إسلاموفوبيا في أوروبا تتوازى مع حظر العنصرية

إسلاموفوبيا في أوروبا تتوازى مع حظر العنصرية

21 فبراير 2015

تضامن مستمر بالورود مع "شارلي إيبدو" (17 فبراير/2015/Getty)

+ الخط -

أطلقت الأحداث الأخيرة طقماً كاملاً من الإجراءات والتعليقات التي كان جلّها في حالة كمون. فقد تحرر الميل إلى تكثيف الردع وتقييد الحريات. وتحرر معه رُهاب الإسلام، أو "الإسلاموفوبيا" من كل حرج، غير أن القضايا متراكبة كما نعلم. إنها تتصل بالاجتماع الحديث وبالتدامج فيه، بمركز المجتمع وهوامشه وأطرافه، بالديمقراطية والحرية، وبغير ذلك من القضايا التي تمسّ عصرنا اليوم. ولكن، كيف يمكن مقاربة ظاهرة (رُهاب الإسلام) بموضوعية؟ وهل من الممكن سَبْر ظاهرة الإسلاموفوبيا (ووجهها الآخر التطرف الديني التكفيري)، كما ينبغي للسبر الموضوعي أن يكون؟ 
ليس السؤال من زوائد الأمور، فقد صار القول إن الإسلام يشكّل تهديداً وجودياً لأوروبا من نوافل الكلام. وغدا الشك بالمسلمين وتوجيه الاتهام لهم من "طبائع" الأشياء. ألم يحذّر مؤسس أسبوعية "لونوفيل أوبزرفاتور" العجوز، جان دانييل، في افتتاحيته بتاريخ 24/12/1014 من أنه يلاحظ، "بخوف ورعب"، كيف أن اللاسامية يجري استعواضها شيئاً فشيئاً بالإسلاموفوبيا. لم يحتج أحد، مثلاً، على أن مجلة كورييه انترناسيونال الفرنسية لم تجد حرجاً مهنياً، أو أخلاقياً، في أن تتوّج منذ السبت في 14 فبراير/شباط (أي قبل وقت طويل من كشف السلطات الدنماركية عن اسم مرتكب عملية كوبنهاغن الإرهابية) صفحتها الإلكترونية بأن "الإرهابيين الإسلاميين يضربون كوبنهاغن". ولم يتردد سياسيون مرموقون في فرنسا عن التصريح بكلماتٍ لا لبس فيها بأن الإسلام وحده من بين الديانات الأخرى الذي يشكّل مشكلة في فرنسا. ويكرر مسؤولون كبار القولَ إن حرباً عدوانية، تشنّها الهمجية أو الفاشية الإسلامية على الحضارة الغربية، وإنه لا مفر أمام "الحضارة" من خوضِ الحرب، دفاعاً عن قيمها ومبادئها ونمط حياتها. 

رُهابُ الإسلام وثقافة الحصن
بساطة المقاربات هذه لا تعني بساطة التعقيدات الناجمة عنها، فقبول تعميم التهمة ضد المسلمين يعني أنه يُطلبُ من كلٍ منهم إثباتُ أنه يختلف عن الصورة النمطية عنه. وهو طلب تكاد تلبيته تكون مستحيلة من أية مجموعة بشرية على الإطلاق. فأنت نتاج صورة الآخرين عنك،

وتنعكس ملامحك في مرآتهم. ولا تتغير هذه الملامحُ، إن لم تتبخّر صورتك النمطية وكفّت عن الوجود. والقول بصراع الحضارات يطل في كل مرة يصارُ إلى وضع ناس الشرق وجماعاته في خانة التفحّص. عشية مقتلة "شارلي إيبدو" ثم كوبنهاغن، صرّح رئيس فرنسي سابق بأن حرباً ضروساً أُعلنت ضد "حضارتنا ونمط عيشنا"، وإنها لحرب بين الهمجية والحضارة، وتحدث غيره عن ثقافة مغايرة معادية للحضارة، ديدنها العنف والدم.
ليست فرنسا بلداً عنصرياً من حيث هو كذلك، فالدستور والقانون الفرنسيان يحظران كل أشكال التمييز على أساس الجنس أو الدين أو اللغة أو اللون أو الأصل الإثني، غير أن فرنسيين كثيرين عنصريون، ويتصرفون كذلك، من غير رادع حقيقي، منهم السياسي والفيلسوف والإداري والمواطن العادي، وليست فرنسا بلداً معادياً للإسلام. فالدستور الفرنسي يعرّف فرنسا على أنها جمهورية لائكية، أي ضامنة للحريات الدينية والمعتقدية مهما كانت، غير أن كثيرين من الفرنسيين يتلبسهم رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)، والكتب التي تهاجم الإسلام وتحدّده خطراً داهماً على فرنسا والغرب والحضارة في قمة الرواج. والواقع أن رُهاب الإسلام يتمظهر على صورة خوف حقيقي، يغذيه ساسة انتهازيون وفلاسفة مأفونون وجيش كامل من صغار الكتبة والصحافيين الذين يملأون الفضاء لغطاً وهستيريا.
يندرج رُهاب الإسلام في سياق ما أدعوه "سُعار الهوِّيات"، أي بانتشار الفرضيات التي ترى في الجماعات البشرية هُوِّيات راسخة وإنّيات متنابذة ومتقاتلة في الزمان، أي لا تتوقف ولن تتوقف أبداً عن الاحتراب. ولا يحتاج المرء سبراً كثيراً ليعرف أن رُهاب الإسلام هو، في عمقه، موقف من الذات، أي إنه في أسه مسألة هُويّة؛ ويعبّر، بالتأكيد، عن هوية ملتبسةٍ، أو عن موقف ملتبس من هذه الهوية.
أقولُ موقفاً من الذات، لأنه موقف من الهشاشة التي تستوطن النفوس، ومن الضعف الذي نعرف جميعنا إنه فينا. إنه موقف من الأنا، لأنه خوف من الأنا. إنه نتاج ما كنت سميته في كتابي عن الفلاشا، الصادر قبل أكثر من عقدين، ثقافة الحصن، أي ثقافة الهشاشة المحصنة

بالأسوار. فأنت تعرف أنك ضعيف وتعرف فيك مواطن ضعفك، لكنك تغطيها بتحصين نفسك من الاختراق. تعتمد الدفاعات في الحصن على كثافة الأسوار ومتانتها. ولهذا، يمعن أهله في التحصين، ويحرصون على التسوير، ويسارعون إلى سد أية ثغرة قد تنتج أو يُهيأ أنها نتجت، وعن تشديد الدفاعات في مواجهة نقاط الضعف البارزة. ثقافة الحصن هي ثقافة إخفاء الضعف الذي يتعذر إخفاؤه من حيث هو كذلك. وهي، بهذا المعنى، تضرب جذورها عميقة في الاجتماع، وفي آليات تجدده كاجتماع.
هكذا يمكن القول إن (رُهاب الإسلام) يترابط بقوة بجملة المظاهر التي تسم الاجتماع اليوم، أي الاجتماع الذي يستوطن التناقضات التي تخلقها عمليات التحول المتسارعة نحو عالمٍ، فشلت فيه الأطر السياسية والثقافية السائدة عن مواكبة منجزات الثورة التقنية والعلمية، إن لم نقل إنها صارت تشكل عائقاً في وجهها. إن العنصرية وكراهية الأجانب (الإسلاموفوبيا من أشكالها وتعبيراتها) والميل إلى التحصين وإغلاق الحدود، هي، في العمق، مؤشر جليّ على هذا الفشل الذي نشير إليه.
في زمن التكتلات الاقتصادية، تبدو الهويات الثقافية كما لو كانت تواجه وحيدةً صخب العولمة وعواصفها الجارفة. ذلك أن العولمة تعني، في ما يخصنا هنا، أمرين. أولهما زيادة حجم الاعتماد المتبادل والنمو المتسارع للمعارف العلمية والتقنية. وثانيهما اندفاع الدول المطّرد نحو التحصن في تكتلات، أو مجموعات ذات أهداف اقتصادية و/ أو سياسية. أما المجتمعات فتجد نفسها عزلاء قبالة أشكال متنوعة من الهيمنة، ترتكز على العقول، وعلى التحكم بالمرجعيات والرموز الثقافية. هذا يفسّر، ولو جزئياً، الضعف البادي في ثنايا الخطاب الأصولي، القومي أو الديني، ودوره المزعوم في الدفاع عن الهُوِّية المضيّعة، أو الدّين المهدد.
وأميل، شخصياً، إلى القول إن تراجع فكرة التغيير الثوري في العالم، ومعها انهيار فكرة التقدم ووحدة الكائن البشري ووحدة تاريخه، والدخول في حقبة ما سميت، يومها، نهاية الأيديولوجيات، عبّدت عملياً ونفسياً طريق الأصوليات، ومهّدت لبروز فرضيات صراع الحضارات ونهاية التاريخ ولذيوعها السريع. ولن أكرر ما يقوله بعضهم إن استعادة الخطاب القومي عقب الحرب الباردة مهدت الطريق لسُعار الأصوليات الذي نكابد منه اليوم.

هستيريا جماعية؟

منذ سنوات، يحذر مفكرون وسياسيون فرنسيون عديدون من مغبة التركيز الكثيف على الأمن، بالمعنى البوليسي للكلمة، وإهمال الأبعاد الأخرى، التربوية والاجتماعية والثقافية والسياسية للأمن. وتحدث كثيرون عن سلبيات التركيز المفرط على البعد البوليسي للأمن، ومدى تأثيره على السلم الأهلي ككل. 
تبدو الأمور، اليوم، كما لو أن مسّاً أصاب العقول، وأفضى إلى ما يطلق عليه بعضهم اسم الهستيريا الجماعية، فقد صار ممكناً، مثلاً، أن يحكم قاضٍ على مختلٍ عقلياً، بتهمة ترويج الإرهاب، أو أن يُحققَ مع أطفال لا يدركون حتى معنى الإرهاب بتهمة ترويجه. والواقع أن القضية صارت تبدو كما لو كانت تنتمي إلى كوكب آخر، أو إلى واحدة من تلك الحكايا الخرافية التي تستعصي على التصديق، فقد أحال مدير المدرسة الابتدائية قضية التلميذ ذي السنوات الثماني إلى الشرطة، بدعوى أنه تمرد على الإجماع العام، وقال إنه ليس شارلي، وأصرّ على قوله. وإذ لا يعرف الطفل ما الذي تعنيه كلمة إرهاب أو إرهابي، فإن مفوض الشرطة بيّن أن الغرض من استدعاء الطفل التعرف على المصدر الذي أتى منه بهذه "العبارات الإرهابية". لكن، القصة لا تتوقف هنا. فهي لا تكتمل من غير معرفة أن عضو البرلمان عن المنطقة صرح بأنه يدعم كلية مدير المدرسة الذي وشى بالطفل، وأثار القضية باعتبارها تنتمي إلى (مكافحة الإرهاب). بل إن وزيرة التربية نفسها، إزاء اللغط الشديد الذي أثارته هذه القضية في الصحافة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، صرحت بأنها تتضامن مع مدير المدرسة، وتثمّن موقفه، أي إنها تؤيد دوره في تحويل القضية من تربوية إلى جنائية.
تنتمي القصة، كما يقول محامي الطفل، إلى هستيريا جماعية، أعقبت مقتلة شارلي إيبدو. بدليل أن الصحافة كشفت، بعد أيامٍ قليلة، عن ثلاثة أطفال آخرين، أعمارهم بين ثماني وتسع سنوات، في مناطق مختلفة في فرنسا، أحيلوا من المدرسة إلى الشرطة، للتحقيق بتهمة ترويج الإرهاب. وبدليل أن عشرات، بل مئات العمليات، جرى فيها استهداف مسلمين عاديين منذ عملية شارلي إيبدو. ألا يمكن القول إن رهاب الإسلام يكمن في صلب كل هذه الأجواء المثقلة بالأحكام المسبقة، وبالشكوك، وبالنيات غير الطيبة، على الأرجح.
كيف تحولت المدرسة من التربية إلى الوشاية؟ هذا سؤال يبدو أنه صار في منأى عن الطرح، ما دام المناخ السائد لا يحث عليه. ذلك أننا لسنا وحدنا على سطح هذه المعمورة ممن يتصرفون كما يظهر بطرقٍ خرقاء تشرحها عيوب استوطنت في مجتمعاتنا، جراء الهزائم والإحباط والفقر والقمع والإذلال. ولكن، كيف يمكن أن نتفهم سلوك أولئك الناس الذين لا يعرفون فقرنا، ولا خبروا ذلّنا، ولم يعانوا صلف حكامنا وقسوتهم، ويقولون إنهم عقلانيون مستنيرون. لكنهم، مع ذلك، يكررون الأفعال والأقوال التي خبروها، وعرفوا فشلها وكارثية نتائجها؟ تماماً مثل ما نفعل.

توظيفات؟

لكلّ زمان أسئلته، إذن. وأسئلة اليوم هي المتعلقة بالهوّيات والصراعات التي تتصل بها، وحثت عليها استراتيجيات (الحرب على الإرهاب) ونظريات صراع الحضارات، وكل الشغل

الاستراتيجي الذي عملت عليه القوى والدول الكبرى والصغرى، منذ سبعينيات القرن الماضي، لمواجهة الشيوعية بالدين، إن في أوروبا الشرقية أو في أفغانستان وآسيا الوسطى وبلاد العرب. ونحن نعرف الكثير، اليوم، عن كيف أن الغرب (وإسرائيل منه) شجع (ولا أقول خلق وأنشأ) على التكفيرية الدينية المسماة خطأ بالجهادية. ولا يخفى أن تنظيم القاعدة شكل فرصة انتهزها شارون بدعم من إدارة بوش الابن للإجهاز على عملية السلام، ومنع ولادة الدولة الفلسطينية. ويغذّي وريثه نتنياهو رُهابَ الإسلام، بغرض القول إن الصراع العربي الإسرائيلي صار دينياً صرفاً. وهو لا يتوانى، لهذا الغرض، عن تشجيع المتطرفين اليهود على انتهاك المقدسات الإسلامية في القدس المحتلة، من ناحية، وعلى النفخ بصور اللاسامية في العالم للغرض نفسه، من ناحية ثانية.
****
ما يهدد عالمنا ليس أزمة روحية، كما يقول بعضهم. فهذه ربما كانت نتيجة مباشرة من نتائج أزمة اجتماعية واقتصادية وثقافية أعمق: أزمة خَواء ضلت المعاني فيه طريقها، وفقدت الأشياء وضوحها الذي كان لها. إننا نعيش، أو نعبر، مرحلة انسد فيها الأفق، أو تبدو كما لو أنها من غير أفق. تكفي نظرة واحدة إلى ما يكمن خلف التعليقات، ويثوي في عمق الكتابات، حتى نكتشف من غير كثير عناء أن كراهية الذات هي عنوان المرحلة، وأن التشاؤم يملأ الفضاء والنفوس. وإلا من أين يأتي كل هذا الكلام عن غدٍ أشد سوءاً من حاضر كريه؟ ونحن نعرف أن كره الذات ليس أشد بؤساً من عشق الذات، لأن الأخير يشف دائماً عن دونيةٍ مقيمة في الأعماق، تعجز العنجهية الاستعراضية عن إخفائها. 
غير أن هذا قضية أخرى. فما يتوجب ذكره والتذكير به هو وضع الأمور في سياقها الذي ينتجها ويُظهرها ويجعل سبْرها ووضعها في دائرة الضوء، بالتالي، ممكناً.

 

دلالات

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.