إصلاح مناهج تعليم الدين لم يكتمل عربيّاً

إصلاح مناهج تعليم الدين لم يكتمل عربيّاً

02 ديسمبر 2016
+ الخط -
أثارت تعديلاتٌ أقرّتها وزارة التربية والتعليم في الأردن، أخيراً، على المناهج الدراسية، شملت مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية والتاريخ، انتقادات واسعة من قوى مختلفة، ما يعد استمراراً للصراع نفسه بين الحكومات العربية والتيارات المختلفة، منذ ما يزيد على قرن، على طبيعة تدريس الدين في التعليم العام والجامعي. وهو ما انعكس بحدة على النقاش الدائر دوماً حول شكل الإصلاح المنتظر لمواد التربية الإسلامية ومناهج التعليم عموما.
في العصر الحديث، كان أول تغيّر في طبيعة حضور الدين وتأثيره في التعليم في العالم العربي، قد حدث في إطار رد الدولة العثمانية وتوابعها العربية ذات الاستقلالية النسبية (مصر وتونس) على ضغوط التوسع الأوروبي على امتداد القرن التاسع عشر، من خلال ما عرف بالتنظيمات، وهي إعادة تنظيمٍ للدولة وتشكيل أجهزتها وربطها بالمجتمع وبالاقتصاد بروابط أكثر إحكاماً استجابةً لمتطلبات مركز الدولة. كان التعليم قبل ذلك مرتكزا على الكتاتيب، وهي تقوم على تعليم تقليدي يستظهر القرآن أو الإنجيل في المدارس المسيحية والتشبّع بالثقافة الدينية، وعلى المؤسسات التربوية الدينية التقليدية، كالأزهر والزيتونة. هدف التعليم الحديث في دولة التنظيمات إلى اختراق المجتمع وصنع تجانس ثقافي بين فئاته لبسط السلطة، وتحويل المجتمع تبعاً لأفكار الدولة الحديثة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر، تم تأسيس مدارس للمعلمين في إسطنبول ودار العلوم في القاهرة، لإنتاج كوادر تربوية من خارج المدارس الدينية. تميزت هذه المدارس بمرجعيتها السياسية الواضحة، وهي الدولة، وبمرجعيتها الثقافية، وهي العلوم الحديثة من علوم وجغرافيا وتاريخ وقانون، وكان لمادة الدين في هذه المدارس نطاق تختص به دون تداخل مع العلوم الجديدة، والتي أصبحت لها مرجعية دنيوية مستقلة، وما زال هذا حال التربية في البلدان العربية، وتركّزت معارضة الدينيين على هذه المدارس بالهجوم على الجغرافيا والجيولوجيا والفلك خصوصاً. وكما يستفيض في شرح هذا التحول عزيز العظمة، فإن هذه المدارس الحديثة ساهمت في بروز فئةٍ جديدة من المثقفين، متمايزة عن فئة المثقفين التقليديين الذين ارتبطوا بالمؤسسة الدينية، فئة استبعدت المرجعية الدينية من خطابها في الفضاء العمومي. وبسبب ارتباط هؤلاء المثقفين بدولة التنظيمات، كأذرع لها تحقق اختراقاً ثقافياً وأخلاقياً للمجتمع، كان لهم تأثير متزايد.
كان هذا التحول فارقاً في التعليم، فقد أنتجت المدرسة الحديثة معارف وفئة مثقفين، لا تشكل
الثقافة الدينية مركزاً لهما، واستمر تعليم الدين مادةً منفصلة في المدرسة الحديثة والجامعات في أغلب البلاد العربية، وبالتالي، تجاورت مرجعيتان للمعرفة على الدوام (لا نضفي على طبيعة المرجعية الأخرى أية حيادية مفترضة). لاحقاً، ومع تكون الدولة الوطنية الحديثة، أصبح التعليم رهاناً سياسياً للصراع بين الدولة والإيديولوجيات المختلفة، وكان لذلك انعكاس على طبيعة مادة الدين، ودرجة حضورها ومحاولات إصلاحها.
فعلى سبيل المثال، كان تأكيد حضور مادة التربية الإسلامية في المدارس، بل محاولة أسلمة الفلسفة، وإيجاد شعب جامعية للدراسات الإسلامية في المغرب في السبعينيات، هو سبيل للحكم لمواجهة اليسار. وكما يشير أحد شهود ذلك التحول، وهو محمد العيادي الذي كان عضواً في لجنةٍ عهدت إليها بلورة مقرّرات لتدريس الفلسفة والفكر الإسلامي، فإنه كان ينظر لحقل التعليم باعتباره مرتعاً للإيديولوجيات "اليسارية الملحدة"، وهو ما أتاح صياغةً للمناهج، كان للحركية الإسلامية تأثير عليها. وأيضاً في الخليج ساهم الإسلاميون في صياغة مناهج الدين برؤيةٍ تتوافق مع إيديولوجياتهم ضمن جهودهم الأكبر في مواجهة التيارين، القومي واليساري، في المنطقة. وحين حاولت حكومات عربية إصلاح مادة الدين لأغراض مختلفة، واجهت معارضة شرسة من التيار الديني، سواءً التقليدي أو الحركي.
في تونس، تمت عملية إصلاح مهمة لمادة التربية الإسلامية في عهد الوزير محمد الشرفي (1989ـ 1996). وقد أشار أحد الفاعلين في هذه العملية، وهو أحميدة النيفر، إلى وحدة قوى التيار الديني الثلاث في تونس، المؤسسة الدينية الرسمية وحركة النهضة والتيار التقليدي المعارض للخط التحديثي في البلاد والملتف حول بقية شيوخ من الزيتونة، على الرغم من اختلاف توجهاتها على معارضة مشروع الإصلاح.
هذا التاريخ منذ أوجد مرجعية حديثة مجاورة لمرجعية مادة الدين في دولة التنظيمات، ثم توظيف طبيعة هذه المادة (وغيرها من المواد أيضاً) وحضورها في الصراع الإيديولوجي بين التيارات المختلفة، وانحياز الحكومات لحضورها مرة، وإصلاحها بالضد من فكر الحركات الإسلامية مرة أخرى. ساهم هذا التاريخ في تشكيل مناهج الدين وبلورة شكل النقاش والصراع القائم اليوم على التعليم الديني عموماً، ومادة التربية الإسلامية خصوصاً. فأضحت مناهج الدين في دول عربية كثيرة مشحونةً بشحنة إيديولوجية، تستبطن النقاش ضد خطابات أخرى في المجتمع. لذا يتلقى الطالب المنهج مادة لا معرفية، بل سجالية، تفترض في ذهن التلميذ أفكاراً ينبغي تخليصه منها. بل إنها في المغرب، كما يشرح العيادي، كانت، في سبيل ذلك، تعزل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن سياقها التراثي، لتربطها بنصوص رواد للحركات الإسلامية، كمحمد عبده ورشيد رضا وسيد قطب وبنت الشاطئ والغزالي، ليستبطن الطالب هذه الأفكار باعتبارها الخطاب الصحيح عن الدين. وأيضا تحول خطاب الدين في هذه المناهج إلى خطابٍ غايته الدفاع عن الدين والإيمان ضد هجومٍ مفترض، "فهو مدح للذات الإسلامية، وهجاء لما هو مخالف من عقائد ونظريات ومعارف وعلوم ..إنه خطاب ديني إيديولوجي عن دينٍ يتعرّض لهجوم من الصليبين والمستشرقين والماسونيين والعلمانيين"، خطاب يملك منطقاً مانوياً ثنائياً بسيطاً.
وبدل أن يهتم واضعو المناهج، والقائمون على تعليمها، بتدريب التلميذ على الوعي بتاريخية
الوقائع والأفكار في التاريخ الإسلامي، اعتبروا أن التربية الدينية هي تمكين التلميذ من إجابات جاهزة، يقدمها التراث العقدي والفقهي، وتركيز تلك الإجابات على نظرةٍ سكونية للعالم والتاريخ لمواجهة "الدمار الروحي الذي تسببت فيه الحضارة المادية"، ومثل هذه النظرة للفكر الديني هي ما يساهم في توحيد كل القوى الدينية، برأي احميدة النيفر، إذ تشترك التيارات الدينية في هذه النظرة للتاريخ التراثي.
من ناحية أخرى، ساهم الاندفاع إلى إصلاح هذه المناهج في بيئة محاربة الإرهاب في تعميق الشكوك حول غاية هذا الإصلاح. وما يساهم حقيقةً في إعاقة كل عملية إصلاحٍ لتعليم الدين في المدرسة الحديثة، ليس هو المنهج بقدر ما هو الوسيط في تأويل هذا المنهج للتلاميذ، أي المعلم، والذي غالبا ما يحمل أفكاراً لا تتوافق مع عملية الإصلاح المفترضة. لذلك، يستحق التبجيل ذلك الوعي المبكر لدى دولة التنظيمات، حين سارعت إلى إنشاء مدارس معلمين جديدة في إسطنبول والقاهرة، لتخريج كوادر مختلفة عن التيار الديني التقليدي.
ويبقى أخيراً أن التهميش الذي تم لمادة الدين منذ هذه الإصلاحات في دولة التنظيمات العثمانية بجعلها مادةً مستقلةً ومجاورتها لمواد حديثة بمرجعيةٍ معرفيةٍ مختلفة كان حلا ناقصاً لا يزال يسبب اضطراباً، ويصنع عالمين يسكنان عقل الطالب، تجاور العلم والفكر الديني بشكله التقليدي من الصعب استمراره كما هو قائم اليوم، فالهوية الإنسانية ونظرة الإنسان للعالم حوله أصابهما تغير كبير بفعل تطورات أساسية في العلم، فالمناهج القائمة اليوم وتأويلها الذي يتم يستندان إلى "وضعيةٍ تأويلية"، أو مسبقاتٍ توجه التفكير سلفاً، فقدت فعاليتها التفسيرية، ولم يعد الخطاب المستند إليها قادراً على احتمال العالم والعصر.