أسبقية التطابق ومسألة الاختلاف

أسبقية التطابق ومسألة الاختلاف

03 مايو 2015
نور الدين ضيف الله (مقطع من لوحة)
+ الخط -

لعلّ إغفال ما يمكن أن نطلق عليه "الهاجس التّوحيدي" عند محمد عابد الجابري هو ما تسبّب لكثير من قرّائه ومنتقديه في سوء فهم كثير من القضايا. فالظاهر أن الهوس "التّطابقي" identitaire هو الذي وجّه أعماله في قراءة التراث و"تملّكه".

لا يسمح المقام للبحث عمّا قد يكون لهذا الهوس من بواعث سياسية في نهاية التحليل. إلا أنّ المبدأ الأساس الذي يلزم استحضاره، في نظرنا، عند قراءة الجابري، أنّ الأسبقية هي دوماً للتطابق وليس للاختلاف، وأن الحقيقة هي الكلّ لا الأجزاء.

من هنا قصور القراءات التي تتوقف عند بعض الجزئيات لتخالف الجابري في نقاط بعينها. إنّ هذه القراءات تغفل ببساطة أن الفروق والاختلافات عنده ليست إلا مفعولاً لوحدة أولية هي ما يطلق عليه وحدة الإشكالية، التي تعكس بدورها تلك "الكليّة" التاريخية التي هي المجتمع العربي الإسلامي في القرون الوسطى.

لا ينشغل الجابري كثيراً باللُّوَيْنات التي يتّخذها هذا المشكل أو ذاك، هذا المفهوم أو ذاك، عند هذا الفيلسوف أو عند الآخر، في هذا المؤلف أو في غيره. لذا، فليس من الغريب أن نجد عنده ميلاً كبيراً إلى السكوت عن النشاز وإغفال الفوارق لخلق التطابق، ولا عجب أن تذوب في عينيه الفروق ليصبح مفهوم الوحدة هو المفهوم - المفتاح: "نحن ننطلق هنا من أن الفكر النظري في مجتمع معيّن وعصر معيّن وحدة متميزة ذات كيان خاص تذوب فيه مختلف الفروق والاتجاهات. إن الحقيقة هنا هي الكل، لا الأجزاء. وليست الأجزاء إلا تعبيرات وحيدة الجانب عن هذا الكلّ".

لا يعني هذا أن الجابري يجهل أن المجتمع العربي الإسلامي في القرون الوسطى كان مجتمع كثرة وتعدّد يغلي بالتناقضات. كما لا يعني أنه يجهل الفرق بين الفِرَق، واختلاف المتقدمين عن المتأخرين، وتميُّز الفارابي عن الكندي، وابن باجة عن ابن رشد، ولكنه يريد أن يبيّن أن "التحوّلات" التي عرفها تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية لم تكن من صميم ذلك "التاريخ"، الذي في نظره، لم يعرف مخاضه الخاص، ووراء ما يظهر على أنه تاريخ للفلسفة في الإسلام، تاريخ فعلي هو تاريخ الإيديولوجيا، تاريخ توظيف تلك المادة المعرفية، وحياة ذلك المحتوى الميت.

إن الفلسفة الإسلامية لم تكن قراءة متواصلة ومتجددة لتاريخها المعرفي الخاص، وإنما كانت قراءات وَظّفت المادة المعرفية نفسها لأهداف إيديولوجية متباينة، ومعلوم أن الميكانيزم الإيديولوجي ينشغل أساساً بملء الفراغات وإغفال ما يفرّق لإبراز ما يُوحّد. لذا فإن كانت هناك تحوّلات في ذلك التاريخ، فإنها لم تكن إلا لهذه الوظائف الإيديولوجية.لقد ظل المحتوى المعرفي خارج تاريخ المعنى، خارج التاريخ، وفي الوظائف الأيديولوجية وحدها "يجب أن نبحث للفلسفة الإسلامية عن معنى، عن تاريخ".

لا بد، والحالة هذه، أن تطغى الرؤية السانكرونية على الهمّ الدياكروني، وأن ينشغل صاحب "نقد العقل العربي" برصد المركبّات البنيوية، والأنظمة الكبرى التي تنحلّ إليها قطاعات تراثنا الفكري "بصورة تسمح بتجاوز الاختلافات الراجعة إلى المظاهر الخارجية".

هذه الرؤية التوحيدية يوظفها الجابري حتى في فهمه للتاريخ الكوني كي تغدو وحدةً للتطور البشري في مجموعه، ويصبح التاريخ الكوني تاريخاً كلياً تتراكم لحظاته وتستمر وتتواصل، بحيث يشكل التاريخ العام عصارة المساهمات النوعية للثقافات جميعها.

بهذا المعنى، يرى الجابري في تراثنا العربي - الإسلامي مجرد لحظة من لحظات قيام الحداثة "العالمية"، كما يرى أن الاختلافات لا تعبّر عن ثوابت ثقافية، وإنما ترجع فقط إلى "اختلاف أسباب النزول"، أي إلى ما هو طارئ زائل، وأن "الأسس النظرية" التي تقوم عليها المفاهيم لا تختلف من ثقافة إلى أخرى، ليستخلص من ذلك أن هناك عالمية لتراثنا العربي الإسلامي لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا إلى حدّ أننا حينما نقيم تعارضاً ومقابلة بين الأصالة والمعاصرة نكون كأنما وضعنا "الفكر الإنساني في مقابل نفسه".

على هذا النحو يغدو كل تحديث تأصيلاً، ويؤول في نهاية الأمر إلى استئناف ووصل وإعادة ربط. لكن، أليست الحداثة بالضبط هي الوعي بالحركية المتقطعة للزمن؟ أليست هي اللحظة التي يغدو فيها الانفصال من صميم الكائن؟ أليس التحديث قطيعة مزدوجة لا تنصبّ على تراث دون آخر، وتكون في الوقت ذاته ابتعاداً عن الآخر، ولكن أيضاً وربما أولاً، ابتعاداً عن الذات وانفتاحاً للهوية على الاختلاف؟

المساهمون