اشتقنا لقصِّ الحلَّاق ومقصّه

اشتقنا لقصِّ الحلَّاق ومقصّه

17 ابريل 2020
+ الخط -
يوصي خبراء الأمن والتجسس بأهمية بعض الفئات الاجتماعية، بوصفها مَصدراً لجمع المعلومات، أو مُصدّراً للشائعات، ومن هؤلاء الحلاقون، حيث يتحلّق الناس في محالّهم، صارت تُدعى صالونات في الوقت الحاضر، لالتقاط الأخبار والشائعات. ويتفق الصحفيون مع رأي رجال الأمن في أن صالونات الحلاقة من أغزر منابع الأخبار، وأدقّها لجس نبض الشارع. ولا تقف هذه التهمة التي يُرمى بها الحلاقون، أو الصورة النمطية السائدة عنهم، عند الأمنيين والصحفيين، إذ يشاركهم في ذلك أكبر مرجع ديني مسيحي في العالم، بابا الفاتيكان، فقبل عام تقريباً، خص البابا فرنسيس الحلاقين بقداس حضره نحو 230 حلاقاً ومصفف شعر وأخصائي تجميل. في أثناء زيارتهم حاضرة الفاتيكان، وبلطف من يخشى موس الحلاق المسلط على عنقه، أو المُشرع فوق ذقنه، قرَّع البابا الحلاقين، وحذّرهم من الاستمرار في بث الشائعات بين الناس. وطالب الحبر الأعظم أرباب "معابد الكلام الرخيص"، كما سمّاها، الالتزام بالأخلاق في عملهم، والتعامل مع الزبائن بلطف وكياسة، وأن يحدّثوا الناس بالكلمة الطيبة. 
وكما يتبارى الحلاقون في فن قص الشعر، يتفاضلون كذلك في فن قص الحكايا وموضوعاتها. قد يستغرق الحلاق العتيق، في رواية بطولاته الشخصية عن زمنٍ مات معظم شخوصه، حتى يُرطّب شعر الزبون برذاذ لعابه أكثر مما تفعل بخّاخة الماء البارد. وفي صالون آخر، تأخذ الحماسة حلاقاً "مودرن"، يشرح تفاصيل انتصار ريال مدريد في المواجهة الأخيرة مع برشلونة، حتى يسيل الدم من طرف أذن الزبون الضحية. في دكان الحلاق، تختلط المعلومات بالنميمة، ويتداخل الواقعي بالمتخيل، وتطغى الأخبار المفبركة على الصحيحة. راهناً، جفّ نبع الثرثرة من جوف الحلاق، ولم يعد الزبائن يقلّبون أوراق مجلات قديمة طُمس حبرها خلف غبار الزمن. اختفت المجلات المُصفرة وحلت مكانها شاشات بلازما تلفزيونية، أو انصرف الزبائن إلى شاشات هواتفهم الشخصية، فما عاد الحلاق يحكي، وفقد الزبائن لذّة حاسّة السمع.
بعض الناس لا يعتمدون حلاقهم الشخصي إلا بعد تجريب حلاقين آخرين، أو بعد توصيةٍ قويةٍ من صديق ثقة. وبعض الناس لا يختارون الحلاق بناءً على مهارته في قص شعر الرأس وحرفيته في هندسة اللحية، بقدر ما يقع الاختيار بناء على شطارته في رواية الحكايا، وسرد الأخبار، بدءًا من أحوال الحي وشؤون الجيران وصولاً إلى مستقبل العلاقات الصينية الأميركية، وأسعار النفط والعملات. وللأسف، حَرمنا الحجر الإجباري من سماع تحليلاتهم بشأن وباء كورونا، وما أحاط بانتشاره من نظريات المؤامرة، وأنجع وصفات العلاج الشعبي.
كان الحلاق قديماً، وغالباً ما يُلقب بـ"الحكيم"، مرجع الحي في عمليات الصيانة والترميم الجسدية الصغرى من قصّ الشعر وحلاقة الذقون، إلى التطبيب من أمراضٍ مختلفة بالأعشاب البلدية، ومن ختان الأطفال، إلى قلع الأسنان والحجامة. ولا تكاد ثقافة شعبية تخلو من الحكايا والطرائف التي تُروى عن الحلاقين، أو على ألسنتهم، حتى حضروا في ثنايا حكايات "ألف ليلة وليلة" بمشاهد غاية في الروعة، من أجملها حكاية "حلاق بغداد" التي حوّلها المخرج حسين فوزي في العام 1954 إلى فيلم من بطولة إسماعيل ياسين. وتذكر الروايات التاريخية أنه عُرض على الحجاج بن يوسف الثقفي شاب مخمور، فسأله الوالي: من أنت؟ فأجابه شعراً: أنا ابن من دانت الرقاب له ما بين مخزومها وهاشمها/ تأتيه بالرغم وهي صاغرة يأخذ من مالها ومن دمها.
فامتنع الحجاج عن معاقبته، ظاناً أنه من أقارب أمير المؤمنين، وطلب التحرّي عنه، فقيل له: إنه ابن حجّام، فأعجب بفطنته وعفا عنه.
في زمن كورونا، أُقفلت محال الحلاقة بقرارات منع التجول وإغلاق محال الخدمات غير الأساسية. لا ندري من أبلغ صُنّاع القرار بأن الحلاقة غير أساسية، أو كأنهم أرادوا حجْر الحلاقين لقطع دابرِ شرور "معابد الكلام الرخيص". ليت أُولي الأمر، إن كان هذا وازعهم فعلاً، تركوا محال الحلاقين مفتوحة، وعاقبوا دكاكين إعلامية يَشيبُ الْوِلْدَان من هول رعونتها.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.