"فيرجينيا وولف": السقوط الحرّ

"فيرجينيا وولف": السقوط الحرّ

11 يناير 2015
فيرجينيا وولف
+ الخط -
"غرفة فيرجينيا وولف" عنوان المجموعة القصصية القصيرة التاسعة التي صدرت خلال 2014 عن دار توبقال للقاصة المغربية لطيفة باقا (1964). وفيّة للقصة القصيرة بعد مجموعاتها الأولى "ما الذي نفعله؟" (1992) و"تلك الحياة" (2005)، تتقمص باقا في كتابها الجديد رغبة فيرجينيا وولف، الكاتبة الإنجليزية والقاصة التأثيرية، في امتلاك بعض المال وغرفة خاصة من أجل إنهاء نصوصها الأدبية القصيرة وفتح النوافذ على سراديب الماضي والوقوف عند المستقبل. 

وللاقتراب أكثر من أجواء القصص، علينا أن نطل برهة على حياة وولف نفسها التي تشبعت بالمآسي والمحن نتيجة موت والدها وأخيها وزيجاتها الاثنتين الفاشلتين. رغم الهدوء النسبي الذي طرأ على حياتها بعد زواجها من الأديب ليوناردو وولف إلا أن ذلك انتهى بانتحارها خوفا من انهيارها العقلي مرة أخرى. فيرجينيا أبدعت روائع أدبية عالمية ومرموقة، كانت نتاجا لحاجاتها النفسية والذهنية مستخدمة أسلوب "التداعي الحر" لتفريغ طاقاتها وتحقيق شيء من التوازن مع ذاتها، ومطلقة صرخاتها لإيقاظ الضمير الإنساني.

في نصوص باقا الذاتية، نصوص "البوح" الصريح والعميق، تكشف لنا الكاتبة عن تجاربها الشخصية في واقع مغربي ينتقل زمنه من حاضر القلق والتشظي، إلى طفولة الأمان والسكينة، ثم إلى مستقبل الخوف والضباب، في قصص يتكثف فيها البعد الأنثوي النسوي والكاشف عن الجوانب غير المرئية لكن المركبة. باقا مُقلة في إنتاجها الأدبي، إلاّ أنها استطاعت أن تكتب نصا بديعا وسهل التفكيك بعد سنوات طويلة من الانقطاع ووظفت أسلوبا متطورا في السرد وأحكمت سيطرتها على ناصية الحكي، واستخدمت المفارقات والمقاربات بطريقة مهذبة ومشوقة وعرضت لنا التضاد بما يناسب البوح الخاص بها. عند كل باب غرفة جديدة رصعت النص بمقولة من مقولات فيرجينيا، لتقف بعدها على نافذة مونولوجية وتسقطنا معها إلى أغوار ذاكرتها. السقوط السهل كان على أرضية صلبة، والدليل أنها نسجت الأحداث والقصص من دون تعقيد. أما نكهة ومذاق النص فقد جاءا من جهة توظيف تعبيرات من الدارجة المغربية أضفت فيها الكاتبة دفئا وحرارة على نصوصها وأبقتها مخلصة لبيئتها.

أولى النصوص هي "الغرفة المجاورة"، الغرفة الغامضة التي لم تفتح أبدا أمام الساردة إلا مرة واحدة، غرفة المهنة لعمتها زبيدة "المومس" الطيبة التي كانت تحضر بكل طيب خاطر أطباق الحلزون بالزعتر وقشر البرتقال، وتوفر الملجأ الآمن للكاتبة وأخيها ولأحلامهما بالثورة والحب الملتزم، ومشاهدة التلفاز أيضا. تبدأ الكاتبة بقصّ الأحداث، غير واعية، عندما تسمع أغنية قديمة تنطلق من المقهى في الزقاق البارد والموحش في حيّها، فتتسلل عمتها - المرأة الاستثنائية - التي تزوجت في سن الثالثة عشرة ثم تركت زوجها لتنتقل للعيش مع زوج آخر ثم نبذتها عائلتها بعد أن امتهنت الدعارة. لا يقسو النصّ على العمة زبيدة، فهي نموذج لضحية ذكورية مجتمع قاس. في نفس الوقت هي امرأة ليست بالشيطان ولا بالملاك. عالم زبيدة كان مساحة مفضلة للكاتبة مما جعلها متسامحة مع ما يحدث بالغرفة المجاورة، التي تفتح أمام زبائن العمة وتغلق حالما انتهوا من انتهاك جسدها.

في "تفاحة آدم"، تبدأ باقا القصة من عيادة الطبيب النفسي، ووصفاته لها بالابتعاد عن دائرة المشاعر السلبية ثم نصيحة صديقتها "لبنى السريعة" بمشاهدة الرسوم المتحركة للقضاء مطلقا على مشاعر الاكتئاب والانتصار للحياة بمشاهدة حصص "ميكيات" باذخة بالهزل. صديقتها التي فاجأتها بصبغ شعرها الطويل بالأصفر والتحول الواضح على شكلها، في حين أن المعظم يتحول للبس الحجاب "كمجرد إعلان عن حسن نية صادقة وغير مشروطة باعتبارهنّ (النساء) مسؤولات عن إرساء دعائم السلم الاجتماعي"، وللتخفيف من حدة التحرش الجنسي في الشارع.

كانت باقّا تعرف ما تريده من خلال نصوصها القصيرة، دخلت ممرات ضيقة خاصة بها، ورفعت لنا الحجاب عن مناطق غير مرئية وتابوهات مجتمعية، ولعبت جميع أوراقها وكشفتها أمامنا برسالة مغزاها أن لا شيء آخر هناك حتى أقوله، رميت بالثقل عن ظهري وقلبي، تخلصت من قيودي للأبد وأصبحت فراشة تطير بأحاسيس حرة، ولكن تركت لكم أثري.

*كاتبة فلسطينية

المساهمون