إطلالة من نافذتي: شرفات تقرأ العالم

إطلالة من نافذتي: شرفات تقرأ العالم

24 يونيو 2020
سجل اسم الصفحة كعلامة تجارية (Getty)
+ الخط -
"في هذه الغرف المظلمة التي أمضي فيها أياماً ثقالا،
أروح وأغدو باحثاً عن النوافذ، عندما تنفتح نافذة سيكون عزاء
لكن النوافذ لا أثر لها، أو أنّي غير قادر على أن أعثر عليها
وربّما كان من الأفضل ألا أجدها، ربما كان النور عذاباً جديداً
من يدري كم من أشياء جديدة ستظهر".

هكذا قال الشاعر قسطنطين كفافيس، قبل ما يقرب من مئة عام، في قصيدة له بعنوان "النوافذ" (ترجمة نعيم عطية). لكن يبدو أن فنانة الغرافيك البلجيكية باربرا ديرياو (47 عاماً)، رأت في النوافذ اليوم شيئاً آخر تماماً، فما أن انتقلت قبل شهر واحد من تفشي فيروس كورونا للإقامة في أمستردام، حتى فُرض العزل الصحي على أغلب بلدان أوروبا، لتجد نفسها سجينة شقتها الصغيرة في العاصمة الهولندية، وأصبحت علاقتها بالعالم الخارجي خلال أيام الحظر مرتبطة بنوافذ شقتها، وعندها طرأت عليها فكرة مجنونة: ماذا لو صوّر كلّ منّا المشهد الذي تطلّ عليه نافذته خلال أيام الحظر؟
وعلى الفور، أنشأت الفنانة البلجيكية صفحة على موقع فيسبوك بعنوان View from my window، ودعت الناس للاشتراك بها، وتزويد الصفحة بالصور التي يلتقطونها من نوافذهم. وكانت شروط الصفحة بسيطة: "على كل مشترك أن يذكر مكان التقاط الصورة، أن يتم التقاط الصور من النوافذ، لا تقبل الصور التي تحتوي أشخاصاً أو الصور الشخصية، يفضل تجنب تكبير الصور، يتم نشر صورة واحدة فقط في اليوم لكل شخص، يجب أن تكون الصور حديثة".

أنشأت ديرياو الصفحة يوم 22 من مارس/ آذار الماضي وذهبت إلى النوم، لتفاجأ في الصباح بمئات من المشتركين، وبطوفان من الصور الجميلة الملتقطة من نوافذ العالم كله، من سيدني إلى نيويورك ومن ساو باولو إلى أوسلو، من القاهرة ودبي وبيروت إلى لندن وباريس وواشنطن، ما جعلها تقع في حيرة حقيقية، وتشعر أنها ورطت نفسها. تقول: "من الواضح أنني لم أكن على استعداد لذلك. أصبح مشروع View from my window وظيفتي بدوام كامل"، ما دفع فنانة الغرافيك إلى الاستعانة بأكثر من 20 شخصاً من عائلتها وأصدقائها لمعاونتها في اختيار الصور ومراقبة تعليقات الصفحة.

كانت الصور لافتة، وقدّمت لمتابعي الصفحة، الذين وصل عددهم اليوم إلى ما يزيد عن مليونين ونصف مليون مشترك من جميع أنحاء العالم، نظرة إلى نوافذ العالم وما تراه خلال شهور العزل الصحي. لاحقاً، خرجت باربرا ديرياو عن صمتها في رسالة مفتوحة عبر صفحتها الوليدة وقالت: "لم أكن مستعدة"، تلخص فيها حياتها منذ 22 مارس الماضي، فتقول: "منذ هذا اليوم وأنا أعمل على الصفحة ما بين 12 إلى 15 ساعة يومياً، حتى بدأ أعضاء الصفحة يزدادون كل يوم: ألف، 10 آلاف، مليون، 2 مليون، وسرعان ما ظهر المقلّدون". هنا اضطرت الفنانة إلى أن تسجّل اسم الصفحة كعلامة تجارية تحت اسم View from my window لحماية ملكية الصور التي تنشر عليها، وهو ما كلف الفنانة مبلغاً قدره 3500 يورو، ما دفعها إلى الإعلان عن فتح باب التبرعات المالية في محاولة لجمع مبلغ 77 ألف يورو للإبقاء على المشروع وإنجازه لاحقاً في ثلاث خطوات أساسية، هي: إقامة معرض عالمي متنقل يضم أجمل هذه الصور، ونشر الصور في كتاب، وأخيراً إنشاء موقع إلكتروني يضم جميع الصور.

في غضون أيام قليلة، وصل المبلغ الذي تم التبرع به من مجهولين إلى ما يزيد عن المئة ألف يورو! ما دفع الفنانة البلجيكية صاحبة المشروع للإعلان على صفحتها الناجحة أنها ستتبرع بما زاد عن المبلغ الذي طلبته لليونيسف، نظراً لجهود المنظمة الدولية ونضالها المستمر في مجالات حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، وتدخلاتها في حالات الطوارئ والكوارث البيئية، ومساهمتها الراهنة في مكافحة فيروس كورونا في أكثر من 190 دولة.

في نهاية إبريل/ نيسان الماضي، ومع بدء تخفيف قيود الحجر الصحي في أغلب بلدان أوروبا والعالم، قررت ديرياو التوقف عن استقبال أعضاء جدد لصفحتها، وهو ما تشرحه لصحيفة "ده ستاندرد" البلجيكية قائلة: "كنا في حيرة من أمرنا بسبب الإقبال الشديد على الصفحة، لدينا اليوم ما يقترب من مليونين ونصف مليون مشترك، وكان من الممكن أن نصل إلى 5 أو 6 ملايين ولكن هذا لم يكن هدفنا، لذا أوقفنا الاشتراكات الجديدة في الصفحة حتى يتسنى لنا فرز واختيار أفضل الصور التي تصل إلينا، وأيضاً للحد من حروب الكلام والتعليقات اللاذعة بين المشتركين".

في قصيدة له بعنوان "نوافذ عالية"، يقول فيليب لاركن (ترجمة محمد عيد إبراهيم): "بدلَ الكلماتِ تأتي فكرةُ النوافذِ العالية: الزجاجُ الذي يفهمُ الشمس، وخلفه الهواءُ الأزرقُ الماكر، لا يُبِينُ شيئاً، وليسَ ثمةَ مكانٌ، ولا أبديّة".


في صور View from my window، نرى هذه التفاصيل التي يتحدث عنها لاركن، الزجاج والهواء الأزرق الماكر، لكنّنا، على خلاف ما يقوله شاعرنا الإنكليزي، سنشعر بحضور المكان طاغياً في الصور التي تنشرها صفحة باربرا، والتي تحولت اليوم إلى مشروعها الفني المستقبلي، فالصفحة تضم اليوم ما يربو على مليونين ونصف مليون مشترك من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 1.3 مليون من الولايات المتحدة، و90 ألفاً من بلجيكا و66 ألفاً من البرازيل. ووفقاً لباربرا ديرياو، فقد نشرت حتى اليوم ما يزيد عن مئة ألف صورة، فيما تبقت 300 ألف منها يجب الاختيار من بينها، ورغم تشككها الزائد في قدرتها على إدارة هذا الحلم، إلا أنها متأكدة من شيء واحد، ألا وهو أن View from my window غيّرت حياة باربرا إلى الأبد، وجعلتنا نعثر أخيراً على قصة يصلح أن نقول عنها إنها واحدة من قصص النجاح المثيرة خلال أزمة كورونا.

المساهمون