذه القراءات/ أو الأشلاء كما يسمّيها، هي قصاصات تؤرخ لتاريخ السينما، ولتاريخ الوعي النقدي لدى كاتبها؛ ذلك لأنها تمتد على نحو ثلاثين عاماً (1985ـ 2014)، ويجمع بينها الأرق النقدي الذي يسكن الكاتب، والهاجس السينمائي الذي ينقله للقارئ، ليحفّزه فيها على متابعة القضايا السينمائية.

ارتضى خليل الدمون لكتابه عنوان "أشلاء نقدية"، وكأنّ الناقد يجمع أشلاء ما تناثر من قضايا سينمائية على مدى تاريخ السينما المغربية، ثم ينثرها من جديد على صفحات كتاب.
ويشار هنا إلى أنّ الكتاب يحمل عنوان فيلم لحكيم بلعباس "أشلاء"، وهو الفيلم الذي سلط كاميرته على مشاهد حقيقية تلامس الواقع، وكأني بخليل الدمون ينحى المنحى نفسه، حين يختار العنوان ذاته، ويقتسم مع بلعباس دلالاته، ويسلط قلمه النقدي على القضايا التي تؤرق السينما، من غير أن تتسم نظرته برضى المحبّ عن كل ما يفعل حبيبه، بل بسعي المحب إلى أن يرقى بحبيبه نحو مستويات من النضج والعمق والدلالة.

وقد جاء في التقديم أنّ هذه الأشلاء "هي أشلاء نقدية كتبت في فترات متقاربة أحياناً ومتباعدة أحياناً أخرى، تبركت في عنونتها بسينما عفوية، لكنها زاخرة برؤى وصنعات تنبئ، وتبشر بظهور قوارب جديدة على شواطئ سينما هذا البلد".
ولكي يحقق الأستاذ الدمون هذا الرجاء الذي حمل على عاتقه تحقيقه فقد غطّى زمناً غير يسير من تاريخ السينما نقداً وتوجيهاً، مما جعلنا نحن القراء نعيش في زمن واحد له نكهته الخاصة، هو زمن تاريخ السينما وقضاياها وفلسفتها وطريقة اشتغالها، ونولد معها مرة بعد مرة، شأننا في ذلك شأن الفن السينمائي الذي يؤكد خليل الدمون أنه "ولد مرات كثيرة. لازال يولد لحد الساعة. ومع ولادته تمخضت قراءات عديدة، سريعة، منفعلة، متأثرة، محتضنة، مساهمة في تلطيف عسر الولادة، إنه الايمان الأول بالذات: يطبخ فيك قدرة خارقة على مضغ الواقع، وعلى تخطي الحواجز، قدرة حقيقية، لكنها غير جنونية".

والحق أن المقالات التي ضمّها الكتاب استطاعت إلى حد كبير رسم الخطوط الرئيسية لهموم السينما المغربية والعربية، وتناولت ضروب النقد السينمائي المختلفة، وجعلت القارئ الحالي يعيش الزمن الماضي عبر مشاهد نجح خليل الدمون في أن يضيء لنا حراكها، فينبئ بما كان، وبما هو آت، عبر كثير من التساؤلات التي طرحها، وحاول أن يجد لها بدائل تبدو في حينها مخرجاً حسناً لتحسين فن السينما وتطويره، دون أن يغيب عنه الوعي بالمطلوب، كما يقول هو بنفسه "مطلوب منا تلك القراءة الثانية التي تستطيع خلخلة الكتابة السينمائية الموجودة، وغربلتها ومقاربتها مع الأعمال الجادة. مطلوب في قراءتنا الجديدة أن نكون في مستوى المرحلة الثانية، كما كنا في مستوى المرحلة الأولى حتى تكون قراءاتنا فاعلة وبناءة".
إنّ الالتفات إلى قضايا الإنتاج والدعم والمهرجانات والنوادي السينمائية التي يثيرها كتاب "أشلاء" عبر صفحاته، هي كلها تفريعات على ثيمة واحدة هي السينما، والسينما المغربية بشكل خاص؛ حيث يبدو الكاتب مشغولاً بالبحث عن آفاق جديدة لصناعتها، آفاق تستند إلى النهوض بالمتطلبات النصيّة والإنتاجية لهذه السينما.. من هنا فإن الكاتب يتساءل: "هل يمكن الحديث عن انطلاق صناعة سينمائية حقيقية في المغرب؟ هل يمكن القول بأن الإدارة الوصية: وزارة الاتصال، والغرف السينمائية المهنية استطاعت أن تحقق على مدى خمسين سنة قفزة ما في اتجاه ما، نحو ترسيخ تلك الركائز؟".

امرأة السوق

ولا شك أن الحديث الواعي عن هموم السينما يتشعب ليلامس هموم المجتمع العربي ذاته، وقضاياه الاجتماعية المختلفة، وتقف قضية المرأة التي تحتل حيزاً في المشهد الأدبي والنقدي والفنّي، في طليعة القضايا التي اهتمت بها السينما المغربية والعربية، لذلك فمن الطبيعي أن يتابع الدمون تلك الصورة، ويلفت إلى واقعها، ليصرّح برأي جريء ينتقد فيه الصورة النمطية للمرأة المغربية في السينما، تلك الصورة التي عملت على تشويه النظرة نحو المرأة؛ في استحضاره لصورة المرأة النمطي في السينما يقول "لا يمكن أن تكون صورة المرأة قد تعرضت للتشويه في أي مجال من مجالات التعبير أكثر مما تعرضت صورتها على الشاشة. المرأة عموماً على الشاشة تؤدي وظائف يحددها منطق السوق. منطق السوق بدوره يحدد ميكانيزمات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك".
هذه الصورة المستهلكة للمرأة في السينما لا تلغي الخصوصية المغربية والعربية، ولكنها تنتهك الصورة الإنسانية لذلك الكائن اللطيف الذي يشكل نصف العالم، إذ إن المرأة في أغلب مشاهد السينما
المغربية والعربية تصبح مرادفة للسلعة، ويتحكم بها منطق السوق، وترتبط وظيفتها بالمنتوج التسويقي.

فإذا انطلقنا من قراءة الأسماء المتداولة في السينما المغربية، وعائشة تحديداً، وجدناه يعبّر عن نموذج مستهلك، مستكين لواقع مهترئ، ينبغي ألا يبرر الصورة النمطية للمرأة في السينما، لأنّ هذه المرأة تستحق من خلال حضورها الكثيف على الشاشة دوراً فاعلاً لها. غير أن الواقع يشير إلى مفارقة عجيبة يلخّصها الدامون بقوله:
"بقدر ما يعمل هذا المنطق الرهيب على ترسيخ صورة دونية المرأة، وعلى تشييئها، وتبضيعها، بقدر ماهي حاضرة بشكل مكثف على الشاشة، تعمل صورتها على تنشيط هذا المنطق، وعلى ترويجه وتعزيزه".

وعلى الرغم من تعدد الاتجاهات التي يرصدها الكاتب لنماذج المراة، واختلاف النظرات الجزئية نحوها بين فيلم وآخر، فإنّ المراة يجب أن تعامل، في رأي الدمون، على أساس أنّها كائن غير نمطي، تتغير وظيفته، بتغيّر ظروفه، وليست مجرد أداة من أدوات صناعة السينما، على نحو ما يمكن أن يحيل عليه اسم "عيشة" وربطه بما يعزّز منطق تسليع المراة: "إن المرأة في هذا المخزون الفيلمي حاضرة في كل المساحات تقريباً، لكنها (عايشة") تحت رحمة الرجل، خدمة له؛ يعني صورة مفضوحة لتعزيز منطق السوق"..
وهذه المقاربة بين الاسم المغربي عيشة، المحرّف عن عائشة، التفات إلى نمط حياة، ورضى، أراد الكاتب أن يلفت النظر إليه، ويحرّض العاملين في صناعة السينما على تغييره.

السينما والثورة

إضافة إلى القضايا الاجتماعية التي عالجها الدمون (وقد مثّلنا لها بقضية المرأة) عالج الناقد عبر كتابه "أشلاء نقدية" مدى ارتباط السينما بالواقع المتجدد، مشيراً إلى كفاءة السينما التونسية التي رافقت ثورة تونس، وأثبتت أنّ السينما جزء من مكونات التاريخ التونسي الجديد الذي كتبه التونسيون؛ إذ يؤكّد الدمون في مقالة بعنوان: "السينما، الثورة وأشياء أخرى"، أنّ "التونسيين أثبتوا بالملموس؛ أن المكوّن الثقافي جزء لا يتجزأ من الثورة، بل أصروا على إنجاح أول دورة بعد الثورة"، وذلك في إطار حديثه عن مهرجان قرطاج.

ويلاحظ القارئ أن عين الناقد البصيرة لا تحبس بصرها بين قاعات السينما وحسب بل تسافر بالقارئ إلى رسم صورة الشارع، وردود الأفعال، القاعات، وتلتقط قراءات المشاهد الحاضرة في أوج الانفعال العاطفي الراهن للجماهير العربية: "والجديد في دورة ما بعد الثورة ابتعاد رجال الأمن عن القاعات وتركها في يد المنظمين وأعوان القاعات ودور الثقافة".
وهو ها هنا يشير إلى عهد جديد تنفست فيه السينما الحرية، وهذا ما انعكس على الأفلام المشاركة؛ غير أنّنا نخشى التفاؤل الساذج الذي يشعر به بعضهم هذه الأيام، خوفاً على الواقع العربي، وعلى السينما العربية، في إطار واقع ما بعد الثورة الذي يكشّر عن أنياب العنف وعدم الاستقرار.


المساهمون