أم عزيز وإيلي حبيقة

أم عزيز وإيلي حبيقة

06 سبتمبر 2019
+ الخط -
جمعت مصادفةٌ، الأسبوع الحالي، بثّ تلفزيون العربي وقناة الجزيرة فيلميْن وثائقيين، يقومان على الاستقصاء، ويجتمعان في أن من أنجزوهما لم يصلوا إلى كشف الحقيقة الضائعة في كل منهما. والأهم أنهما يجتمعان، من دون قصد، في أن الشخص الذي اعتنى به الفيلم الذي شوهد على "الجزيرة"، الأحد الماضي، يقع عليه قسطٌ كبيرٌ من المسؤولية المرجّحة (أو المؤكّدة، لم لا؟) بشأن المحنة التي فُجعت بها الشخصية التي يعتني بها الفيلم الذي أنتجه تلفزيون العربي، وشوهد الاثنين الماضي. الأول من جديد مواد برنامج "الجريمة السياسية"، عن القائد السابق في "القوات اللبنانية"، والعميل المشهود لإسرائيل، قبل عمالته للنظام في سورية، النائب والوزير، إيلي حبيقة، والذي اغتيل في يناير/ كانون الثاني 2002، واشتُهر بمشاركته ومسؤوليته المباشرة في تنفيذ مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت، والتي قضى فيها 909 ضحايا، وخُطف واختفى وفُقد في أثنائها 484 شخصاً (الأرقام من أهم كتاب عن المذبحة، بيان نويهض الحوت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2003). ويحسُن أن يُعلم هنا أنه، فيما أغلبية الضحايا والمفقودين فلسطينيون، فإن منهم لبنانيين وسوريين ومصريين وجزائريين وباكستانيين وبنغاليين. أما فيلم تلفزيون العربي فكان طيّباً أن اسمه جاء هكذا "أم عزيز"، عن اللاجئة الفلسطينية الصابرة، أم عزيز الديراوي، المقيمة في مخيم برج البراجنة، وقد خطف مسلّحون من "القوات اللبنانية" (حزب الكتائب)، على الأرجح شبه المؤكد، أربعةً من أبنائها، عزيز وإبراهيم ومنصور وأحمد، (أكبرهم 32 عاماً وأصغرهم 13 عاماً)، بينما كانوا يتناولون فطورَهم يوم 15 سبتمبر/ أيلول 1982، أي ساعات قبل بدء المقتلة المهولة، ولم يُعرف عنهم شيء منذ ذلك الصباح الذي أخذتهم فيه شاحنةٌ إلى الغياب الفظيع. 
تنتظر أم عزيز، في شيخوختها، أن يفاجئها أبناؤها المغيّبون، في صباح آخر، ويدخلوا عليها، وهي التي تضمّ صورَهم إلى صدرها، وتوزّعها في غرف الدار. اختارت الصحافية، عبير بسّام، لتحقيقها عنهم، والذي كانت قد بدأته قبل سنوات، اسم "أم عزيز.. قصة بلا خاتمة"، واجتهدت في ملاحقة رواية الخطف، وتقصّي مسار الشاحنة، ومحاولة أن تحسم التشكيل المليشياوي الذي ينتسب إليه الخاطفون. وطرحت ما إذا كانت الجهة الخاطفة سلّمت أبناء أم عزيز (وغيرهم) إلى الجيش الإسرائيلي، وهم، للتذكير فقط، أربعة من بين نحو 17 ألف مفقود في غضون الحرب الأهلية اللبنانية، لا يزال أهلوهم يلحّون من أجل أن تقول الأطراف التي تقاتلت أي شيءٍ عن أيٍّ منهم.
أتقنت مخرجة الفيلم، نور معتوق، إشاعة الإيحاء العاطفي بفداحة مأساة أم عزيز، بالمؤثّرات الصوتية وتنويع مسافات الكاميرا في التقاطاتها، وكذا في توظيف مادة أرشيفيةٍ منتقاة، سيما لأم عزيز نفسها، تعود إلى العام 2007. وانضافت الحرارةُ الخاصة في حديث عبير بسّام عن هذه الحالة إلى توثيق الجهد الصحافي في محاولتها الوصول إلى حسم مصير الشبان الأربعة، والذين هاجر أخٌ لهم إلى الدنمارك، ونال جنسيّتها التي أتاحت له زيارة فلسطين، وجاء لأمه بزيتونةٍ من هناك، فتغتبط بها، وتزرعها في منزلها البالغ التواضع. لم يصل جهد الزميلة الصحافية إلى مُراده، ليس فقط لأن القصّة أكبر كثيراً من الإمكانات بين يديها، وإنما أيضاً لأن القرار المتوافَق عليه، وغير المدوّن، بين كل فرقاء الحرب الأهلية اللبنانية وزعاماتها وناسها، وكذا لدى إسرائيل، أن تبقى الحقائق مغلقة. ومنها الحقيقة التي أخفق الفيلم الوثائقي عن إيلي حبيقة في الوصول إلى حسم من قتل هذا الرجل. اجتهد محمود عبد العزيز ومهند الصلاحات، مخرجا المادة التلفزيونية التي شوهدت في "الجزيرة"، وكذا فريق الإعداد والبحث، في محاولة ذلك، ولم يفلحوا، فطرحوا الترجيحات المعلومة، عن مسؤولية إسرائيل مثلاً، لتحول دون شهادة حبيقة أمام محكمةٍ في بلجيكا بشأن ما يعرفه عن مقتلة صبرا وشاتيلا. ربما كان هذا صحيحاً، أما المؤكّدة صحّته فهو أن الفيلم جاء غير متوازنٍ في صياغة روايةٍ أكثر إحاطةً ودقةً بشأن المقادير الثقيلة لمسؤولية هذا المليشياوي، قبل أن يصير وزيرا، في المذبحة. لقد بدا أمْيَل إلى تظهير نفي حبيقة هذه المسؤولية.. الأهم من هذا كله أن خرائط الزمن على وجه الصابرة المؤمنة، أم عزيز الديراوي، كانت تؤشّر إلى حبيقة وأمثاله، مسؤولين عن فقدانها أبناءها الأربعة، من دون أن ينطقَ أحدٌ في فيلمي "العربي" و"الجزيرة" بهذه الحقيقة.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".