إسطنبول: هل وصلت الرسالة؟

إسطنبول: هل وصلت الرسالة؟

27 يونيو 2019
+ الخط -
الأحزاب السياسيّة كالأجسام الحيّة تكبر وتهرم وتشيخ، وقد تفنى، ويصيبها ما يصيب الجسم الحيّ من وهن ومرض وعلل. ولم يكن حزب العدالة والتنمية في تركيا بعيدا عن هذه القاعدة، بل هو أحد مظاهر تحقّقها في الواقع السياسي التركي.
أشارت الانتخابات البلديّة التركيّة إلى تحوّل ما تشهده الحياة الحزبيّة في تركيا، ونبّهت إلى طبيعة هذا التحوّل الذي قد يكون "تراجيديا" بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، وخصوصا الرئيس أردوغان. انشداد هذا الحزب، منذ تأسيسه سنة 2001، للرئيس المؤسس أردوغان، منع هذا الحزب من تنويع عناصر الانجذاب وحرمه من روافد أخرى، تتجاوز مكوّنات الشخصيّة الأردوغانيّة. ولذلك كان الاختزال البلاغي في تعريفه قائما على إحداث تماثل كلي بين الحزب مؤسسة سياسيّة وأردوغان شخصيّة سياسية، وكان التفاعل بين الحزب وأردوغان بيّنا.
المحاولة الانقلابيّة في تركيا سنة 2016، والتي دانتها كل أحزاب المعارضة، أكّدت أن البناء الديمقراطي الوطني أضحى مشتركا تركيّاً. كما أنّ خطاب المدنيّة، بعيدا عن الميل إلى الحكم العسكري، أضحى قاسما مشتركا بين الأحزاب، وبذلك لم يعد حزب أردوغان عند الناخب التركي الضامن الوحيد لمدنيّة الدولة، والمحافظ على مكتسبات المسار الديمقراطي بعيدا عن إرث الانقلابات العسكريّة المخيفة. ولذلك كانت قاعدة الاختلافات بين الأحزاب غير سياسيّة ولا وطنيّة، وإنّما اقتصاديّة واجتماعيّة. ويبدو للناخب التركي أن حزب العدالة والتنمية فقد روح الإبداع الاقتصادي والاجتماعي، وأضحى خطابه الانتخابي والدعائي "تذكيريا"، يذكّر الأتراك بفضل الحزب على الشعب، ولكنه لا يرسم رؤى، ولا يفتح آفاقا ولا يشكّل أملا يخترق واقعا اجتماعيّا واقتصاديّا صعبا.
رفض حزب الشعب الجمهوري المعارض الانقلاب العسكري الفاشل أزاح عنه مخاوف النزعة العسكريّة، وبعث رسائل طمأنة للناخب التركي الذي أخذ في البحث عن خطاب اجتماعي، يلامس مشكلات المجتمع وصعوبات الاقتصاد. على الخبير بالثنايا الوعرة ومسالك المهالك أن يتوقف قليلا في كلّ منعرج، للتثبّت والنظر والبحث عن مواضع الخطر وعناصره وغياب نزعة الحذر من خطاب حزب أردوغان أوقعه في خطأ الاطمئنان الزائف. ويبدو أن الحزب يحتاج إلى مثل هذه الصعقة حتى يستفيق، ويعيد رسم المسالك الصادقة والواثقة، ويعيد تثبيت الخطو في المسارات السياسية، وهي دائما مسارات تائهة ومخيفة.
ما حدث في تركيا، وفي اسطنبول تحديداً، يؤكّد قاعدة في التعامل الحزبي والسياسي بعيدا عن خطابات التمايز والشحن الدعائي "الوطني". نحن الآن في مرحلة "الحزب الخادم" الذي يقدّم الحلول الواقعيّة والبسيطة للأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ما حدث في إسطنبول ليس نهاية الأسطورة، أسطورة إسطنبول التي شكّلت بعضا من ملامح سرديّة انتصار الحزب، ولكنه بداية الصراع الملحمي القائمة أساسا على ثنائيّة البطولة والانكسار. قد تكون انعطافة النهاية الفاجعة، وقد تكون محنة الانتصار الدائم.
avata
avata
محمد المولدي الداودي (تونس)
محمد المولدي الداودي (تونس)