الانتخابات الإسرائيلية المعادة (4): هوس الاستطلاعات وعقدة المؤامرة لدى نتنياهو

06 اغسطس 2019
يوظف نتنياهو الاستطلاعات لتعزيز نظرية المؤامرة(مناحيم كاهانا/فرانس برس)
+ الخط -
بالرغم من اعتراف الدكتورة مينا تسيمح، إحدى أشهر خبيرات استطلاعات الرأي العام في إسرائيل، بأن مؤيدي اليمين والمصوتين له تمكنوا من خداعها خلال المعركة الانتخابية الأخيرة في إبريل/ نيسان الماضي، إلا أن هوس الاستطلاعات والتحليلات المرافقة له، لا يزال ممسكاً بتلابيب المعركة الانتخابية في إسرائيل، مع كل تغييرٍ طفيفٍ في نتائجها، مع التزام جانب الحذر بتكريس مقولة إن الاستطلاعات صالحة فقط ليوم إجرائها.

ففي المشهد الانتخابي الإسرائيلي الراهن، يكفي أن ينتقل مقعدٌ من تحالف "كاحول لفان" لصالح حزب "الليكود" بالرغم من عدم حصول تغييرٍ كبيرٍ في موازين القوى الحقيقية، حتى تعلن الاستطلاعات تقدم معسكر بنيامين نتنياهو من تحقيق 61 مقعداً تلزمه لتشكيل ائتلافٍ حكومي، لتعود الاستطلاعات بعد يومين في حال حصول تغييرٍ طفيف في عيّنة المشاركين في الاستطلاعات وتقدم حزب "كاحول لفان" بمقعدٍ على نتنياهو، لرثاء معسكر الأخير، أو البت بأن أياً من الطرفين لن يتمكن من تشكيل حكومة مقبلة.

وقد برز هذا الأمر بشكل واضح في الاستطلاع الذي نشره أول من أمس، الأحد، موقع "والاه" تحت عنوان "معسكر نتنياهو يقترب من 61 مقعداً"، لمجرد حصول أحزاب اليمين المعلِنة عن تأييدها لنتنياهو على 57 مقعداً. هذا الإعلان يوهم الناخب الإسرائيلي بأن المعسكر المضاد، (بقيادة الجنرال بني غانتس)، إذا استثنينا منه حزب أفيغدور ليبرمان الذي تراوح قوته بين 10 و11 مقعداً بحسب الاستطلاعات، يمكن له أن يحظى بفرصة التكليف بتشكيل الحكومة المقبلة، أو الذهاب إلى القول إن ليبرمان سيكون بيضة القبّان، وقد يفرض على الحزبين الكبيرين تشكيل حكومة وحدة وطنية من دون أحزاب الحريديم، وهو افتراضٌ يعني تنازلاً مسبقاً من نتنياهو عن شركائه الطبيعيين (أحزاب اليمين الديني الصهيوني والحريديم) الذين يملكون، بحسب الاستطلاعات الأخيرة، نحو 27 مقعداً، إذا تمت إضافتها لـ30 مقعداً لـ"الليكود" يكون كل ما ينقص نتنياهو أربعة مقاعد للوصول إلى 61 مقعداً يتوقع البعض أن تأتيه في ساعة الصفر من حزب العمل بقيادة عمير بيرتس.


كل هذا الانشغال بنوعٍ من الهوس في الاستطلاعات، يبدو في حقيقة الأمر كمن يخدم دعاية نتنياهو بشأن الخطر الذي يهدد حكم اليمين، وبالتالي يرجى منه تعزيز التصويت لـ"الليكود" وفق مطلب نتنياهو بأن حكومة يمين تتطلب ليكوداً قوياً.

لكن موطن الخلل في عرض نتائج الاستطلاعات، يكمن في القبول برواية نتنياهو بأن الكتلة المضادة له هي معسكرٌ موحدٌ ومتجانس، يقترب في حال إحراق أصوات اليمين من تهديد حكم "الليكود"، عبر تجاهل حقيقة أن 10 مقاعد على الأقل من المعسكر المضاد، هي مقاعد يفترض أن تحصل عليها القائمة المشتركة للأحزاب العربية، لن تدخل في أي حال من الأحوال بحسابات تشكيل الحكومة المقبلة. فلن يسارع أي حزب صهيوني، خصوصاً تحالف "كاحول لفان"، الذي يقدم نفسه على أنه حزب يميني صرف، إلى التحالف علناً مع أحزاب عربية غير صهيونية، كي لا يفقد شرعيته في الشارع اليهودي، وكي لا يخسر إمكانيات التحالف مع أحزاب قد تخرج عن فلك نتنياهو.

يعزز نتنياهو بشكل واضح، ويساعده في ذلك الإعلام الإسرائيلي، في سياق تحليل الاستطلاعات ونتائجها، الوهم لدى الناخب بأن معسكر اليمين الذي يقوده لم يصل بعد إلى الهدف المنشود، أي 61 مقعداً، وأن حزب ليبرمان، وليبرمان نفسه، أخرج نفسه من المعسكر بمجرد إفشاله تشكيل حكومة نتنياهو الرابعة في 29 مايو/ أيار الماضي، ويوظف ذلك في وضع أسس لنظرية المؤامرة.

والواقع أن ليبرمان أفشل تشكيل الحكومة، وفرض عملياً على نتنياهو الذهاب لانتخابات جديدة، ليس لأنه رافض لتأثير التيار الديني والحريديم على الحكومة، بقدر ما أدرك أن قوته البرلمانية التي تمخضت عنها الانتخابات الأخيرة (خمسة مقاعد) ستجعله الحلقة الأضعف في حكومة نتنياهو، ولن تمنحه التأثير الذي يتوخاه.

ووفقاً لما تشير إليه الاستطلاعات الحالية، التي تمنح حزب ليبرمان بين 10 و11 مقعداً بفعل حمل راية العلمانية ومكافحة نفوذ التيار الحريدي الأصولي، فإن ليبرمان سيكون شريكاً كبيراً في أي حكومة مقبلة ينضم إليها. وقد تمكن لغاية الآن من اللعب بأعصاب نتنياهو وشنّ حرب نفسية في المعركة الانتخابية، تجلت في مناورته الأخير لدق أسافين الخلاف داخل "الليكود" نفسه، وبين نتنياهو ونواب حزبه.

فقد أعلن ليبرمان في مقابلة تلفزيونية، السبت الماضي، أنه في حال تعذر على نتنياهو تشكيل حكومة يمين قومية وعلمانية، أو كان زعيم الليكود العقبة أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية، فإنه، أي ليبرمان، سيطلب من أصدقائه في "الليكود" استبدال نتنياهو، طارحاً رئيس الكنيست، يولي إدلشتاين، بصفته الشخص الذي يمكن له أن يحل مكان نتنياهو.

كان تصريح ليبرمان كافياً لإثارة حالة فزع لدى "الليكود" ولدى نتنياهو شخصياً، لا سيما أن الأخير روج في أكثر من مرة لرواية وجود مؤامرة لاستبداله بطرق غير شرعية، منها اتهاماته قبيل المعركة الانتخابية الأخيرة، لكل من رئيس الدولة رؤبين ريفلين، والوزير السابق من "الليكود" غدعون ساعر، بأنهما وضعا خطة سيقوم ريفلين بموجبها، تبعاً للصلاحيات التي يخوله إياها القانون، بتكليف ساعر بتشكيل الحكومة، وليس بالضرورة نتنياهو. ومع أن هذه الرواية ثبت كذبها وعدم صحتها، إلا أن نتنياهو أقنع في حينه أقطاب "الليكود" بإمكانية حدوثها، وحاول سنّ قانون يفرض على رئيس الدولة تكليف رئيس الحزب الأكبر وليس أي عضو فيه، وقد باءت هذه المحاولة لاحقاً بالفشل وتراجع نتنياهو عنها كلياً، لكنها غذت نظرية المؤامرة.

هذه المرة رد نتنياهو على تصريح ليبرمان أعلاه، بالأسلوب ذاته، عبر تغريدة نشرها ولده يئير على موقع "تويتر"، اتهم فيها إدلشتاين بالتآمر مع ليبرمان للإطاحة بوالده (نتنياهو)، لكنه سرعان ما قام بمسح التغريدة، وبدلاً منها، قام زعيم الليكود، عبر رئيس الكتلة، دافيد بيطان، بإلزام أول 40 مرشحاً على لائحة "الليكود" بالتوقيع على تعهد والتزام بترشيح نتنياهو، لا أي شخص غيره، لتشكيل الحكومة المقبلة.

هذه الخطوة فسرها كثيرون بأنها رد فعل يؤكد اهتزاز ثقة نتنياهو بنفسه، وعكست عملياً عقلية المؤامرة التي يحملها نتنياهو منذ أدعى في أول منافسة له على زعامة "الليكود" عام 1993 بأن منافسه في الانتخابات التمهيدية آنذاك، الوزير السابق دافيد ليفي، هدده بنشر شريط فاضح له مع سيدة غير زوجته، إذا لم ينسحب من المنافسة. وعرفت تلك القضية التي اضطر نتنياهو لاحقاً إلى الاعتذار عنها، بقضية "الشريط الساخن".

ولم تخل أي من المعارك الانتخابية اللاحقة التي كان نتنياهو فيها مرشحاً لرئاسة الحكومة، من عدو يتآمر على اليمين وعلى نتنياهو نفسه. ففي معركته الانتخابية أمام شمعون بيرس، كانت الصحافة واليسار هما العدو والمتآمر، ولاحقاً، كان ذلك العدو، بحسب رواية نتنياهو، منافسوه من داخل الحزب، مثل دان مريدور وبني بيغن، وصولاً إلى نظرية التآمر بين غدعون ساعر وريفلين.

ولم تقفز نظريات المؤامرة التي يتضح، ظاهراً على الأقل، أنها سلاح نتنياهو الأمضى في المعارك الانتخابية، عن اتهام المفتش العام للشرطة، روني الشيخ (وكان نتنياهو هو الذي عيّنه)، بالتآمر على زعيم "الليكود" عبر نشره بدايةً توصيات الشرطة المطالبة بالتحقيق معه، وتقديم لوائح اتهام رسمية ضده لاحقاً. امتدت خيوط المؤامرة من وجهة نظر نتنياهو لتطاول أيضاً المدعي العام شاي نيتسان، وحتى المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت (وهو أيضاً عيّنه نتنياهو نفسه)، بأنهما أصدرا توصيات وقرارات بتقديمه للمحاكمة وتقديم لوائح اتهام ضده، بعد إجراء جلسات استماع له، لأسباب لا تتعلق بفرض القانون أو نزاهة الحكم، بل كجزء من مؤامرة عامة يحيكها اليسار والإعلام وأجهزة الدولة ضده، ليس لكونه بنيامين نتنياهو، بل لأنه يمثل حكم اليمين واليمين في إسرائيل.

ساهمت هذه الحرب التي أدارها نتنياهو في معركة انتخابات إبريل/ نيسان الأخيرة، في فوز حزبه بـ35 مقعداً، وحصول معسكر مؤيديه على 65 مقعداً (مقابل 55 مقعداً للمعارضة، منها 10 مقاعد للأحزاب العربية)، وكان يفترض أن تقوده هذه النتائج بسهولة إلى حكومته الرابعة. استخف نتنياهو خلال عملية المفاوضات بمواقف شركائه ومطالبهم، ليكتشف أن تحولاً طرأ على موقف ليبرمان في الأيام الأخيرة من مايو/ أيار، مع اقتراب نهاية المهلة الرسمية الثانية الممنوحة له لتشكيل الحكومة.

رفض ليبرمان في الدقيقة الـ90، حرفياً إذا جاز التعبير، الانضمام لحكومة نتنياهو الرابعة، تحت ذريعة معارضة تشكيل حكومة خاضعة للحريديم والصهيونية الدينية، تكون حكومة "شريعة توراتية". ردّ نتنياهو على ذلك بمناورة للضغط على ليبرمان مهدداً بحل الكنيست، لكن دون جدوى. أصر ليبرمان على مطالبه، وفقد نتنياهو السيطرة على مناورته البرلمانية، ما أدى في نهاية المطاف إلى تقديم قانون حل الكنيست والذهاب لانتخابات جديدة.

واليوم، وفي ظل نتائج الاستطلاعات، يبدو للوهلة الأولى أن نتنياهو لا يزال يفتقر لأغلبية نيابية من دون ليبرمان، حيث يحصل معسكر مؤيدي تكليفه تشكيل الحكومة بعد الانتخابات على 57 مقعداً فقط، فيما يحتاج لـ61، لكن يمكن للنتائج الحقيقية يوم الانتخابات أن تعطي "الليكود" المقاعد الخمسة التي تشير الاستطلاعات إلى أنه فقدها. كما يمكن لليبرمان، في حال حقق 10-11 مقعداً، أن يفرض شروطاً تخفف من حدة تأثير أحزاب الحريديم، وأن يعود لحكومة بقيادة نتنياهو، وهو أقوى شوكة.



على أيّ حال، وبالنظر إلى احتمال أن تصدق الاستطلاعات الإسرائيلية، فإنها تمنح الجنرال بني غانتس خياراً ضعيفاً في تشكيل حكومة بديلة لنتنياهو، لأنه يبقى بحاجة لتعويض المقاعد التي تحصل عليها الأحزاب العربية، وربما أيضاً مقاعد "المعسكر الديمقراطي"، وهو تحالف حزب ميرتس مع إيهود باراك، وهذا قد يكون فقط في حال فشل نتنياهو بتشكيل حكومة في المهلة الأولى (28 يوماً) التي تعطى له، لأن حزب اليمين الموحد، كما أفيغدور ليبرمان، أعلنا أنهما لن يقبلا بإجراء انتخابات جديدة للمرة الثالثة خلال عام، ما يوحي باحتمال موافقتهما على تشكيل ائتلاف حكومي بديل بقيادة "كاحول لفان"، في حال تم تكليفه لاحقاً بتشكيل حكومة جديدة، وهي ستكون بطبيعة الحال حكومة يمين جديدة، حتى لو ضمت في صفوفها حزب العمل بقيادة عمير بيرتس. 

ويبدو في هذا السياق أن حزب العمل بقيادة بيرتس، مرشح ليكون طوق النجاة لمعسكر نتنياهو في حال حصل الأخير على 57 مقعداً فقط، وتعذر عليه التوصل إلى تفاهمات مع ليبرمان. وسبق لأقطاب معسكر الوسط واليسار الصهيوني في إسرائيل، بدءاً من إيهود باراك، وزعيم ميرتس نيتسان هوروفيتس، أن اتهما عمير بيرتس بأن رفضه إقامة تحالف بين حزب العمل وتحالفهما المسمى "المعسكر الديمقراطي"، وتفضيل التحالف مع أورلي ليفي أبوكسيس، التي انشقت عن حزب ليبرمان، هو مؤشر لنوايا زعيم حزب العمل، عمير بيرتس، المشاركة في حكومة مقبلة لنتنياهو، مقابل تعهدٍ من الأخير بدعم ترشيح  بيرتس رئيساً لإسرائيل بعد انتهاء ولاية رؤبين ريفلين الحالية.

وكان نتنياهو قد حاول في مايو الماضي، وقبل ساعات من نفاد المهلة القانونية لتشكيل الحكومة، التوصل لاتفاق ائتلاف حكومي مع حزب العمل بقيادة زعيمه السابق أفي غباي. وأعلن غباي يومها أن نتنياهو عرض عليه "نصف المملكة"، بالرغم من أن حزب العمل كان قد فاز بستة مقاعد لا غير.