احقنها بحلم واعلفها دراما

احقنها بحلم واعلفها دراما

25 مايو 2020
+ الخط -
لا أظن أن الضابط أحمد المنسي الذي صنعوا له مسلسلًا جعلوا مشاهدته فرضًا دينيًا، برأي المفتي، وواجبًا وطنيًا، برغبة أنبياء الوطنية الفاسدة، لا أظن أنه حارب واستشهد على رمل سيناء من أجل حرية قاتلٍ أجيرٍ اسمه محسن السكري، اغتال مطربةً لبنانية هام بها عشقًا رجل أعمال اسمه هشام طلعت مصطفى، فلما ابتعدت عنه قرّر استئجار من يمزّق جثتها، في جريمة اقشعر لها جسد العالم.
لا أظن أن الضابط المنسي كان يحارب الإرهاب حتى لقي الشهادة، تاركًا زوجة شابة وطفلًا، لكي يستثمر عبد الفتاح السيسي تفاعل الجمهور مع دراما موته، فيصدر عفوًا رئاسيًا عن قاتلٍ محترف ليلة العيد، وفي زحام الاحتفالات الرسمية بنجاح المسلسل التلفزيوني.
العفو عن القاتل الأجير، ضابط الأمن السابق، بعد العفو عن المقاول الذي استبدّ به الغرام بالمطربة الصاعدة فقرّر قتلها، لم يكن الملمح الوحيد من ملامح الاستثمار المضمون في "ليلة المسلسل"، بل تعدّدت صور الاستثمار والاتجار المربح بدراما حلقة استشهاد المنسي.
لن تكون بصدد السباحة في عمق المبالغة، لو قلت أن نظام السيسي تتلبسّه الآن حالة بارانويا تجعله يتخيّل أنه استطاع حل جميع مشكلاته السابقة والراهنة والقادمة بمسلسل درامي، بل بحلقةٍ واحدة من المسلسل الذي اختاروا له اسم "الاختيار"، وجعلوه اختيارهم الوحيد ومعيارهم الأوحد لقياس الوطنية والتدين والاعتدال، فيكون الإيمان بـ "الاختيار" ركنًا مكملًا لأركان الوثنية الناشئة مع وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، والتي وضعت اشتراطات تجعل من الإنسان المصري شخصًا كافرًا بالوطن وخائنًا لترابه إذا لم يكن مؤمنًا بالسيسي أولًا، والجيش ثانيًا، والشرطة ثالثًا، والآن "الاختيار"، رابعًا، وعدا ذلك فحرية الاعتقاد مكفولة للجميع ومصونة، بنص الدستور وبإجماع آراء مشايخ السلطان، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، حيث كل شيء قابل للنقاش والأخذ والرد، خارج هذا الرباعي المقدس.
في لحظة التنسّك بالمسلسل الدرامي، أتيحت فرص "تعريضية" هائلة لمن كان ينتظر من وجوه المعارضة اللطيفة الأليفة المألوفة مناسبةً لكي يحصل على نصف نظرة رضا من عين النظام، فقرّر أن يرتل تسابيح "الاختيار" في أجواء وطنية مؤثرة، أظهرت كفاءة هذه السلطة ومهاراتها وقدرتها على تسمين سلالات من الوطنية المغشوشة الرخيصة بكميات ضخمة من العلف الدرامي المبتكر، على نحو يذكّر، مرة أخرى، بكلمات عبدالرحمن الأبنودي المحفوظة في الذاكرة منذ أيام أنور السادات، عندما قال له في وصف حالة من الهلوسة القومية، مشابهة لما نعيشه الآن: "احقنها بحلم.. الحلم الأفيون الوهم.. اللي بلا شحم ولحم".
صحيحٌ أن الأبنودي، رحمة الله عليه، مارس مع السيسي كل ما هو ضد ما أخذه على السادات، إلا أنه بالنظر إلى اللوثة التي تعيشها سلطة السيسي هذه الأيام تكشف إلى أي حد انفصلت البلاد عن واقعها، وحبست نفسها داخل دراما تلفزيونية، لا ينكر أحد أنها مصنوعة بمهارة، فاتحدت مع الأحداث وغرقت في خيال المخرج والمؤلف، حتى باتت لا تتصوّر وجودًا آخر خارج أحداث الحلقات.
تحولت في لحظة إلي دولةٍ كرتونيةٍ نظام الحكم فيها مسلسلاتي ميلودرامي، فبدأت عملية إخضاع  الواقع للدراما، بحيث صار واقع المجتمع مستمدًا من الدراما، وليس العكس، وفي طقس غرائبي من هذا النوع من الطبيعي أن يصبح الصحفي المسيحي سامح حنين، وزميله اليساري أحمد ماهر من الإخوان المسلمين الخطرين، الذين يرتكبون جرائم مروّعة، بحجم ممارسة العمل الصحافي والإعلامي، ثم يظهرون في لقطاتٍ لا تقل إتقانًا عن لقطات المسلسل وهم يعترفون بالجرم المشهود: ممارسة العمل الصحافي.
تتخذ الفانتازيا طورًا أكثر فداحةً عندما تتحوّل اعترافات الصحافيين إلى خبرٍ لا يأتيه الباطل بعين زملاء صحافيين يبصمون على بيانات وزارة الداخلية، ويتناولونها كما هي، من دون سؤال أو تعليق أو نقاش، كأنها نصوص مقدسة، فلا يشعر أحد بالخجل أو يهتز له قلم أو ضمير أو تباغته رعشة حزن على مهنةٍ ينتهكها أعداؤها بيده، أو يتذكّر أيامًا ليست بعيدة تمامًا كان يمكن فيها لصحيفة تتمتع بالحد الأدنى من الاحترام المهني أن تتحفظ على نشر بيانات، لا تختلف عن دراما المسلسلات، متضمنةً اعترافات مأخوذة تحت التعذيب.
في وضع مهني بائس إلى هذا الحد، كان من الطبيعي أن لا يترك بيان الأمن مساحة في "صحافة الاختيار" لموضوعاتٍ عن أمل دنقل (شاعر لا) الذي صادفت ذكرى رحيله يوم نشر الاعترافات التي صوّرها مخرج وزارة الداخلية وأرسلها إلى الصحف.
في لحظة نشوة المسلسل ماتت قيم وانتحرت معايير، فمرّت اعتقالات وأعمال تعذيب ويتم استئناف أعمال القتل خارج القانون بتصفية 21 شخصًا في بئر العبد، مع عنوان لامع: إرهابيون كانوا يستعدون لتفجيرات في العيد، من دون أن يحرّك أحد شفتيه بكلمة.
هي لحظة الغياب الكامل للعقل والتفكير، فتتحوّل كل علامات الفشل والبلادة والخيبة في الواقع الفعلي إلى أعمالٍ بطوليةٍ خارقة في المسلسل، ويتم غسل كل الجرائم وإسقاطها بحلقة استشهاد المنسي، فمن يجرؤ في هذا الطقس الأسطوري على التذكير بجرائم القتل وحرق الجثث ومساومة أهالي شهداء مذابح إرهاب النظام على تصاريح الدفن، وجرائم ارتكبت داخل قاعات وفوق منصات القضاء، وجرائم حرق المعتقلين داخل علبٍ من الحديد تسمى سيارات ترحيلات، وجرائم اختطاف نساء والتهديد باغتصابهن لانتزاع اعترافاتٍ من أزواجهن أو أشقائهن أو آبائهن المعتقلين، وجرائم سياسية تصل إلى التصرّف في خريطة مصر باعتبارها قطعة أرض للبيع، كما تم مع جزيرتي تيران وصنافير، وجرائم قتل المسجونين بالحرمان من العلاج ومنع الدواء التي طالت الجميع من رئيس الجمهورية الذي تم الانقلاب عليه إلى مواطنين بسطاء.. كل هذه الجرائم المعلقة برقبة "النظام" حولوها بحلقة واحدة من مسلسل الحرب على "التنظيم" إلى فضائل وبطولات على طريقة الجنرال ميمي، على الرغم من أن المسافة صفر بين النظام والتنظيم.
وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا