أمل دنقل.. الفلسطيني

أمل دنقل.. الفلسطيني

22 مايو 2014
غرافيتي مصري
+ الخط -

لكي نفهم ملمحاً جوهرياً في المكوّن الشّعري والشخصيّ لواحدٍ من أشهر شعراء الرفض في العالم العربي المعاصر، أمل دنقل، يجب التنبّه بدقة إلى أنّ الأوتار الشعرية التي يتنقّل بينها في قصائده السياسية لا تُصدر نفس النغمة تماماً في معزوفاته الأخرى، وربّما تتحوّل في بعض الحالات إلى إنكفاءات ذاتية وجوّانية يصير اللجوء إليها بديلاً عن المجابهة، وهي من الأهمية بحيث تؤكد - من جانبٍ آخر - على "بُعد النّظر" الذي وُجد وتنامى كخصيصةٍ سحريةٍ في القصيدة الدّنقلية.

تجربة دنقل الشعرية بعد 1967 كانت الأبرز ممثلةً بديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969) ومن ثمّ "تعليق على ما حدث" (1971)، ذلك أنه جاء بصوتٍ إحتجاجيٍّ خاص يخوض في عمق الهزيمة، ويعرّي الواقع العربي ويضعه موضع التساؤل من دون مسايرة، علاوة على وقوفه في صفّ المطالب التحررية للجماهير، وإنحيازه إلى غضبها وغليانها أكثر ما يتّضح في تلك الفترة، فكان لا بدّ للقضايا العادلة - القومية منها على وجه الخصوص - أن تكون مركوزة في نفسه كأولوية، سياسية وشعرية، والتي لولاها ربما لفَقدَ مسوغات الكتابة أو الإستمرار فيها.

وليس أعدل في هذا الزمان من قضية فلسطين، التي قد نتفاجأ للوهلة الأولى بأنها لم تكد ترد كمفردة قطّ بملفوظها الصريح في القاموس الشعري لدى دنقل، الصعلوك، التحرري و"طويل اللسان". لكن، سرعان ما يزول هذا الإلتباس وتتبدّد الشكوك حول أيّ "انفصالات" ثورية لديه، فنجد فلسطين مستدعاةً تماماً بكامل تماهياتها الثورية وإلتصاقاتها التلاحمية في أعماق ذلك الشعر إلى درجة الهيام أحياناً.

أضف إلى أنّ مواقفه الوطنية والقومية ضمن هذا التّداعي ليست موضعاً للجدل ولم تكن لحظات عارضة، سيّما أن شعره استطاع الإرتقاء دائماً إلى مستوى الحدث في إطارٍ من الرؤيا، والوعي باللغة وحيثيات الصّراع على حدّ سواء، من دون أن يكون مضطراً للإشارة إليه مباشرةً. وليس أدلّ على ذلك من قصيدته التي صار لعنوانها رنين مدهش "لا تصالح"، والتي سخّر من خلالها تاريخاً قديماً كمعادل ثوريّ حديثٍ للرفض، وراح يتحرّك في مساحاته بحدوس شفيفة.

ولا غرابة في أن تتحوّل القصيدة إلى نشيد قوميّ، وتتكاثر "لاءاتها" المحمومة في وجه الحلول المنقوصة الجائرة للقضية الفلسطينية وأيّ قضيةٍ عادلة، جاعلة من "الجنوبي" أيقونة لقصيدة الرفض الحديثة، وكاشفةً حصيلة مواقفه الصريحة من السلطوية السياسية التي كان يواكبها.

الجماهير العربية بدورها ردّدت قصائد دنقل في تظاهراتها وانتفاضاتها، سواء تلك المناهضة لأي شكل من أشكال التصالح مع العدو الصهيوني أو المطالبة بالحرية والعدالة السياسية والإجتماعية، كما حدث في مصر السبعينات وصولاً إلى الربيع العربيّ.

وسط ذلك، كانت فلسطين، أرضاً وثورة وشعباً، مستقرة في وجدان دنقل وتفكيره وهواجسه الشعرية كقضية مركزية لم يقدّمها بطريقة تقليدية أو تزيينية تلامس السطح كما اجترها سواه، بل ظلّ حريصاً على استدعائها وإحتضانها في سياق عروبيّ أكثر شمولاً. ولعلّ أهمية هذه القضية تدفعنا لإدراك وإكتناه سرّ الوصفات الشعرية التي ما فتئ دنقل يقترحها من دون تباهيات لغوية، وذلك بوصفها - أي القضية - أبعد من مجّرد كلمة في قصيدة، وأكثر تجذّراً في التاريخ وسيرورة الحياة.

في أعقاب وفاة دنقل، نشر الشاعر الفلسطيني وليد خازندار مقالاً في مجلة الكرمل يستذكر اللحظات الأخيرة برفقة "الجنوبيّ" في الغرفة 8 بمعهد الأورام في القاهرة أثناء فترة علاجه، مشيراً إلى ما رواه له دنقل حول قيام "أبو عمار" بإرسال نقود إليه باسم الثورة الفلسطينية مشفوعةً بتحياته، وذلك أثناء حصار بيروت عام 1982، فلم يقبلها دنقل. وقال لخازندار بما يشبه التوكيد المطلق "أنتم الفلسطينيون، لماذا تتصرفون كالآلهة؟ يموت منكم العشرات يومياً، والحصار مضروب عليكم، لا ماء ولا كهرباء ولا طعام، ثم تتذكرون شاعراً مريضاً في آخر الدنيا فترسلون إليه نقوداً!".

موقف كهذا يعكس العلاقة وحالة الودّ المتبادل بين دنقل وفلسطين، من ضمن مجموعة قصائد ومواقف صادرة عن دوافع أصيلة تتجاوز حاجز الأيديولوجيا الضيقة، وتؤكّد على تعلّقه بفلسطين، وإيمانه العميق بعدالة قضيتها.

في مجموعة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" قصيدة مؤرخة في العام 1968 عنوانها "بكائية ليلية"، ومهداة إلى صديقه الفلسطيني "مازن جودت أبو غزالة" الذي عرفه "في سنوات التساؤل" قبل أن يرحل مع "العاصفة":

تتسع الدائرة الحمراء في قميصك الأبيض.. تبكي شجنا
من بعد أن تكسّرت في "النّقب" رايتُك!
تسألني: "أين رصاصتُك؟"
"أين رصاصتُك؟"
ثمّ تغيب: طائراً.. جريحا
تضرب أفقك الفسيحا
تسقط في ظلال الضفة الأخرى.. ترجو كفنا!

هذا غيضٌ من فيض أمل دنقل الفلسطينيّ، الذي تظلّ استعادته واجباً وطنياً وشعرياً وثقافياً على رغم مؤشرات المزاج العام للشعر العربي الذي يبدو أكثر افتراقاً في الآونة الأخيرة عن دنقل وأمثاله، ومنساقاً وراء أطروحات ومفاهيم سياسية وإجتماعية مشوّشة عن الرفض والثورة التي كان دنقل ولا يزال أبرز ممثليها القلّة في الشّعر العربي الحديث، ومن زمرة الذين استطاعوا تحرير القصيدة السياسية العربية من فخاخ الشعاراتية.

ولعلّه – برؤياويته المتفردة - كان يعني "فلسطين" تماماً في توقه الطوباويّ إلى أرض محرّرة، كمن أصيب من جرّائها "بحريق القلب"، كما يقول ماياكوفسكي.

دلالات

المساهمون