أوكرانيا .. نحو يالطا جديدة بين روسيا والغرب

أوكرانيا .. نحو يالطا جديدة بين روسيا والغرب

11 مارس 2014
+ الخط -

 

بشير البكر

جاء إِعلان انفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا ليؤكد أَن أسباباً كثيرة تجعل الروس، عموماً، وليس الرئيس فلاديمير بوتين، فقط، لا ينوون التفريط بأوكرانيا، فهم غالباً ما يستحضرون تاريخا طويلاً من العلاقات، ومصيراً مشتركاً ربط بين البلدين أو الكيانين. ولقد كانت أوكرانيا تعتبر، ولا تزال، الـ"مَهد" التاريخي للأمة الروسية. هذا فيما يخص التاريخ و"وطأته"، أما ما يتعلق بالحاضر، فإِن عزل الرئيس الأوكراني الُمقرّب من روسيا، فيكتور يانكوفيتش، أَطلق رصاصة الرحمة على مشروع عزيز على قلب بوتين، وهو بناء "الاتحاد الأوروبي الآسيوي" في أفق سنة 2015، وهو اتحادٌ كان يفترض أَن يجمع جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة حول روسيا، لكنه لن يستقيم من دون أُوكرانيا. وتعرف روسيا أَنَّ الغرب لا يريد هذا النوع من الاتحاد، ولن يتوقف عن الضغوط على كييف، لجرّها نحو الفضاء الأوروبي الموحد. ولهذا، أقنع الرئيس الروسي بوتين رئيس أوكرانيا السابق بعدم التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الأَمر الذي فجر الأزمة الحالية في فبراير/ شباط الماضي.

وليس خافياً أَن بوتين يخاف من انتقال عدوى "الميدان" في كييف إِلى موسكو، يوماً. ومن هنا، فإنّ الموقف الروسي المتشنج من التغيّر في كييف، والذي وجد صداه في شبه جزيرة القرم في الأيام الأخيرة، كان بغرض إِشعار المسؤولين الجدد في كييف بأَنه "لا شيء يمكنه أَن يحدُث في أوكرانيا من دون موافقة روسية"!

لم يُرسِل الرئيس بوتين قوات عسكرية روسية "بعدُ" إِلى أوكرانيا، لأن الأمر، إِلى حد الساعة، لا يتطلّب فعل ذلك (غير ضرورية في الوقت الحالي). إذن، فالسيفُ الروسي لا يزال مسلطاً على الرقبة الأوكرانية. وعلى الرغم من أن لدى موسكو قرابة 30 ألف جندي في شبه جزيرة القرم، فلا يستبعد أن تزج بأعداد أخرى، لأنّ لها الحق في "اللجوء إِلى جميع الوسائل لـحماية المواطنين الروس".   

والحقيقة أَن الرسالة الروسية التي بعثها بوتين من شبه جزيرة القرم، في فرض الاستفتاء في السادس عشر من الشهر الحالي، غير واضحة المَعَالم، فهل يريد الروس "ضمّ" هذه المنطقة إلى الفدرالية الروسية، أم فرض حصولها على استقلال ذاتي موسع داخل الكونفدرالية الأوكرانية؟ وهل سيجتاح شرق أوكرانيا الذي يتحدث بالروسية، ولا تزال تحنّ قلوب سكانه، خصوصاً من كبار السنّ، إلى الماضي السوفييتي؟ وإِنْ كان الأسهل على بوتين، الآن، بعد ردّات الفعل المنتقدة لتصرفاته، أَن يجعل من شبه جزيرة القرم ما يشبه إقليميْ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، أَي أقاليم غير خاضعة للدولة المركزية، وبالتالي، لا تنطبق عليها الاتفاقات الدولية (الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو)... في انتظار بزوغ شخصيات سياسية من أوكرانيا، تتفهم المخاوف الروسية، وتأخذ المصالح الروسية بعين الاعتبار، كما هو شأن الرئيس الجورجي الجديد.

هل تم شَكْم بوتين؟ هل قالوا له إن هذه أوروبا، وليست الشرق الأوسط؟ هل من السهل تحجيمُ روسيا؟

لا يثق الغربيون مطلقا بالسياسة الروسية، خصوصا، مع بوتين. كانوا مرتاحين في السابق مع الرئيس بوريس يلتسين، والذي كان يُوافِق، في نهاية الأمر، على كل طلباتهم. وهكذا، ترك مواقع استراتيجية كثيرة تقع في أيدي الغربيين، من دون مقابل تقريبا.

يختلف الأمر مع بوتين الذي يتصور، عن إيمان أرثوذوكسي عميق، أَنَّ الربّ منحه سلطات وحمّله مسؤوليات جساماً في الدفاع عن عظمة الأمة الروسية.  قد يتراجع الدبّ الروسي، أَحياناً، ولكن، ليعاود الكرة من جديد. صحيح أَنّ المكالمة التي تلقّاها بوتين من أوباما، وفيها تحذيرٌ من عقوبات اقتصادية ودبلوماسية في حق روسيا، جعلت الروس يخففون من اندفاعتهم في أوكرانيا، لكنهم، وإزاء غياب بدائل، عادوا إِلى لهجتهم المتشنجة، وإِلى اتهام قوى متطرفة بالاستيلاء على السلطة في كييف.   

تستطيع أَلمانيا، بسبب تداخل المصالح الاقتصادية مع روسيا، أَن تلعب دور التهدئة في أفق إِيجاد حلّ للقضية، خلافا لتصريحات مسؤولين فرنسيين وبولنديين. فألمانيا هي الشريك الاقتصادي الثاني مع روسيا في العالم، بعد الصين الشعبية. ففي سنة 2013، بلغت صادرات أَلمانيا إلى روسيا 38 مليار دولار، في حين بلغت واردات أَلمانيا من روسيا 37 مليار دولار (صادرات الصين إِلى روسيا 54 مليار دولار، والواردات 36 مليار دولار). وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة (الصادرات إِلى روسيا 16 مليار دولار، والواردات 11 مليار دولار)، ولا تحتل فرنسا إلا المرتبة السابعة فقط.

ليست روسيا أي بلد! لدى هذه الدولة التي تعد الأقوى في العالم، عسكرياً، بعد الولايات المتحدة الأميركية، أوراق كثيرة، يمكن لها أَن تراهن عليها وتستغلها، وخصوصاً التوقف عن "سياسة وقف سباق التسلح" التي تشارك فيها الولايات المتحدة، كما أَنها تستطيع تصدير تكنولوجياتها العسكرية إِلى دولٍ، لا تزال أَميركا تعتبرها مارقة، كإيران، مثلا!  وفي الوقت نفسه، إن أي حصار اقتصادي على روسيا سيساعد على التكامل الاقتصادي الصيني الروسي، وهو ما سيخفف من أَثر العقوبات، نسبياً، ويمنح الصينيين امتدادا كبيرا لامبراطوريتهم الجشعة.

أَصبح الرئيس فلاديمير بوتين سجين سياسته الداخلية، فلا يستطيع أَنْ يتراجع، من دون أن تتضعضع شعبيته لدى الشعب الروسي، وهو حريص عليها، والتي تُشيرُ إِلى حنين الروس إلى زمن العظمة الروسية القيصرية، ولا أَنْ يمضي في اندفاعته، بلا كابح، ويَظهر، عالمياً، وكأنما هو الذي يُشعِل الحرائق، بعدما استطاع إقناع الأميركيين والغربيين، عموماً، بلعب دور إِيجابي في سوريا وإِيران، أَو كما صوّر للعالَم دوره المركزي الحاسم في حلّ المسألة الكيماوية السورية، وتجنيب العالم حربا أَميركية غربيّة على سوريا.

لا بدّ من منح شيءٍ مَا للرّوس!

لكن، في نهاية المطاف، قد يحصل الروس على شبه جزيرة القرم، ويتخلون عن الباقي. وإذا كانت دول الاتحاد الأوروبي قبلتْ، على الفور، أَنْ تساعد السلطات الجديدة في أوكرانيا بسخاء، فمعناه أَنها تُراهِن على تحوّل تاريخي وسياسي واستراتيجي حاسم لهذا البلد. وبالفعل، تطالب السلطات الأوكرانية الجديدة من أَميركا والاتحاد الأوروبي بمساعداتٍ، تصل إلى 35 مليار دولار (25 مليار يورو) على مدى سنتين، في حين أَن الاتحاد الأوروبي مستعد لضخّ 11 مليار يورو على الأقل، وأَميركا عبرت عن قبولها منح مليار دولار، في إطار قرض دولي

وإِذا كان التصعيد، في ظل غياب أُفق قريب جداً لحلحلة الوضع، قد احتدم من كلا الجانبين، على الرغم من تأكيد الروس على أَن المشكل في لبّه أوكراني – أوكراني، وأَنَّ روسيا غير منخرطة فيه، فليس معناه أَنَّ الاتصالات السرية منعدمة، لأن الطرفين، الاتحاد الأوروبي وأميركا من جهة والروس من جهة ثانية، لا يريدان الوصول إِلى "حرب باردة جديدة"، لأَن من نتائجها "السلبية" ظهور قوى جديدة وتحالفات، لم تكن في الحسبان أَبداً. كما أَن الحرب الاقتصادية ستُنهك بشكل كبير اقتصاديات أُوروبا وأَميركا، وبالتأكيد (التي بدأت بالكاد تتعافى من الأزمة الاقتصادية العالمية)، وبدرجة أكبر الاقتصاد الروسي (أَكبر خاسر سيكون روسيا حسب "أوكسفورد إيكونوميكس")، حيث سينخفض الروبل بسرعة كبيرة، وسيرتفع التضخم في حين أنّ الناتج الداخلي الخام سيهبط بنسبة 2 % سنة 2014 ثم أربعة ونصف عام 2015، قياساً مع السيناريو الأساسي. في حين أن أوكرانيا ستفلس تماماً، وتظهر الملامح الأولية من أَن البنك المركزي الروسي اضطر لضخ 11 مليار دولار، للدفاع عن عملته، فقط في يوم واحد، (الإثنين)، الذي يستفيد كثيراً من رؤوس الأموال والاستثمارات الغربية في روسيا.

هنا، كان لافتاً جداً ما ذهبت إليه صحيفة "واشنطن بوست"، أن أميركا ستخسر الكثير من فرض عقوبات على روسيا.  وقد طرح بعض ممثلي الأعمال في أَميركا، أمام مسؤولي بلدهم السياسيين، رؤيتهم لهذه المسألة، مشيرين إِلى أَن عقوبات واسعة النطاق لن تفرض على روسيا، لأن حلفاء أَميركا في أوروبا سيعارضون ذلك. وكتبت الصحيفة أن المصالح الاقتصادية لأوروبا في روسيا أَوسع بكثير مما لدى أَميركا، إذ توجد صفقات في مجال توريد الغاز واستثمارات وقروض منحتها البنوك الأوروبية، تقدر بـ 200 مليار دولار. وذكرت أن شركات أَميركية كبرى مثل "بيبسيكو" و"جنرال إلكتريك" و"بوينغ" وغيرها كانت قد وصفت استثماراتها في روسيا بأنها عنصر رئيسي لاستراتيجيتها الشاملة. وأضافت الصحيفة الأميركية أن أكثر العقوبات فاعلية قد تكون التي يمكن فرضها على قطاع الطاقة الروسي، لكن فرضها قد يؤدي إِلى ارتفاع أسعار النفط والغاز في السوق العالمية، ما قد يخلّ بالتوازن الهش الذي أقيم بعد أزمة عام 2008 في جورجيا.

وقد يلحق فرض العقوبات، بحسب "واشنطن بوست"، على القطاع المالي الروسي، ضرراً بالبنوك الأميركية والأوروبية التي منحت قروضاً، ووظفت استثمارات في روسيا، تقدر بمئات مليارات الدولارات. وخَلُصت الصحيفة إلى أَن المراكز المالية في آسيا، على أي حال، سترفض تأييد العقوبات الاقتصادية، وإن كانت فعالة.

الخلاصة أن أخفّ الضرر بين الغربيين والروس هو المفاوضات. وعلى الرغم من فقدان الثقة الكبير، والمتزايد، بين الطرفين، فَهُمْ لن يعثروا على حلٍّ أرْحَمَ، وأقلّ إيلاماً، من اتفاق "يالطا" مصغر. ألَيْست هذه المدينة التي شهدت تقسيم العالَم الخارج، توّا، من الحرب الكونية الثانية، توجد في شبه جزيرة القرم؟! ربما يعيدُ التاريخ نفسَه!

 

1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد