الأدب الذي يعيدُ تمثيل الجريمة

الأدب الذي يعيدُ تمثيل الجريمة

01 اغسطس 2020
(جزء من عمل لـ عبد الهادي الجزار/ مصر)
+ الخط -

في عالمنا وأنت تقرأ هذا المقال الآن تحدث جريمة، وأنا أكتبه منذ أيام حدثت جريمة أيضاً، عالمنا بات عالمَ جريمة. وكثيراً ما تنسحب الفنون التي تعيدُ تمثيل الجريمة وراءَ الأحداث التي وقعت بالفعل، وتعيدُ تسجيلها تسجيلاً حرفياً، ليصبحَ الكتّاب مجرّدَ شهودٍ على جرائم البشرية وجناياتها. تخضعُ الفنون من جراء ضغط أحداث تصعب مقاومتها إلى اعتبارات الجريمة، إذ بحضور التجربة الإنسانيّة تصبحُ التجربة التي تنحتها الفنون تجربةً باهتة. كما يستجيب الكتّاب استجاباتٍ متفاوتة ما إن يحضروا في العالم الآثم والمُجْرَّب، قد نرى نصوصاً تنادي الضمائر ونصوصاً تتحرى وراء القاتل، لكن يبقى أدب الجريمة أدباً مؤثراً جرّاء الانفعالات العاطفية التي يحدثها وبسبب كيدهِ الحتمي بالمجرم. 

ثمة برنامج إذاعي شهير تبثهُ إذاعة دمشق منذ عام 1977 وهو برنامج "حكم العدالة"، ولربما لا يوجد منزل في سورية، لم يلتزم أهلهُ بالاستماع إليه يوم الثلاثاء في الواحدة والنصف ظهراً، حيثُ الأطفال يعودون من مدارسهم ويحضّرون واجباتهم المدرسية، والزوجات في المطابخ الهانئة يحضّرن الطعام لأزواجهن، فيما يصدح حكم العدالة في أرجاء المنزل. 

ليس في المنازل وحسب استمع السوريون إلى الجرائم التي أخرجها المحامي هائل اليوسفي من ملفات النيابة العامة التمييزية في دمشق وأعاد كتابتها درامياً على نحو تنتصرُ فيهِ العدالة دائماً؛ أيضاً في المكاتب العقارية ومكاتب السيارات ووسائط النقل، سورية كلّها كانت في موعد أسبوعي مع العدالة. ويروي اليوسفي في حوار معهُ، حكاية تعاونه مع رئيس المحكمة الميدانية في حمص في قضية لحّام اغتصب طفلاً وقتله؛ عندما أسمع اليوسفي رئيس المحكمة تسجيل الحلقة قبل بثّه، أخبره رئيس المحكمة بقراره تأخير تنفيذ حكم الإعدام ليترافق تنفيذ الحكم مع انتهاء بث الحلقة، والتي انتهت بإشارة: "يتم الآن تنفيذ حكم الإعدام في ساحة باب السباع في هذه اللحظة".

تأخذ الفنون جانب الضحايا عبر تفكيك عالم الجريمة

وبحسب اليوسفي، فقد بلغت شعبية البرنامج حداً فاوضه مدير مكتب إذاعة مونت كارلو في بيروت، من أجل تغيير وقت العرض، كي لا يتقاطع مع نشرة أخبار الثانية. كان البرنامج خاصاً ومؤثراً، لأنّه يعلن العدالة باسم شعب كاملٍ، يفتقد للعدالة، أُسبوعياً. 

في مسرحيته "هاملت" يمنحنا شكسبير مثالاً لا يُضاهى حيال الأدب الذي يُعيدُ تمثيل الجريمة، وهو دور يأخذ الفن فيهِ دور التحرّي، إذ يعيدُ هاملت أمامَ عمهِ ووالدتهِ تمثيل جريمة قتل والدهِ، ويراقب سلوك العم وهو يرى الجريمة التي كان قد اقترفها - للحصول على العرش وعلى زوجة أخيهِ - تُمَثّل أمام ناظريهِ. وكان هاملت قد تروّى في انتقامهِ، بعدما أخبره طيف والدهِ الملك المغدور الحقيقة، كي يتأكد من جريمة العم. وجعل شكسبير من تأخير انتقام هاملت استثماراً لطاقات ينطوي عليها الفن. إذ يدفعُ الفنُ البارعُ المجرمَ إلى الانسحاب أمام جريمته التي تؤدى أمامهُ مسرحيّاً. 

لا يُخاطِب شكسبير ضميرِ القاتل، وإنّما يقوم بمواجهتهِ ببشاعته، يقولَ لهُ أنتَ مكشوف وعارٍ. يستخدم شكسبير الفن، وهو هنا المسرح، أداةَ جنائية، تملكها الضحية لمكاشفة ومواجهة الجاني.

في عالمٍ تحكمهُ الجريمة - اجتماعيّة كانت أم سياسية - تأخذ الفنون جانب الضحايا. ولكن ليس بمجرّد الإدانة، فهذا متاحُ للجميع؛ أن ندينَ المجرم أو القاتل. وإنّما تأخذ الفنون جانب الضحايا عبر تفكيك عالمِ الجريمة، عبر استخدام الجريمة ذاتها أداةً ضدَّ المجرم. إمّا تصويراً لجريمتهِ، أو بحثاً فيها وصولاً إلى التأكيد على ثغراتها. 

بامتلاء العالم بالمجرمين، تجيءُ الفنون التي تعيد تمثيل الجريمة كي تؤكد على حقيقةٍ جنائية؛ بعدم وجود جريمةٍ كاملة. لذلك نرى الفنون تعيدُ سرد الجريمة مرة بعد أُخرى، بحثاً عن آثار غيّبت أو تقادمت، معيدةً رسم وجوه الضحايا ومسمعةً أصواتهم. 


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

دلالات

المساهمون