استقالة في "نيويورك تايمز"

استقالة في "نيويورك تايمز"

16 يونيو 2020

واجهة مبنى صحيفة نيويورك تايمز في نيويورك (6/9/2028/فرانس برس)

+ الخط -
اضطرّ محرّر صفحات الرأي في صحيفة نيويورك تايمز، جيمس بينيت، إلى الاستقالة، بعد انتقاداتٍ واسعةٍ لنشره مقالا للسيناتور الجمهوري، طوم كوتون، يناصر "استخدام القوة الساحقة لإعادة النظام" في المدن التي انتفضت ضد العنصرية والشرطة، وتعاطفت مع ضحيتهما جورج فلويد، ويدعو إلى نشر الجيش في مواجهة المتظاهرين الساخطين. وقد سوّغ (الزميل؟) بينيت، بدايةً، نشر المقال، الممتاز بحسب الرئيس ترامب الذي اغتبط به، بتنويع الآراء، غير أنه تاليا تراجَع عن دفاعه هذا عن نفسِه، وأقرّ بـ"حدوث خللٍ في عملية التحرير"، وذلك بعد أن وقع 800 عامل في الصحيفة (كم عدد كل موظفيها إذن؟)، على عريضةٍ احتجّوا فيها على مضمون المقال، واعتبروا العاملين ذوي البشرة السوداء في المؤسسة "في خطر" بسببه. واستشعرت هيئة التحرير حرجا شديدا، فأصدرت بيانا تعتذر فيه "نيويورك تايمز" عن نشر المقال الذي "كان يجب ألا يُنشر". وحسنا فعل ناشر الصحيفة، الموصوفة غالبا بأنها الأهم في العالم، أنه أثنى على المحرّر المستقيل، بأنه "صحافي موهوبٌ ونزيهٌ بشكل كبير"، وأنه أشرف على "تحوّل كبير" في قسم الرأي. وفي التفاصيل إن نائب بينيت ربما يكون هو الذي أخطأ في النشر، وقد جرى نقله إلى غرفة الأخبار، وستشرف على الصفحة نائبة ثانية له (كم نائبا له إذن؟).
تضجّ هذه القصة بنفعٍ كثير في مقاربة قضية سلطة الصحافة وسقوفها في الديمقراطيات العتيدة، وكذا في صدد مسؤوليات المؤسسات الإعلامية وكيفيات معالجاتها أخطاءً تقع فيها، وأيضا بشأن قدرات الرأي العام وإمكاناته في التأثير على مؤسسات صناعة الرأي العام، ومنها الصحف. والحديث هنا عن الولايات المتحدة، وعن صحيفةٍ ذات منزلةٍ مهنيةٍ عالية، وذات تفوّقٍ معلومٍ في مقروئيتها. أما فرح ترامب بالمقال موضوع الواقعة هذه، وتساؤله (الطريف؟)، في غضونها، أين الشفافية؟ فالأدعى ألا يُكترث به، فالرجل أنجز، منذ أقام في البيت الأبيض قبل نحو أربع سنوات، أرشيفا معتبرا في مخاصمة الصحافة، بل معاداتها ربما.
إذن، الوقوف، مهنيا وإعلاميا، مع حرية الرأي، وإتاحة أوسع مساحةٍ من ديمقراطية التعبير عنه، لا يجيز تمرير رأيٍ إلى الجمهور العام يتبنّى القوة (الساحقة في مقال السيناتور!) في مواجهة محتجّين غاضبين على أداء واحدةٍ من مؤسسات الدولة، الشرطة. ولا يبيح قوس تعدّدية الآراء في صحيفةٍ ليبراليةٍ توسعته لكلامٍ عن تدخل الجيش في أمرٍ كهذا، عارَضه في الولايات المتحدة نفسها جنرالاتٌ ووزراء دفاع سابقون، بل ووزير الدفاع الحالي أيضا. والخشية هنا أن يتلقّف أصحاب الثقافة الشمولية إياها، في بلادنا العربية الزاهرة مثلا، فيأنسون إلى حكاية جيمس بينيت في بناء ذرائع لمنع ما لا يروق لأولي الحكم نشرُه. على هؤلاء وأشباههم أن يعرفوا أن من وظائف الديمقراطية أن تحمي الحريات، وتصون المسؤوليات في غضونها. ولمّا أشهرت الصحيفة الأميركية أن مقال السيناتور لا يستقيم مع معاييرها، فذلك يفيد بالبديهي، وموجزُه إن حريات الناس وحقوقهم في التعبير عن غضبهم أعلى قيمةً من حرية كاتبٍ في الإدلاء برأيه، وأن دولة المؤسسات والقانون، المفترض أنها قائمة في الولايات المتحدة، ليس الجيش هو من يُسعفها في فرض القانون.
وبشأن "المؤسّسية" البادية في مسلك "نيويورك تايمز" في معالجتها ما حدث (وهو كبيرٌ)، لا يحسُن النظر فيه من باب الانبهار بكل ما هو إفرنجي، وإنما بالإفادة مما في كيفية إدارة ناشر الصحيفة وهيئة التحرير هناك القضية التي باغتتهم، وجعلتهم يقرّون بخطأ كان يجب ألا يحدث. ويعرف صاحب هذه السطور وقائع كثيرة، عن أخطاء، هيّنةٍ وأخرى فادحة، عولجت في غير صحيفةٍ عربيةٍ بتعسّف وشطط ومكابرات، وسخافات أيضا. ولا داعي طبعا للمجيء على مقارناتٍ بين سقوفٍ في "نيويورك تايمز" للحريات وقيعانٍ في وسائط إعلامية عربية بلا عدد. ولا على مقارناتٍ بين مقالات الرأي كيف تنكتب هناك ومقالاته كيف تنكتب بين ظهرانينا، فأمراض مقال الرأي في الصحافات العربية كثيرة، وليس المقام هنا للحديث عنها.
كأنها، إذن، دهشة رفاعة الطهطاوي، لمّا قارن بين ما هناك في باريز (باريس) وما في بلاد العرب والمسلمين، ما زالت في حشايا صاحب هذه السطور، عندما يتنكّب قياس مسافاتٍ عربيةٍ بعيدة عن "نيوريوك تايمز".

دلالات

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".