الألم والخوف والاستغلال.. حكاية أيتام سورية

الألم والخوف والاستغلال.. حكاية أيتام سورية

06 يناير 2015
أطفال سوريون نازحون (فرانس برس)
+ الخط -


خمسة أشهر قضاها "عزام" وأخواه محمد وعطا في سجن الهيئة الشرعية في حلب، عزام ابن الثالثة عشرة، يبدو كرجل صغير، يحاول جاهدا رعاية أخويه الصغيرين محمد 11 عاما، وعطا 9 أعوام.

بدأت قصة عزام بعد قصف بيت أسرته ببرميل متفجر في أحد أحياء حلب المحررة العام الماضي، على يد قوات النظام، ما أدى إلى فقدانه أهله ومنزله.

عندما تسأل الطفل "عزام" عن الأمر، يشيح بنظره في الفراغ مقطبا حاجبيه، محاولا التذكر، ولا يستطيع.
لا يعرف شيئا عن والديه، لا يقول إنهما ماتا، فهو لم يشاهد جثتيهما، أو أي أثر لهما منذ تلك الحادثة، آخر ما يتذكره أن والدته كانت تعد طبخته المفضلة "المقلوبة"، وطلبت منه أن يشتري لها علبة لبن. بينما كان والده مستلقيا على بطانية أرضية يتابع الأخبار وسيجارته معلقة في طرف فمه، وأخواه محمد وعطا يلعبان في الطريق.

نجا الأخوة بأعجوبة بعد الانفجار، تهدم المنزل العربي البسيط، وأخذهم خالهم إلى بيته لرعايتهم.
يقول عزام: "طلب خالي، أن نعمل في بيع العلكة والمحارم والبسكويت، وتنظيف السيارات، كانت معاملته سيئة جدا، أتذكر مرة، أنني نمت في الطريق لأن المبلغ الذي جنيته كان متواضعا ومخالفا لما طلبه، خفت العودة والتعرض للضرب بالكرباج، أو صعقة كهرباء، والحرمان من الطعام والشراب، كان يهددنا دائما بالبيع مقابل خمسة آلاف ليرة سورية".

يتدخل عطا معلقا: "أولاده اشتغلوا معنا أيضا، لكنه لا يضربهم ولا يحرمهم الطعام إذا لم يجمعوا مالا كثيرا".

كان الشارع ملجأهم الأخير بعد هربهم من بيت الخال، افترشوا الأرصفة دون أن يجدو شيئا ليلتحفوه، فحتى سماء حلب تمطر رصاصا، فكروا في العودة إلى أنقاض منزلهم، لكن الخوف منعهم. ثلاثة أيام قضوها في الشوارع باحثين عن بقايا الأكل.

إلى أن ألقت الهيئة الشرعية في حلب القبض عليهم، وبقوا في سجنها مدة خمسة أشهر، تعرفوا خلالها على الكثير من الأطفال بأعمارهم وأصغر، وبعد التحقيقات والتحريات من قضاة الهيئة لم يثبت عليهم أي تهم.

سألهم قاضي الهيئة، هل تودون الخروج؟! فأجابوه: "لا، لا يوجد مكان نذهب إليه سوى الشارع ولا نستطيع شراء طعامنا، سنعود للتسول والبحث عن الخبز في القمامة".
قرر القاضي وهو محامٍ سابق، وقائد كتيبة في حلب، إخراجهم على ضمانته وأخذهم إلى مقر الكتيبة للعمل العسكري، ودربوا هناك على حمل السلاح.

يقول محمد: "كنت سعيدا بخروجي من السجن، وحمل السلاح استعدادا للجهاد، سأقتل من قتل والدي، مع ذلك حزنت كثيرا، لأن بعض أصدقائي ممن تعرفت إليهم في سجن الهيئة حوكموا بتهم النهب والسرقة".

استمروا على حالهم حتى سمع قصتهم أحد ناشطي الثورة السورية في حلب، ويدعى باسم الغريب، يقول: "بحكم عملي المتنقل والتصوير على الجبهات في حلب المحررة، أرى العديد من الأطفال ممن فقدوا ذويهم، يحملون السلاح على خطوط التماس، ويقف بعضهم على الحواجز بوسط المدينة، وصلني في أحد الأيام خبر عن أطفال أيتام متواجدين على جبهة قلعة حلب لدى كتيبة تابعة للجيش الحر تقوم برعايتهم".

توجه باسم في اليوم التالي للمنطقة ودخل مقر الكتيبة، استقبله قائدها، وبعد حديث مطول، أطلق سراح الإخوة الثلاثة وأخذهم الغريب.
أوصلهم الأخير لأمه، على نية ترحيلهم إلى تركيا لمتابعة الدراسة، وتأمينهم في جمعية أو دار أيتام.

يقول باسم: "فاجأني عطا ومحمد أثناء الطريق عندما وصفا مشاعرهما، فهما سعيدان لإكمال الدراسة والذهاب إلى تركيا، وحزينان بسبب ترك الجهاد والابتعاد عن السلاح" يضيف: "لحظة وصلنا إلى تركيا أحضرت لهم بعض الألعاب فاستيقظت لديهم الطفولة والبراءة وضاع الحزن بين ابتساماتهم".

أما أم باسم فتقول: "وصل الأشقاء الثلاثة إلي، لا يعلمون عن أهلهم شيئا، تخلى عنهم الجميع، يقول أصغرهم ذو التسعة أعوام، أن أمه ماتت، وأحيانا أخرى يؤكد أنها سافرت إلى مدينة طرطوس".

تابعت: "لم أرغب أن أدخل معهم في التفاصيل حتى لا يعتبروا مأساتهم سندا لهم، احتويتهم كأطفال بحاجة لرعاية من دون الرجوع لخلفيتهم، دون استشارة مختص نفسي".

بدأت "أم باسم" تعليم الأشقاء الأحرف الأبجدية بعد تركهم المدرسة، فمنذ بدء الثورة في سورية، واشتعال جبهة حلب منذ ثلاث سنوات، توقفت المدارس، ما دفع الأطفال لنسيان أساسيات ما تعلموه.
بدأت معهم من الصفر، على أمل التحاقهم فيما بعد بالمدرسة وحصولهم على مساعدة مرشد نفسي.

تضيف أم باسم: "صحتهم الجسدية سيئة، عوملوا في السجن معاملة الجناة، ضربوا وعذبوا، قبعوا بغرفة مغلقة لا تدخلها الشمس، حتى أن الصغير لا يستطيع المشي الصحيح بسبب طول مدة جلوسه".

وتختم "جلّ همي اليوم أن أنسيهم ما مضى وأن أستطيع بناءهم مجددا، سأتركهم لدي حتى إيجاد جهة تتبناهم، تواصلت مع دار للأيتام في مدينة أنطاكيا، رفضوا متحججين أن أكبر عمر يستقبلونه عشر سنوات".

نقص الإحصاءات
ربما حال الإخوة الثلاثة أفضل بكثير من عشرات آلاف الأيتام، الذين ما زالوا يقاتلون على الجبهات، أو قابعين في سجون الجهات المختلفة هناك، أو مشردين في سورية، فلا توجد لليوم إحصاءات وأرقام دقيقة، جميعها تقديرية، نسبة لعدم توفر إحصاء حقيقي عن الأمر.

وهذه الأرقام يتم استنتاجها من خلال أعداد ضحايا البالغين، كما يؤكد بسام الأحمد المسؤول الإعلامي في المركز السوري لتوثيق الانتهاكات مضيفا: "يقدر عدد الأيتام بمئات الآلاف موزعين على مخيمات النزوح الداخلي ومخيمات اللجوء في الخارج، كما لا توجد أعمار محددة، لكن النسبة الأكبر لمن هم تحت سن الـ 15".

مضيفا: "بالنسبة لأيتام الخارج الموجودين في مخيمات اللجوء، لابد أن يتوجهوا إلى مفوضية اللاجئين بشكل أساسي حتى يتم تسجيلهم ووضعهم تحت الحماية وتقديم المساعدة لهم، وهناك أيتام موجودون في مخيمات النزوح الداخلي، تقوم منظمات بدعمهم بشكل مستمر لكن تبقى المشكلة عدم ثبات الدعم وتغيره".

صادف مركز توثيق الانتهاكات في سورية حالات كثيرة لتجنيد الأطفال اليتامى واستخدامهم لأغراض عسكرية متنوعة، باعتبارهم لقمة سهلة الاستمالة للكتائب المقاتلة على الأرض، وينهي بسام: "بالرغم من أن دور الأيتام موزعة بمناطق عديدة في دمشق درعا ريف دمشق حمص حلب والحسكة، لكن للأسف القضية منسية بشكل كامل، نستطيع القول إن جيلا كاملا من الأيتام يضيع، ونحن نقف مكتوفي الأيدي من دون المبادرة لمحاولة حل، لا بد من العمل المنظم وتوحيد الجهود لتقليل قدر الإمكان من الخسارات".



استغلال الأيتام
وبحسب إحصاءات منظمة IHH Humanitarian Relief Foundation التركية، فعدد الأيتام تعدى نصف مليون يتيم، ممن يحاولون مساعدتهم داخل المنظمة فقط، ينقسمون لعدة فئات منهم فاقد الأبوين، وأعمارهم صغيرة لا يستطيعون إعالة أنفسهم، يقدم لهم نظام الكفالة الشهرية، إذ يصرف لهم مبلغ مالي كل ثلاثة أشهر.


وقسم آخر بلا معيل وليس لديهم إيرادات، هؤلاء لهم مخيمات خاصة ودعم تعليمي ونفسي، وآخرون ما زالوا في الداخل السوري، تصرف لهم الإعانات، وهناك مناطق محاصرة كالغوطة، تحاول المنظمة الوصول إليهم عبر الكفالة والغذاء.
كما ترعى المنظمة دورا للأيتام ومنها بيوت رعاية في المدن الملاصقة للحدود السورية غازي عنتاب والريحانية وكلس، تضم نحو 800 طفل وطفلة.

يقول "عمر عادل جول" مسؤول الإعلام العربي في المنظمة: "رصدت المنظمة العديد من الانتهاكات بحق الأطفال الأيتام، منها العمالة رغم صغر السن، فهناك أطفال لا يتعدون العاشرة، يعملون في مهنٍ خطيرةٍ منها صناعة الأسلحة، إضافة إلى الحرمان من التعليم".

ويضيف جول: "كما أن هناك أخبارا ترد إلى المنظمة عن تبني أطفال سوريين وإرسالهم إلى إسرائيل، وأعداد كبيرة من البنات اليتامى، خاصة في الأردن يزوجن قسرا بسبب الوضع المأساوي".

ويختم عن حالة الأطفال الصحية: "الطفل أكثر من يتعب في ظروف التهجير، فكيف إذا كان يتيما، فقسم كبير من الأطفال الأيتام، لديهم مشاكل نفسية كالتبول اللاإرادي والأرق والاستيقاظ المفاجئ، وقلة التغذية والعصبية، وبعض الأمراض السارية كاللشمانيا، كما أن قسما منهم لا يحظى بمياه الشرب الصحية، مما يزيد الأمراض، التي تتفاقم نتيجة عدم توافر الرعاية الكافية وقلة الدواء".