أن تعيش لتروي ذكرى الاشتباكات

28 يناير 2015
فضلت أغلب الروايات أن تقدم مساحة زمنية قصيرة(الأناضول)
+ الخط -

لحظات بعينها تظل محفورة في عقول وقلوب البعض فيها، لحظات يقترب فيها الموت منهم ويحملهم الأمل على مواجهته.

لحظات الاشتباكات والمواجهات.. اقتحام المتظاهرين ميدان التحرير.. موقعة الجمل.. محمد محمود.. لحظات خلدت في ذاكرة المشاركين فيها وسعى بعضهم لتخليدها في أعمال أدبية حظيت بنجاحات متفاوتة.

روايات مصرية عديدة حاولت اقتناص لحظات المواجهات في الميادين، منها ما ربط الذكريات بالحدث الروائي، مثل "سيجارة سابعة" (2012) للكاتبة دنيا كمال القلش، و"جرافيتي" (2013) لمصطفى سليمان، ومنها ما قدم رؤيته للأحداث من خلال شخصيات متخيلة، مثل "أجندة سيد الأهل" (2011) لأحمد صبري أبوالفتوح، و"فراشة الميدان (2012) لسلطان الحجار، و"مريم العذراء والانتفاض" (2012) لكرم صابر.

في روايات الذكريات نقرأ لوحات متناثرة عن أحداث الثمانية عشر يوما الأولى من أحداث الثورة المصرية وما تلاها من وقائع في ميدان التحرير مرتبطة بأحداث شخصية وأحلام وإحباطات، أغلبها يجد جذوره في وقائع حياة الكتاب.

فدنيا، ابنة المناضل اليساري، "كمال القلش" تحكي عبر روايتها تفاصيل علاقتها بأبيها منذ الطفولة.. يتحرك الزمن الروائي بين الماضي والحاضر وهي تحكي عن مراحل مختلفة من حياتها، تحكي عن مظاهرات قديمة وعن اشتباكات حديثة.

تروي دنيا في "السيجارة السابعة": "يقول لي بصوت خفيض: هي ثورة ولا إيه؟ حنشوف الثورة يا ولاد قبل ما نموت! أقول له: يظهر كده، لو تعبت قولي ممكن أوديك البيت وارجع؛ ينظر لي بابتسامة: إنتي مجنونة! دانا مستني أشوف اليوم ده من خمسين سنة، أروح فين! أنا مش حمشي وانتي حتفضلي معايا.. ابتسم وأكمل السير في شوارع وسط المدينة التي تقودنا حتما إلى حيث المعركة".

ثم ينتقل الزمن الروائي عبر أحداث أخرى في حياتها ليعود مجددا للتحرير، إلى الأيام الأولى المجيدة بخاصة: "بدأنا نتحرك وأنا أحاول تحديد مسارات الطوب من فوق الرؤوس.. أصابتني طوبة صغيرة مثل الزلطة في كتفي.. فزع أبي: جرالك إيه؟ اتعورتي! لأ خالص، دي زلطة يا بابا ماتخافش".. أخذنا نمشي حتى ابتعدنا نسبيا عن مرمى الضرب.. اتجهنا في خطوات سريعة إلى ميدان التحرير".

تحكي بطلة الرواية عن الدماء التي سالت بجوارها، تحكي عن طاقة التحرير الخاصة، تحكي عن الإحباطات والانتصارات وحس الفكاهة وتحكي عن رفاق الميدان، كل ذلك يدور خلال الأيام الأولى للثورة خاصة "جمعة الغضب" (28 يناير/كانون الثاني 2011) و"موقعة الجمل".


حب وحجارة

لم تنقطع الاشتباكات من الميادين المصرية طوال الأعوام التي تلت سقوط الرئيس المخلوع، حسني مبارك، ولم تنقطع محاولات الإمساك بهذه اللحظات وتوثيقها تاريخيا وفنيا.

وتحاول رواية "جرافيتي"، لمصطفى سليمان، تقديم نظرة من داخل اشتباكات محمد محمود ثم اعتصام وأحداث مجلس الوزراء، وترسم شخصيات حقيقية من الأحداث.

وسليمان نفسه نشط لفترة طويلة بحركة "السادس من إبريل"، وهو يقول إن كثيراً من أحداث الرواية مستقاة من خبرة مباشرة وأحداث شاهدها بعينيه، وكثيراً من شخصيات الرواية هي شخصيات حقيقية ولكن الرواية تقدمهم بأسماء مختلقة.

تحكي الرواية في صفحات عديدة تفاصيل مطولة عن الاشتباكات، ولكنها تقدم كذلك حيرة بعض هؤلاء الشبان، الذين التحقوا بالركب الثوري بعد موجته الأولى.

تقول الرواية من خلال أحد أبطالها خلال اشتباكات محمد محمود: "ما بين رصاصة مهاجمة وطوبة مدافعة، كانت التساؤلات بداخله تذهب بعيدا، وحده سؤال كان ملازمه: لماذا يعبث من وثقنا به بالثورة هكذا؟ ظل يردد هذا السؤال في داخله ولكن بصيغ مختلفة، كلما رأى طلقة تخرج من سلاح أو شاب يسقط مختنقا أو آخر يمسك عينه بعد أن ملأها النزيف، يعود ويسأل نفسه نفس السؤال الذي حيره.. ثم يعود ليلوم نفسه على كل ما فاته وهو جالس على كنبته.. يصدق ما يقال له، يسب ويلعن في من هم الآن في نظره يعطون دروسا في كيفية أن تكون رجلا.. ها هو الآن بداخلهم، يحتوونه بأجسادهم التي لفظت الخوف من داخلها، ها هو الآن واحد منهم.. لا فرق يلمع بينهم سوى أن معظمهم يعرفون السؤال الذي عجز عن أن يجد إجابة له: لماذا يعبث من وثقنا به بالثورة هكذا؟".

وتحفل رواية "جرافيتي" بالوقائع السياسية أكثر بكثير من باقي روايات الثورة، فالخيوط الفنية فيها رغم تعددها تصب جميعها في الميدان.

نرى في الرواية السياسيين العجائز الذين يخضعون للجنرالات بعد أقل الضغوط، والشبان الذين تطردهم أزماتهم العائلية من منازلهم فيصبح الميدان هو ملاذهم، كما هو ساحة نضالهم، وحتى قصص الحب والغيرة والخيانة تمر كلها عبر الميدان في مرحلة أو أخرى.

وفي "جرافيتي" ملمح مميز، سنراه كذلك في أغلب روايات الكتاب الشباب عن الثورة، وهو أن الشخصيات من "لحم ودم"، أو على حد قول "مصطفى سليمان" لملحق "جيل": كنت عاوز أقول إن اللي كانوا هناك دول ناس عاديين؛ بيغلطوا وبيحبوا وبيخونوا، مش ملايكة ولا شياطين". ولم تلجأ أغلب الروايات المكتوبة عن الثورة لتصوير شباب الميادين كشخصيات تراجيدية أو أبطال أسطوريين، بل فضل أغلبها أن يركز على الجوانب التي تثبت إنسانيتهم، مقدمة بطولاتهم ممتزجة بمخاوفهم وأسئلتهم.

كما فضلت أغلب الروايات أن تقدم مساحة زمنية قصيرة، بعضها غطى أياماً فقط وبعضها فترة أطول بقليل، ولذلك ما زلنا بانتظار ذلك العمل الملحمي الذي يقدم "رواية" تليق بالزلزال العظيم، الذي ضرب الاستبداد في مصر يوم 25 يناير/كانون الثاني وما زالت توابعه تهز البلاد حتى اليوم.


*مصر

المساهمون