إيلان بابه: هذا هو الفلسطيني في "الفكر الصهيوني"

إيلان بابه: هذا هو الفلسطيني في "الفكر الصهيوني"

20 سبتمبر 2015
جعفر الخالدي، جبس وألوان بخاخة وزيتية على ورق (2013)
+ الخط -

في كانون الثاني/ يناير 2012، عرضت إحدى محطات التلفزة الإسرائيلية بكل فخر فيلمًا وثائقيًا عنوانه "تاريخ الإرهاب"- وهو مشروع مشترك بين التلفاز الإسرائيلي والمحطة الفرنسية الثانية. وقد اعتمد الفيلم على أعمال عدد من المفكرين الإسرائيليين والفرنسيين.

يتتبع الفيلم مسار الإرهاب الحديث في العالم، ويعثر على بدايات واضحة له في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والثورة الكوبية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وجميعها حسب تعبير البرنامج تنطوي على "أيديولوجيات إجرامية" شوّهت تاريخ العالم. وتناول القسم الأخير من البرنامج بشيء من التفصيل حركة حماس والربيع العربي كجزءٍ غير منتهٍ بعدُ من حكاية الإرهاب العالميّ.

دأبت معظم وسائل الإعلام والجهود الأكاديمية الإسرائيلية على وضع حركات المقاومة الفلسطينية كعامل أساسي في التاريخ العالمي للإرهاب. ويتمثل دور الأكاديمي الإسرائيلي في إثبات هذه الفكرة بالأبحاث "العلميّة" التي توثّق حالات العنف التي يرتكبها الفلسطينيون وتؤكّد مطابقة التعريفات النظرية للإرهاب على هذه الأفعال.

ولا ريبَ في أنّ السياسيين في إسرائيل والعاملين في الإعلام يقبلون هذه الصورة بلا تردّد، رغمَ أنّ التركيز عليها قد تراجع نوعًا ما في الفترة التي أعقبت معاهدة أوسلو التي ما لبثت أن فشلت.

إنّ صورة الفلسطينيّ هذه عميقة الغور في التاريخ الصهيوني وتعود إلى فترة العلياه الثانية في بداية القرن العشرين (1904-1914). كان الفلسطينيون في نظر هؤلاء المستوطنين إمّا غير موجودين أو كائنات غريبة لا ينبغي أن تكون أصلًا. وتراوحت تقديرات أعداد المهاجرين الذين وصلوا إلى فلسطين في العلياه الثانية بين 20،000 و40،000 مهاجر أتى معظمهم من روسيا (لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّهم شكّلوا أربعةً بالمئة فقط من مجموع اليهود الذين خرجوا من روسيا في تلك الفترة).

إلا أنّ موجة الهجرة هذه لم تمثّل قصة نجاح كاملة، إذ غادر معظمهم (90 بالمئة تقريبًا) فلسطين بسرعة متوجهين بشكل أساسي إلى الولايات المتحدة، ولم يبق منهم إلا بضعة آلاف. إلا أنّهم رغم قلّة عددهم حققوا عددًا من الإنجازات: فقد طردوا الفلسطينيين العاملين في المستعمرات اليهودية القديمة تحت شعار "العمل العبري" والذي يقضي بطرد كافة العمال العرب من المستعمرات اليهودية كخطوة أساسية لوضع أسس دولتهم في المستقبل.

معظم هؤلاء اليهود عرفوا الفلسطينيين في مثل هذه الظروف، فقد بدأ الاحتكاك بينهم على شاطئ حيفا، ثم أثناء العمل معاً في المستعمرات اليهودية أو في المدن. وحينما أدرك هؤلاء اليهود أنّ للفلسطينيين وجودًا حقيقيًّا في هذه الأرض قرروا، كما يفعل جميع المستعمرين، إنشاء مجتمعاتهم المغلقة وتأسيس اقتصاد وسوق خاصّة لهم من دون الفلسطينيين.

وقد تطلّب تحقيق هذا الأمر تغطية قانونية من البرلمان لحماية هذه المستعمرات، ولم يكن هذا ليسبب مشكلة قطّ، فقد سارعت سلطات الانتداب البريطاني إلى إقرار هذه النزعة الانفصالية وشرعنتها في فلسطين.


فلسطين دولة عربية
لقد سيطرت على المهاجرين الجدد رغبةٌ عارمة في كتابة اليوميّات والرسائل، ولم ينسوا الكتابة عن أي شيء ولو كان عضّة بعوضة، كما أنّهم وبطريقةٍ تُذكّر بيهود الشتيتلات، لم يتوقفوا عن الشكوى. وتعود أوّل كتاباتهم المعادية للعرب إلى الفترة التي كانوا فيها في ضيافة الفلسطينيين في المستعمرات القديمة أو في المدن الفلسطينية.

وقد كانت هذه الشكاوى نابعة من تجارب أوّلية مرّ بها أولئك المستعمرون أثناء بحثهم عن العمل والرزق، إذ كانوا يواجهون المشاكل ذاتها سواء ذهبوا إلى المستعمرات الصهيونية أو إلى المدن الفلسطينية، ولم يكن أمامهم سوى أن يعملوا إلى جانب المزارعين أو العمال الفلسطينيين، وهكذا أدركوا، حتى الجاهلون منهم والمتعصبون، أنَّ فلسطين دولة عربية وأن العين لا تخطئ وجودهم أينما نظرت. إنها فترة قاسية من الإقرار بالحقيقة المرّة تغشاها سحابة من الأفكار الأولى حول كيفية تغيير هذه الحال. إن عملية إنتاج المعرفة في إسرائيل، وخاصة في ما يتعلق بصورة الفلسطينيين وطبائعهم فيما ندعوه نحن "فكرة إسرائيل" قد تأثرت بشكل كبير بالانطباعات الأولى التي تشكلت في تلك الفترة.

حينما لجأ أحد الناشطين البارزين في العلياه الثانية إلى استخدام استعارة طبية في وصف العمال الفلسطينيين بأنهم Beit Mihush (مرتع الأوبئة)، كان يدرك على الفور أنّ الترياق يتمثّل في إيجاد عمالة يهوديّة في بيئة عمل حصريّة لليهود. وفي العديد من الرسائل يظهر العمال اليهود بوصفهم الدماء الجديدة السليمة التي ستحصّن الأمّة من العفن والموت. وهناك رسالة يشير كاتبها إلى الحماقة في السماح للعرب بالعمل مع اليهود، ذاكرًا قصّة يهودية قديمة عن رجل غبيّ أنقذ أسدًا كادَ يموت فكان نصيبه الموت بين فكّيه.

أما في ما يتعلق بأرض فلسطين، فقد كان المستوطنون يتحدثون عنها بوصفها أرضًا غريبة (nechar)، أو حتّى لجّةً من الاغتراب والوحشة (yam nechar). فقد كانت الإشارة إلى فلسطين دومًا على أنها أرض قاحلة لا سكّان فيها سوى مجموعة من الأشخاص البدائيين الذين يجوبون هذه البريّة. وتظهر هذه الأوصاف عادة في كتاباتهم اليوميّة أو في رسائل غاضبة يشتكي كتّابها من تحوّل وطنهم إلى صحراء قاحلة (shemama).

فوجود الفلسطينيين مرتبطٌ بكلّ ما هو قاحل وميّت، وهذا ما دفع بعض المستوطنين إلى إعادة النظر في مشروع الاستيطان والتفكير في العودة وترك ما وصفه أحدهم بأنها "أرض اللاشيء"، وذلك لأنّه قد تبين لهم أنّ هذه الأرض التي وصفت بأنها خلوٌ من الناس مليئة بالأغراب- "أناسٌ كانوا أغرب لنا من الفلاحين الروس أو البولنديين" ولذا وجدنا أنه "لا شيء يجمع بيننا وبين غالبية الناس الذين يعيشون هنا".

وهذا صحيح! فَلِشخص قادمٍ من أوروبا لا بدّ أن تكون فلسطين مكانًا غريبًا من الناحية الموضوعية. ولكنّها كانت للمستوطنين غريبةً أيديولوجيًّا لأنّ فيها أناسًا غرباء يعيشون فيها، مما جعل للمكان سمة غرائبية في نظرهم. ثم إنّ هؤلاء الناس لم يكونوا غرباء وحسب، بل كانوا غرباء معتدين في نظرهم، وهذا الاعتداء بدأ ضد اليهود كما يدّعون من اللقاء الأوّل بهم.


انزعاج المستعمر من وجود أهل البلاد
وكما هي حال جميع المغتربين، أبحر المستوطنون اليهود أولًا إلى الإسكندرية، ثم انتقلوا إلى يافا بالعبّارة وبعدها بقوارب صغيرة نحو الشاطئ. فكان وصولهم إلى الشاطئ بهذا الشكل البسيط في نظرهم معاملة عدوانيّة وغريبة، فكانوا يقولون:

"Aravim Hetikifu Ottanu" أي "العرب اعتدوا علينا"- وهذه هي العبارة التي استخدمها المستوطنون في وصف الأولاد الفلسطينيين الذين ساعدوهم أثناء صعودهم للمراكب الصغيرة للذهاب إلى يافا، إذ كان هؤلاء الأولاد يرفعون أصواتهم لأنّ الأمواج كانت عالية ولأنهم طالبوا اليهود بإكراميّاتهم التي كانوا يعتاشون عليها. لكنّ هؤلاء الفلسطينيين في رواية المستوطنين كانوا محض معتدين.

إنّ الإزعاج وارتفاع الصوت، وهما سمتان مميزتان للمدن اليهودية في أوروبا الشرق، باتا مصدرًا للتهديد والاعتداء حين صدر من النساء الفلسطينيات اللاتي كنّ يلوّحن ويزغردن فرحًا بعودة البحارة سالمين إلى بيوتهم. كان هذا في نظر المستوطنين تصرفًا متوحّشًا من أناس بدائيين "لهم أعينٌ محمرّة ولغة عجيبة تخرج من نحورهم". وسواء عليهم أكان الأمر متعلقًا باللغة أم اللباس أم الحيوانات، فإن ما كتبه المستوطنون عن الفلسطينيين كان دومًا حديثًا عن كل ما هو مستقبح وغريب.

إنّ الشعور بالاغتراب والانزعاج من وجود العرب في فلسطين لم يكن الأمر الوحيد الذي أزعج الصهاينة عند لقائهم الأول بسكان الأرض الأصليين. فمما زاد من امتعاض هؤلاء المهاجرين وحيرتهم هو النسيج الديمغرافي في المستعمرات اليهودية القديمة نفسها. فقد كتب يونا هورفِيتس في مذكّراته، وهو أحد الشخصيات البارزة في موجات الهجرة الأولى، كيف أنّه كان منزعجًا حدّ القرف حين رأى أنّ أحد المنازل في الخضيرة كان مسكونا بالعرب.

أما في جوهرة التاج الصهيوني، ريشون لتسيون، فقد أخبر ناتان حوفشي (وقد صيغ اسم العائلة هذا لدى وصوله إلى فلسطين، ويعني "الإنسان الحر") حين رجع إلى بولندا أنّه كان يتميّز غيظًا حين كان يرى العرب برجالهم ونسائهم وأطفالهم يعبرون هذه المستعمرة. وقد قال بالحرف الواحد "Nehradeti" أي لقد كنت "مصعوقًا" لرؤية ذلك، وأضاف:

"لعل ما فعلناه خطأ فادحٌ وهذه أرض أجنبية". ثم كتب في رسالة أخرى أنه "فور ما مُنع العرب من الدخول إليها [ريشون لتسيون] استحالت لنا وطنًا".

وعادة ما يشار إلى وجود الفلسطينيين قرب المستعمرات اليهودية بأنه "وصمة عارٌ" (Kalon) ويعزّز هذا الشعور ما يظهره العرب من احتقار (laag) و ازدراء (buz)، والذين خيّل إليهم ربّما أنّ في حال أولئك المهاجرين ما يدعو للشفقة، إذ يذكر سكان المستعمرة أنّ العرب كانوا ينعتونهم بالمساكين. ثم إنّ العجب في نفوس اليهود بلغ مداه حين رأوا أن الفلسطينيين أنفسهم يحرسون أراضي المستعمرين الأوائل.

إنّ الحل الأمثل لمحو وصمة العار (Kalon) هو تحقيق الشرف (kavod). ففي ذلك الوقت، كان المستشرقون الصهاينة يسعون لتوضيح إمكانية استغلال أهمية الشرف في "الثقافة العربية" من أجل تحقيق النجاح لمشروعهم. وكان المستعمرون الصهاينة يتصرفون دومًا على أنّهم شعبٌ قد تعرّض للإهانة، سواء أكان ذلك حقيقة بشكل اعتداء ماديّ عليهم، أم كان ذلك متمثلًا بمحض وجود الفلسطينيين في فلسطين وهو الأكثر. ومن الجوانب المثيرة للاهتمام في هذا البحث عن الشرق هو ما يُذكر من أمر التنافس المستمرّ مع العمال الفلسطينيين في الإنتاج.

كما أن المستعمرين الصهاينة بدأوا بممارسة ما وصفوه هم بالردّ على "السرقة"، وهو الوصف الذي أطلقوه على ما كان يفعله العرب من استصلاحٍ لأراضي الدولة في زمن الدولة العثمانية. فصار التقاط الثمار من البساتين على قارعة الطريق سرقةً واعتداءً بعد أن استولى الصهاينة على الأرض، حيث كانوا يلقون على الفلسطيني جزافًا أوصافًا من قبيل "السارق" (shoded) و"القاتل" (rozeach) حين يرونه يقوم بمثل هذا التصرف، أما بعد العام 1948 فصاروا يصفونه "بالإرهابي" و"المخرّب".

إلا أنّ كل هذه المواقف التي طُبعت بالعنف وكلّ هذا الخطاب المتحيّز ضد السكّان المحليين لم يكن كافيًا لصدّ المستوطنين عن طلب العون منهم ليتعلموا رعي الماشية والزراعة والعيش في هذه الأرض. وبعد مضيّ فترة قصيرة صارت "تصرفات العرب وأسلوبهم في المأكل والمشرب والزراعة" شرّا لا مفرّ منه في بداية الأمر ولا بدّ من التخلّص منه في أسرع وقت ممكن، وهذه كانت المهمّة المعلنة لموجة الهجرة الأخرى في العلياه الثانية.

رغم أنّ الاستحواذ على عادات السكان المحليين بهدف التخلّص منهم كان يعدّ شرّا اضطراريًا مؤقتًا، إلا أنّه قد تم التوسع حينًا في توظيف هذا الشرّ في خدمة المشروع الصهيوني. كانت هذه فكرةَ شخص يدعى آرثر روبِين حيث اقترح أن يتم إنشاء مضافةٍ تقليدية كي يُستقبل فيها أعيان المنطقة للتفاوض حول الأراضي التي لا مالكَ لها ليستحوذ عليها الصهاينة.

كان أولئك الأعيان يمثلون مستأجري الأراضي، وكان هدف الصهاينة إقناعهم بطرد المستأجرين منها لإتاحة المجال لإنشاء المستعمرة الصهيونية على الأرض بعد أن يتمّ شراؤها. لقد تمت عملية تطهير الأرض من المزارعين والمستأجرين في بداية الأمر من خلال الاجتماع في هذه "المضافة" الصهيونية ومن ثم تم إخلاء الأراضي والاستيلاء عليها بالقوة زمن الانتداب.

وهكذا تم تصنيف الفلسطينيين، فمنهم "الطيبون" الذين أتوا إلى "المضافة" وقبلوا بالتنازل عن الأرض، أما من رفضوا ذلك فوسموا بأنهم حفنة لصوص وقتلة. حتى أولئك الفلسطينيون الذين كانوا يتشاركون مع المستوطنين بخيلهم أو بساعات العمل الطويلة في نوبات الحراسة وغيرها أضحوا أشرارًا حين رفضوا تسليم الأرض. ويستمر الأمر على هذا المنوال، فحيثما يكون الإسرائيليون يتحكمون بحياة الفلسطينيين يكون رفض التعاون معهم دليلهم الأوّل على أنّ الفلسطيني يفضّل خيار الإرهاب ويتخذه طريقةً في حياته.

أما فلسطين المدينة، وخاصّة يافا، فقد تركت انطباعًا مختلفًا إلى حدّ ما. فالمدينة كما جاء على لسان بن غوريُون وغيره كانت تضمّ "عددًا كبيرًا من المسيحيين". لقد كانوا متعلمين ووطنيين، كما أنّهم أدركوا بشكل أو بآخر معنى الصهيونية وهدفها، وأظهروا عنادًا وحزمًا واضحين.

وبناء على هذه الملاحظات قال أحد المستوطنين ويدعى إسرائيل كاديشمان "إننا في حاجة إلى الذكاء وليس مجرّد القوّة" لمواجهة عرب يافا. لقد انطوت يافا على كل ما يخافه ويبغضه مهاجرو العلياه الثانية. فجنين عام 1967، ونابلس عام 1987، والخليل عام 2000، وغزة في 2008، والناصرة في 2011: كلها وصفت بوصف مشابه على أنّها مراكز لتعزيز الهويّة الوطنية الفلسطينية وبؤر للأنشطة الإرهابية.

لقد مثّل الفلسطينيون، سواء أكانوا في القرى أم المدن، خيبة أمل مضاعفة للصهاينة: الأولى بأنّهم موجودون في هذه الأرض، والثانية بأنهم غير ممتنّين لحضور هؤلاء الأغراب. فمن عجائب الأمور أن المهاجرين في العلياه الثانية لم يقدموا شيئًا يذكر للفلسطينيين، بينما مهاجرو العلياه الأولى قدموا على الأقل فرص عمل للفلسطينيين، وإن بطريقة استغلالية. ومع ذلك بقي الفلسطينيون غير ممتنّين لهم.

ولم يكن من الممكن التعبير عن أيّ مشاعر إنسانيّة فيها شيء من التعاطف. فحينما قام أحد الناشطين القادمين مع العلياه الثانية ويدعى يوسف روبِنيفِتش بإطلاق العنان لنفسه في ما وصفها "لحظة ضعف" وتغنّى بجمال قرية عربية ساحرة مفتونًا بصوت الناي لأحد الرعاة فيها، كان عليه أن يذكّر نفسه مؤنبًا بأنّ "هؤلاء أغراب على أرض الوطن".

إنّ الرّغبة في طرد الفلسطينيين من أجل أن تكون فلسطينُ جنّة اليهود ومستقرّهم الآمن كانت هي الرسالة الأوضح والأكثر ترددًا على ألسنة المهاجرين من العلياه الثانية. لقد كان يوسف روبنيفتش أحد أعتى المعارضين لاستخدام الفلسطينيين في العمل، فهم في نظره "هذا الشرّ" (hara hazeh): "إننا قلّة، وإن قاموا علينا فسينتهي أمرنا". ويضيف مستدركًا أنّه كان يلتقي وإن بشكل عارض ببعض المزارعين الجيّدين، إلا أنّه كان يعرف أنّهم (raahola) أي "شرٌّ خبيث".

وفي أثناء الحكم العسكري، كانت تُستخدم عبارة (raahola) هذه في النقاشات التي تدور حول مستقبل الفلسطينيين في إسرائيل، فقد كانت فكرة طردهم واردة بشكل جديّ في ذلك الوقت كبديل عن أحكام الطوارئ في ظل حكومة الانتداب والتي حرمت الفلسطينيين حتى العام 1967 من معظم حقوقهم الإنسانية والمدنية.

أمّا الاستعارة التي تصف الفلسطينيين بالمرض الذي يلزم التداوي منه فقد كانت شائعة في الخطاب السياسي الرسمي في سبعينات القرن الماضي. فكثيرًا ما كان يشار إلى الفلسطينيين بأنهم "السرطان في قلب الأمّة" ودرج العديد خاطئين على ربط هذه الإشارة بتقرير كينِغ.

لقد كان يسرائيل كينِغ أحد أكبر المسؤولين في وزارة الداخلية عن المناطق الشمالية حيث نصف السكّان فيها من الفلسطينيين. وقد طُلب إليه في حكومة رابين الأولى (1974-1977) أن يقدم إستراتيجية خاصة بتهويد المنطقة مع الأخذ بالاعتبار للحقائق الديمغرافية فيها. ورغم ارتباط كينغ بهذه الإشارة المتعلقة بالسرطان، إلا أنّه لم يكن الشخص الذي صاغها. ولقد اقترحَ كينغ في هذا التقرير، وإن كانت لغته أقلّ حدّة، عددًا من الإجراءات الهمجيّة ضد الفلسطينيين، حيث تعامل معهم كمرض لا بدّ من استئصاله كي لا يضرّ ببقية الجسد السليم.

إنّ تجربة الاغتراب، بمعنى الشعور بالاغتراب في محيطٍ عربيّ أو بمعنى وصف العرب كغرباء عدائيين- أصبحت أمرًا أكثر رسوخًا بعد العام 1967 وذلك من خلال التشريعات والسياسات الحكومية والتوجهات الرسمية التي تشرعن التمييز ضد العرب، وتزامن ذلك مع كون العرب موضوعًا جديدًا للجهود الأكاديمية الإسرائيلية.

فبعد حرب عام 1967، كان إنتاج المعرفة في إسرائيل فيما يتعلق بالفلسطينيين مُنصبّا على مشروع "اعرفْ عدوّك" وما يستلزمه ذلك من جمع استخباراتي وعسكريّ للمعلومات. ولهذا السبب عمدَ الأكاديميون ووسائل الإعلام في إسرائيل عند النظر في أي نشاط سياسي أو اجتماعي فلسطيني إلى وسمه بأنه "إرهابي". ثم إنّ هذا "الإرهاب الفلسطيني" ليس بالأمر الطارئ بل يدّعون أنّه مستمرّ منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين إلى أن شرع الأكاديميون في بحث هذه المسألة بشكل جدّيّ.

لقد كان هذا التوصيف على هذا النحو أمرًا شاملًا وجازمًا إلى أن صار كل فصلٍ في التاريخ الفلسطيني مرتبطًا بالإرهاب ولم ينجُ من هذا الوصف أيّ مؤسسة أو شخصية انخرطت في الحركة الوطنية الفلسطينية، وشارك الجميع في بناء هذه الصورة القاتمة عن الفلسطينيين؛ الحكومة، والأكاديميون، والجيش، ومنظمات المجتمع المدني.

***

الفلسطينيون أي شيء سوى أنّهم حركة وطنيّة
إنّ غياب أيّ ذكر للمأساة الفلسطينية في كتب التاريخ الإسرائيلية، كان مؤشراً لنظرة استشراقية إسرائيلية أكثر شمولاً. لقد كانت النظرة التاريخية عن الفلسطينيين حتى الثمانينيات، نظرة أحادية وقائمة على خلق الصور النمطية. فلم يُذكر السكان المحليون الذين كانوا في أيام العثمانيين إلّا ذكرًا عابرًا كعنصر غير ذي بال في المشهد الجغرافي في الأرض الموعودة الخالية التي تنتظر من يُخلصها.

أما بين العامين 1948 و1967، فقد سقطَ ذكر الفلسطينيين كذلك كموضوع أكاديمي باستثناء ذكرهم في بعض الأحيان بوصفهم لاجئين. أما بعد عام 1967 فقد ألحق بهم وصف الإرهابيين، كما أسلفنا في فصل سابق. لكن حتى في هذا الوصف لم يكن الحديث عن الفلسطينيين باعتبار أنهم طرف مستقلّ قائم بذاته، وإنما كانوا يظهرون على أنّهم أدواتٌ تستخدم من الأنظمة العربية للقضاء على الدولة اليهوديّة.

لا شكّ في أنّ لهذا الأمر ما يسوّغه لديهم. فالاعتراف بوجود مستقلّ للفلسطينيين (وإن كان وجودًا ضعيفًا وصغيرًا) كمجموعة من الناس أصحاب وطن يكافحون من أجل حقوقهم، هو أمر يتناقض مع صورة الصهيوني عن نفسه بأنّه المستضعف، كما يتناقض مع الأسطورة الصهيونية التي تدّعي أنّ فئة قليلة من اليهود تغلّبوا بشكل عجائبيّ على الكثرة.

إن التاريخ الصهيوني البطولي الذي وضع عن عام 1948 ينطوي على تناقض داخلي واحد على الأقل من شأنه أن يقلقل، ولو لحين، قناعة أولئك الموالين للصهيونية الذين بذلوا جهدهم في إعادة بناء الأحداث عام 1948 من دون الإخلال بالأساطير المؤسسة التي تتكئ عليها تلك الأحداث.

إن كان الفلسطينيون قد تركوا أرضهم دون قتال، فما وجه البطولة إذن فيما حدث عام 1948؟ فالقصّة وإن لم تكن دالّة على بطولة فلسطينية فإنّها تدلّ على الأقل على مأساة فلسطينية. ولذا كان أفضل وسيلة للتعامل مع هذا التناقض أكاديميًّا هو إسقاط العنصر الفلسطينيّ من القصّة برمّته، واتباع ذلك، إن أمكن، بإضفاء القدسيّة والانصياع للأيديولوجيا وتاريخ أحداث عام 1948 معًا.

أما من تعاملوا مع الفلسطينيين والدول العربية في سياق حرب 1948 فقد اكتفوا بتسليط الضوء على الدوافع، أو قل غياب الدوافع "المنطقية" التي تسوّغ ما فعله العرب في تلك السنة. إذ يظهر العرب على أنّهم مدفوعون بعواطف تستعصي على أي تفسير منطقي.

والنتيجة أنّه ليس مفهومًا لديهم سبب إقدام العرب على شنّ حرب على إسرائيل عام 1948. فهنالك بعض الكتب التاريخية مثل كتاب "تاريخ البعث" (1959)، والذي أعدّ من القسم التاريخي في "جيش الدفاع الإسرائيلي"، و"تاريخ حرب الاستقلال" (1963) والذي كتبه نتنائيل لورخ، بالإضافة إلى الكتاب الشهير لجون وديفيد كيمحي بعنوان "على جانبي التلّة" (1973) والمقدمات والحواشي على كتاب ديفيد بن غوريُون "مذكرات حرب 1948" (1984) والتي تقدّم التفسير عينه، وأقصد هنا غياب أي تفسير لما حصل.

فقد أشار بن غوريُون مثلًا في مذكراته "لم يكد إعلان التقسيم يصدر عن المجتمعين في ليك سكسيس (وهو المكان الذي أُعتمد فيه قرار التقسيم في الأمم المتحدة) حتى اندلعت القلاقل في الدولة".

كانت هذه، إذن، هي الطريقة التي تُصوّر فيها الأمور: كانت المشاكل تظهر فجأة هكذا بلا سبب، وصار العرب يعتدون على اليهود، هذا كل ما حدث. وبعدها عرِف أصل هذه "المشاكل": هجمات سببها كراهية لا سبيل لفهمها تضطر القوات اليهودية إلى الدفاع عن نفسها بشجاعة وعزيمة.

إن الشرّ الذي لا تفكّ مغاليقه ولا يفهم أصله يكون أكثر وحشيّة من سواه. لقد وصفت كل العمليات التي قام بها العرب، وذلك في السجلات التاريخية الرسميّة حتى عام 1982، ومنذ بداية الألفية الثالثة حتى الآن، بالإجرامية وأنها عمليات قتل عشوائية وأفعال همجيّة يقترفها موتى القلوب والمتعطّشون للدم.

وقد بات هذا العنف غير المفهوم في عرف الأكاديميين سمةً أساسيّة لثقافة العرب وعيشهم. والحقيقة الصادمة أنّ هذا الوصف قد ورد مِرارًا كما هو في الجزء السادس من "الموسوعة العبريّة" (وهي المرادف الإسرائيلي للموسوعة البريطانيّة) في الموضوعات المتعلقة بحرب عام 1948 والمواجهات التي سبقتها بين العرب واليهود خلال الانتداب.

وقد خصّص الجزء السادس من الموسوعة لأرض إسرائيل (Eretz Israel) ولم تجرِ عليه سوى مراجعة بسيطة في السنوات الماضية. كل ما ورد من حديث عن تلك الفترة في هذه الموسوعة وما تخللها من أعمال مقاومة فلسطينية ضد الصهيونية في مفاصل تاريخية مهمّة كأحداث أعوام 1920 و 1929 و 1936 و 1948 قد اختزل في أنّها أعمال ناجمة عن تحريض لعصابةٍ من الناس لا تملك رأيًا لها ولا تحرّكها غاية واضحة.

وتتكرر فكرة "العصابة الخاضعة للتحريض" في الموسوعة وتظهر على أنّها السلاح الذي استخدمه المسؤولون الإنجليز المعادون للصهيونية أو المتشددون من وجهاء المسلمين بهدف تدمير الدولة اليهودية القادمة ووأدها. ولم ترد أدنى إشارة إلى أنّ الفلسطينيين إنما يبتغون الدفاع عن أرضهم أو أنّهم يشكّلون حركة وطنيّة تناضل من أجل الاستقلال.

(* مقطعان من "فكرة إسرائيل" لـ إيلان بابه، 2014. ** محمد زيدان مترجم فلسطيني أردني مقيم في إسطنبول)