إلياس عطا الله: المقاومة اللغويّة جهادٌ أكبر

إلياس عطا الله: المقاومة اللغويّة جهادٌ أكبر

29 مارس 2015
تصوير: جوزيف نويصري (العربي الجديد)
+ الخط -

يقف إلياس عطا الله في طليعة اللغويين العرب الذين يوثقون الصلة بين اللغة والهوية ومستقبل الإنسان العربي ومشروع تحرره، وهو في فلسطين المحتلة عام 1948 العمود الواسط لبيت العربية والعارف للَبِنات صمودها في مواجهة السياسات الاستعمارية، إذ يرى في صمود العربية إسقاطاً لفعل النكبة الثّانية.

في هذا الحوار، نتبيّن ملامح معركة اللغة العربية في فلسطين لدى مثقف جمع في مسيرته بين التأليف والتنظير في علم اللغة وبين النضال الميداني والعمل المجتمعي الوطني. تصحبه في كل ذلك جدارة مقترنة بتواضع نادر.


يستغرب بعضهم حفاظ الشعب الفلسطينيّ في فلسطين المحتلّة عام 1948 على لغته العربيّة كجزء من تمسّكه بهويّته، كيف توصّف ملامح هذه المعركة اللغويّة والمراحل التي مرّت بها؟


لا أستهجن هذا الاستغراب، وأردّه إلى عقود طويلة من الجهل والتجاهل "العربيّين" لوجودنا عربًا فلسطينيّين ظلّوا في وطنهم الذي صار يدعى إسرائيل؛ فمنذ أن بدأنا نزور بعض الدّول العربيّة جبَهَتنا فكرة يهوديّتنا أو إسرائيليّتنا حين قيل لهم إنّنا "من إسرائيل"، وكنّا نرى الاستغراب والدهشة في العيون!

لا شكّ في أنّ الأمور تغيّرت الآن. نحن نحافظ على لغتنا لأنّنا، بها، نحافظ على هويّتنا وعروبتنا وانتمائنا؛ بقاءُ العربيّة إسقاطٌ لفعل النكبة الثّانية، فالنكبة التي بدأت بالإنسان لا تكتمل فصولها إلّا باللسان، وهذا ما تسعى إليه الدولة العبريّة بممارسات جليّة، وأخرى خفيّة.

عرفتِ الصهيونيّة منذ البداية وقبل النكبة أنّ اللّغة تبني الأمم، ولذا حرصت على عبرنة كلّ اليهود الذين دخلوا فلسطين من أرجاء العالم، يحملون لغات أوطانهم ولهجاتهم، أدخلوهم في"بوتقة الصهر" أعوامًا، وغرست فيهم العبريّة الإسرائيليّة حديثة العهد لتأسيس شعب، وبنَت مؤسّساتها الأكاديميّة قبل الـ 48 (التخنيون والجامعة العبريّة)، لتُوضَعَ قواعد ترسى عليها دولة؛ أرض وسيادة ولغة قومية وعلوم، وفي الوقت نفسه نزعوا من الفلسطينيّين هذه المقوّمات، فلا أرضَ ولا سيادة ولا تعليم، ولم يقضّ مضجعهم إلّا العربيّة وشيجةً قوميّة، فحاولوا، رغم رسميّتها القانونيّة، نزع هذه الرسميّة بالممارسة لا بالتشريع، وكأنّ لسان حالهم يقول: الزمن فاعلٌ لا محالة فعلَه؛ كلّ ما حولك يرغمك على إجادة العبريّة، لا التعليم من الطفولة المبكرة فحسب، بل لا مناصيّة علاقة المواطن بالمؤسّسة الحاكمة الناطقة بالعبريّة، بربّ العمل العبريّ، بضرورات حياتك اليوميّة، تنقّلك، صحّتك، قضاياك، شوارعك، لافتات المحالّ التجاريّة... كلّ شيء ينطق بالعبريّة، وإن شئت الانخراط في الدراسة الأكاديميّة، فجواز دخولك العبريّة، حتّى إلى أقسام اللغة العربيّة.

هذه، وعوامل أخرى كثيرة، تجعلكَ تتعبرنُ قسرًا لتدبّر أحوال معيشتك و"مواطنتك"، بكلمات أخرى، أفقنا على واقع كون العبريّة لغة مهيمنة حاكمة، والعربيّة لغة محكومة مدحورة، تسمع منها ما تريد السلطة أن تسمع، تتعلّم منها ما تريدك أن تتعلّم، ومن هنا بدأت سياسة تهميش العربيّة وتشويهها، آملين أن تقع القطيعة بين الفلسطينيّ وأمّته وحضارته جرّاء برطمته بالعربيّة الخالية من العربيّة.

علاقتنا بالعربيّة وتشبّثنا بها نابعان من إيماننا بأنّ الأمم تسقط بسقوط لغاتها، وتبقى وترقى ببقاء لغاتها. وضياع لغتنا لا يعني إلّا اندثارنا، وباطلٌ نضالنا وباطلة طموحاتنا إلى التحرّر والعودة والحقّ... تمسّكنا بالعربيّة شرط مصداقيّة لكلّ نضال ومطلب.

لا حقّ لأحد أن يبحث عن وطن وهو يبعثر لغته! هي معركة لغة ووجود فعلًا، يهدمون فنبني، يهمّشون فيزيد تركيزنا، ينشرون اللحن والغثّ، وننشر السليم البليغ، نرفض كلّ تغييب وإقصاء، ولنا كلمتنا عبر أفراد وأجسام أهليّة وقانونيّة، ولنا جمهرة من الطواقم التدريسيّة الواعية، وطلبة واعون لهويّتهم، ولمركزيّة لغتهم في الهويّة.


هل تجد للمخاوف من اندثار أو تلاشي اللغة العربيّة أو طغيان العبريّة لدى فلسطينيّي الداخل ما يبرّرها؟

في بعض لحظات الغضب التي تعتريني، حين أجد نفسي مضطرّا لإفهام طالب/ة عربيّ/ة مفردة عربيّة بترجمتها إلى العبريّة، أصرخ من يأسي الآنيّ ووجعي: في الوطن المنكوب ستسقط العربيّة آخر معاقل العرب. هي صرخة وجع عاشق إن شئتم، وهي صرخة نفير

وزعزعة لضمير. لا أخشى على فصحانا، فحالُها في الدّاخل كحالها في أيّ بلدٍ عربيّ، بل لعلّنا في الداخل نستشعر الخطر بحساسية أكبر، ولذا تزداد "شراستنا" في الذود عن العربيّة. الخطر الحقيقيّ قد يلحق بلغة الأمّة؛ الفصحى عبرَ لغة الأمّ؛ العامّيّة، وهذه تتعرّض للاقتحام فعلًا، قسرًا فطوعًا، أي أنّنا انتقلنا من العبرنة إلى التّعَبرُنِ، والعوامل كثيرة، ذكرت بعضًا منها سابقًا، ولأنّنا نتمسّك باللغة بروايتيها، نعمل جاهدين للمحافظة عليها، والتوعية إلى الخطر المحدق بها، المتمثّل في حقيقة أنّ الكفَّ عن التّكلّم بلغتنا، يعني أنّ لغتنا لن تتكلَّمَنا... ستتكلّمنا لغة الآخر؛ العبريّة، وستذهب الأنا الفاعلة المخبـِرة المخبَرُ عنها، والـ" ني" المتلقِّية، والياء صاحبةُ الملك والملكيّة والإسناد، بمدلولها الفرديّ والجمعيّ، إمّا إلى الجحيم، أو إلى الطّقوسيّة، أو لتنضاف إلى أملاك الآخر. ولأنّنا عربٌ في وطننا، ولا نقبل ذلّا وظلّيّة وانسلاخًا عن أمّتنا، نقول مقالة الرافعيّ: "ما ذلّت لغةُ شعبٍ إلّا ذلّ، ولا انحطّت إلّا كان أمره في ذهابٍ وإدبار، ومن هنا يفرضُ الأجنبيّ المستعمرُ لغته فرضًا على الأمّة المستعمَرَة"، ورغم كوننا في محيط عبريّ، نعرف الجمعَ بين كرامة لغتنا وكرامتنا، ونعرف أنّنا توأمانِ غير منفكَّينِ.


عملتم في "جمعيّة الثقافة العربيّة" على دراسة المناهج الدراسيّة باللغة العربيّة المفروضة من المؤسّسة الإسرائيليّة، في مشروع استغرق العمل عليه سنوات؛ ما هي أبرز نتائج هذا المشروع؟

في جمعيّة الثقافة العربيّة، أجرينا ثلاثة أبحاث شاملة، قرأت المناهج وكتب التدريس، وتفحّصت ما فيها من تشويه مضمونيّ ولغويّ، فعلى صعيد المضامين، هيمنت الرواية الصهيونيّة في كتب التاريخ والجغرافيا والمدنيّات والموطن، مؤكّدة غياب فلسطين والفلسطينيّين والنكبة، مروّجة للأسماء العبريّة الوافدة الغازية، حتّى بات الطالب الفلسطينيّ في غربة عن وطنه وتاريخه وقوميّته، وفي هذا المضمار جاءهم الردّ على أكثر من مستوًى؛ معلّمونا، على الغالب، ينقلون الحقيقة، ومؤسّساتنا تحيي بالرحلات إلى الجذور ما تعمّدت إسرائيل إخفاءَه، وشبابنا، في أنشطتهم ووسائل تواصلهم، يُشيعون الاسم العربيّ لكلّ مكان ومكان، بل يخترعون أسماءً عربيّة لأماكن عبريّة. أمّا على صعيد الأخطاء، فقد أزحنا النقاب عن آلاف الأخطاء اللغويّة، ونشرنا ما وقفنا عليه في كلّ مكان، ووصلنا إلى البرلمان العبريّ، رغم أنّنا لا نعوّل عليه، ولكنّنا أفلحنا في إلغاء الكثير من كتب التدريس، وفي إرغامهم على وضع معايير لغويّة جليّة تضمن السلامة اللغويّة. ورغم هذه المعايير، ما زالت الكتب تعجّ بآلاف الأخطاء، فالجسم القيّم على إقرار الكتب لم يخضع لمعايير الوزارة، والظاهر أنّه فوق القانون، بل هو القانون المتعمّد للتشويه، بتعليمات وزاريّة صهيونيّة المنطلقات. على صعيد المناهج في التاريخ والجغرافيا والمدنيّات، لا إخالنا قادرين على إرغام الوزارة على التغيير، فالدول لها جيشان أساسيّان؛ العسكر، ووزارة التربية، فالتعليم سوط الغالب، ووكيل المتسلّط، ولذا، علينا أن نبني مناهج بديلة مكمّلة.

"جمعية الثقافية العربية" في حيفا (مخطط للمعماري عبد بدران)


جهاز التعليم التربويّ الإٍسرائيليّ هو من يحدّد مناهج تعليم اللغة العربيّة في المدارس والجامعات أيضا، كيف تعمل هذه المناهج أو ما هو جوهر سياستها؟

الأسرلة والصهينة هما المنطلَق في مناهج التعليم، وتزييف الزمان والمكان في التاريخ والجغرافيا، كافيان لنسف فلسطينيّتك وعلاقتك بوطنك، فأنت لا تاريخَ لك، ابتدأ تاريخ فلسطين يوم أقيمت الدولة العبريّة! فلسطين ما كانت في الوجود، بل كانت أرضًا خاوية خالية، ولا

شعب فيها ولا حضارة ولا عمارة! مداها الرمال والمستنقعات والحشرات والملاريا! وكلّ ما تراه اليوم هو من فضل "القادمين الجدد"، هذا ما يُغرس في أذهان أطفالنا وطلّابنا، تُضاف إليه نفثات من السموم لتكتمل حلقة "يهوديّة الدولة"؛ مصطلحات، رموز، أناشيد، تقاليد، أعياد لا علاقة للعربيّ بها، تصبح بقدرة قادر من المقدّسات، تفتيت العرب إلى قوميّات ومذاهب وطوائف، وترجمته بخلق أجسام هجينة في وزارة المعارف ذات مناهج متغايرة، تكرّس "القوميّة البدويّة"، و"القوميّة الدرزيّة"... والحديث جارٍ عن "القوميّة الآراميّة" للمسيحيّين! وكلّ ذلك من أجل انضواء هذه "الطوائف" في خدمة المؤسّسة، بدءا بالخدمة المدنيّة، وانتهاء بالخدمة العسكريّة، قسرًا أو طوعًا. لا أستطيع الادّعاء أنّ وزارة التربية تضع مناهج الجامعة بالتفصيل، فالخطوط العريضة في الإجماع القوميّ الصهيونيّ موجودة، أمّا المساقات، فلها حيّزها، يتّسع أو يضيقُ وفقًا لنوع الكلّيّة، ووفقًا للأستاذ نفسه. لا نتحدّث في إسرائيل عن مؤسسة لا تتّسم بالفكر الصهيونيّ! من هذا المجلس العالي، نزولًا إلى الوزارة بأجسامها. هناك موظّفون عرب، لا يقرّرون في نوعيّة السياسات ولا المناهج، هم "ظاهرة ديمقراطيّة" فقط.


ما هي البدائل أمام المجتمع الفلسطينيّ، في ظلّ هيمنة المؤسّسة الإسرائيليّة على تعليم اللغة العربيّة؟

لا أرى بديلاً، الآنَ، سوى الاستقلال الذاتيّ، وفي أضعف الإيمان الاستقلال الثقافيّ، في سائر الاحتمالات ستظلّ الدولة العبريّة مهيمنة على مناهج التدريس. القضيّة ليست تعليم اللغة العربيّة في دروس اللغة العربيّة، فهذه لا تشكّل إلّا الجزء اليسير، القضيّة في تدريس كلّ المواضيع بالعربيّة - عدا اللغات الأجنبيّة، وفي حقيقة كون كلّ معلّمٍ عربيٍّ معلّمًا للعربيّة! مررنا بتجربة وجود مسئولين من العرب في وظائف كثيرة في الوزارة، ولكنّ هؤلاء ليس بمقدورهم أن يفعلوا شيئا يتجاوز حراستهم للمنهاج الإسرائيليّ، أو مراقبتهم لسير العمل"الصالح" في المدارس العربيّة، هم منفّذون لسياسات، ليسوا واضعين لها. مررنا أيضًا بتجربة جعل التعليم العربيّ في جسم منفصل، وتبيّن أنّ الفصل ليس بغاية اتّساع حيّز الحراك، بل بغاية التّبعيّة المهينة المتمثّلة باستعلائيّة اليهوديّ ودونيّة العربيّ، وبشرعنة التمييز بين ضربين من التعليم في الوزارة نفسها، وبسياسة مفضية إلى التجزئة الأقلّيّاتيّة كما حصل في ما بعد.

جدارية في جسر الزرقاء (تصوير: محمد بدارنة)


رغم أنّ اللغة العربيّة تعتبر لغة رسميّة من الناحية القانونيّة، إلا أنّنا نلحظ تهميشًا تامّا لها من المؤسّسة وقلّة من يتعلّمها من الإسرائيليّين خارج الدوائر الأمنيّة، بل ونلحظ نوعًا من "فوبيا العربيّة" لدى الإسرائيليّ، سواء بالنسبة لرؤيتها أو لسماعها، هل مردّ هذا إلى السياسات؟ أم للمسألة جانبها النفسيّ والعنصريّ؟

هي رسميّة زائفة ومبتورة، الرسميّة هي اللغة العبريّة فقط، وما يرسمه الحبر على الأوراق المؤرشفة لا يعني لي شيئا، كفاني أن أشير إلى أنّ العربيّة ليست لغة رسميّة في أيّ قسم أكاديميّ للّغة العربيّة، وليست لغة رسميّة في أيّ من الوزارات الإسرائيليّة. منذ بن غوريون وغولدا مئير والعربيّة مصدر غيظ، يعبّر عنه بخفوت حينًا، وبنباح أحيانًا؛ المحكّ هو الممارسة، ونحن نعيش إمعانًا في التطرّف والعداء لكلّ ما هو عربيّ. أشرت سابقًا إلى أنّ النكبة لا تكتمل فصولها إلّا بنكبة اللسان، ولذا، فإن شرعيّة العربيّة المنصوص عليها منذ عام 1920، يلهثون للتخلّص منها، ونحن نرى شراسة وحقد عدد من المشرّعين الإسرائيليّين وهم يبحثون عن"مكانة خاصّة" للعربيّة الرسميّة، وتزداد الأمور قبحًا في الشارع اليهوديّ المعادي لكلّ ما هو عربيّ، بحيث أصبح الحديث بالعربيّة سببًا للاعتداء على المتحدّث في أماكن كثيرة. قد يجوز لي، من باب المفارقة، أن أشكر المؤسّسات التي يكتب أصحابها بالعربيّة، لا عشقًا، بل طمعًا بالربح والتجارة. مردّ هذا كما أرى كامن في حقيقة اعتقادهم بيهوديّة الدولة، وتطلّعهم نحو الترانسفير، متلفّعين بكره العرب والفلسطينيّين، هي دائرة شيطانيّة لا تعرف لها بداية من نهاية، موتور يحمل حقدًا، فيحمله حقده وعنصريّته إلى الكنيست، وهناك يجد منبرًا لفكره العنصريّ الموبوء ليسبغ شرعنة على عنصريّته، وهكذا دواليك.


رغم قرابة العربيّة والعبريّة كلغتين ساميّتين، قامت الحركة الصهيونيّة بنوع من غربنة العبريّة ومحاولة لتقريبها، من ناحية المصطلحات، إلى اللغات الغربيّة، كيف تقرأ هذه المحاولة سياسيّا؟ وهل هي مستمرّة حتى اليوم؟

فكرة كون العربيّة والعبريّة لغتين ساميّتين تحتاج إلى توضيح؛ العبريّة هنا هي"العبريّة الإسرائيليّة"، لا عبريّة العهد القديم المختلطة بالسريانيّة/ الآراميّة، وعبريّتهم الحديثة هذه وليدة الصهيونيّة لتأسيس أمّة ودولة، وقد تشكّلت بالاعتماد على عبريّة العهد القديم دون الاتّكاء على المصدر تقديسًا، واستعارت الكثير من العربيّة الفصحى والمعاصرة، والكثير من لغات البلدان التي عاشوا فيها قبل إقامة إسرائيل، وبخاصّة الألمانيّة والفرنسيّة، ثمّ دخلت الإنجليزيّة لأنّها اللغة الدوليّة. إنّ هذا الواقع ليس مغربِنًا فحسب لغاية الانفصال عن الشرق وآسيا في كلّ شيء، إنّه قبل ذلك استجابة للغات اليهود التي حملوها حين "هجرتهم" إلى فلسطين، وظلّوا يتحدّثون بها بكثافة في الخمسينيّات والستّينيّات، إلى أن أحدثت "بوتقة الصهر" فعلَها، وولد جيل جديد من اليهود لا يجيد إلّا العبريّة الإسرائيليّة. تختلف هذه العبريّة من حيث بنيتها النحويّة عن العربيّة، فهي ليست لغة إعراب، إضافة إلى طابعها السياسيّ المرسوم الذي جعلها تنفتح على كلّ دخيل، فهي لغة حديثة في طور التشكّل، خلافًا للعربيّة العريقة في تاريخها وتقعيدها واكتمال بناها وأسلوبيّتها وأصواتها، فلو جمعنا سمات العربيّة هذه مع اتّكائها على المقدّس، لأدركنا سعة حراك العبريّة بالنسبة للعربيّة. ما زالت العبريّة في حركة مستمرّة، لا ترفض الدخيل، ولا ترفض الاجتهاد، أمّا نحن، فالقضيّة عندنا أشدّ صرامة. حقيقة يؤسى لها؛ تحترم إسرائيل العبريّة وتعلي من شأنها، أكثر من احترامنا في دولنا للعربيّة، العبريّة لغة التدريس في كلّ شيء... أمّا نحن فقد نتحدّث عن دولة عربيّة واحدة.


هل يمكن المقارنة بين الفلسطينيّين في الداخل واستعمالهم للّغة العبريّة في الحديث والتعبير الكتابيّ، مع شعوب عربيّة تعرّضت لاستعمار لغويٍّ مثل شعوب المغرب العربيّ كالجزائر وتونس مثلًا وتأثير لغة الاستعمار الفرنسيّ حتى اليوم؟

وضع العربيّة في الداخل وضع خاصّ جدّا، فالطفل العربيّ أمام قسريّة لغويّة رباعيّة؛ العربيّة العاميّة المكتسبة (لغة الأمّ)، والعربيّة المعياريّة المدرَّسة (لغة الأمّة)، والعبريّة (اللغة الغالبة المهيمنة)، والإنجليزيّة (اللغة الدوليّة)، ثلاث لغات تنافس- ومن سنّ مبكّرة- اللغة الفصيحة! وضعنا خاصّ لأنّنا محكومون للعبريّة. أمّا الدول العربيّة فلا أفترض فيها هذا الوضعَ، فهي دول مستقلّة، ويُفترض أن تكون العربيّة لغةً سيّدة، فإن رأينا غير ذلك فثمّة شيء معطوب. قد تشبه حالتنا حالة الأمازيغ في عربيّتهم، ولكنّ حالتهم، وقد استقلّوا، أيسر من حالتنا، والحلول كثيرة، والتنجيع أمامهم مفتوح، وأعرف أنّهم قطعوا أشواطًا في إعلاء شأن العربيّة.


هل يمكن أن نتحدّث عن مشروع مقاومة لغويّة، بشكل خاصّ في فلسطين وربما في مناطق أخرى من العالم العربيّ؟

المقاومة اللغويّة هي الجهاد الأكبر في فلسطين، وجهاد في غيرها؛ على العرب أن يرقوا بالعربيّة لترقى بهم، وعلى المؤسّسات التربويّة أن تضع إستراتيجيّات تعليميّة تربويّة عصريّة، والأهمّ من هذا وذاك: على المؤسّسات الأكاديميّة إعلاء شأن العربيّة بجعلها لغة التدريس والأبحاث الأولى، نقول هذا، مع إيلاء اللغات الأخرى العناية الكاملة.


_______________________________

بطاقة موجزة
إلياس ذيب عطا الله، من لاجئي قرية إقرث، ومقيم في حيفا. حصل على دكتوراه فلسفة في فقه اللّغة العربيّة ونشر عشرات الأبحاث في علوم اللغة العربية. ومع رفيقة دربه الباقية روضة بشارة - عطالله (1953- 2013)، مديرة "جمعية الثقافة العربية"، شارك الدكتور إلياس في تأسيس مشاريع ميدانية كبيرة في خدمة اللغة والهوية العربية. من كتبه: "الأفعال الثلاثيّة المضاعفة، معجم ودراسة" (2013)، "معجم الأفعال الرباعيّة في اللغة العربيّة المحكيّة في الجليل، تأثيليّ دلاليّ" (2010)، "المصطلحات المستعملة في كتب تدريس قواعد اللغة العربيّة، وواضعوها، عربيّ - إنكليزيّ، دراسة ومعجم" (2007)، "الأثول الثنائيّة في العربيّة، معجم ودراسة" (2005) "معجم الأفعال الرباعيّة في العربيّة، تأثيليّ دلاليّ" (2005). "رسالة في تيسير الإملاء القياسيّ، دراسة ومعجم" (2005) "معجم المصطلحات القواعديّة الكلاسيكيّة" (2005).

المساهمون