"فصاحة" في قطر

"فصاحة" في قطر

17 مارس 2016
+ الخط -
لست هنا في معرض الحديث عن فصاحة قطر في المحافل الدولية، وقيامها بكل أمر من شأنه رفعة العرب وتحرّرهم. إنما حديثي عن واحدة من وقفات قطر، وهي إطلاق برنامج "فصاحة"، الذي جاء في وقت تشتد الحاجة إلى عمل يعيد للغة العربية شيئا من اعتبارها، ويذكر الأجيال العربية بأهميتها في زمن شاع فيه اللحن والركاكة.
غنيٌّ عن القول أن ألسنة الناس في زمننا لم تنطبع على ما انطبعت عليه ألسنة أسلافنا من الفصاحة والبيان، وأنّ حدّة البداهة في انطلاق اللسان بالعربية تتثلم، كلما تقدم بنا الزمن، متأثرة بتغوّل اللهجات المحلية. وبين العذر الذي يعتذره بعض العامة، والإعذار الذي يُلتمَس لبعض الخاصة، يكاد المرء يضيع بين شيء من العزاء، وشيء من تسمم الذائقة والبدن معا. وقد نادى حافظ إبراهيم، قبل نحو مئة عام: فلا تكلوني للزمان فإنني/ أخاف عليكم أن تحين وفاتي.
أراد رجل هندي أن يشهر إسلامه بعد صلاة الجمعة في أحد مساجد المدينة، فما كان من الخطيب الذي أسدى إلينا خطبة مترعة بالأخطاء اللغوية على هامشها بعض الآيات والأحاديث، إلا أن قال معلقا على إسلام الرجل: ما أجل أن يدخلَ (كافرا) في دين الله. ولعل الخطيب أراد أن يرفع "الكافر"، فلما لم يجده أهلا للرفع نصبه، أو ربما وجد تنوين الضم أفصح وأخف من تنوين الفتح. وما كان عزائي إلا أنه أضحكني، بعد طول غمّة، فجزاه الله خيرا.
وإن تعجب فاعجب من مذيع فقرة أدبية على إحدى الإذاعات، يقرأ بيت زهير، بضم آخر حرف في العجز: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله/ على قومه يستغن عنه و(يذممُ).
ولم أعلم إلى ساعتي كيف لم تستدركه قافية القصيدة الشهيرة بعد، إذ فاته إدراك قاعدتي الشرط أولاً، والعطف ثانياً. وتلك قصص تطول، وفي أبسطها ما يجف لهوله القلم واللسان، فما زال مذيعو الأخبار يسألون ضيوفهم، كيف ينظرون إلى "هكذا" وضع، وما زالوا يلصقون فعل الاستبدال بالمستبدل به. فإذا ما داخل نشراتهم بعضُ التقديم والتأخير خلال "إن" وأخواتها أو "كان" وأخواتها، جاؤوك بما قد مات أهله من القول، بل بما لم يجعل الله له أهلا. فإذا عاتبتهم، اعتذروا إليك بأنهم لم يتخصصوا في اللغة العربية، وأنّ الخطأ من كاتب الخبر ومنتج النشرة ومدققها، وأنّ الغاية إيصالُ المعنى، حتى ولو داخله اللحن والتحريف، وهذا خطبٌ يطم، أفلا يرون أن المراد بالقول يختلف باختلاف الإعراب كما يختلف المعنى باختلاف الحروف؟
نحن العرب، أهل الفصاحة، ورثناها كابراً عن كابر، وآخرا عن أول. وقد نقبل اليوم أن يعلمنا الغربُ كلّ شيء من التكنولوجيا الرقمية إلى النووية، مروراً بالطب والهندسة وصناعة الطائرات والأسلحة وغيرها. أما أن يتفوق علينا في البيان، ويعلمنا الفصاحة فهيهات، نحن أرباب الأقلام وفرسان المنابر وأهل الشعر والأدب والبيان. ولئن فاتنا زمن سحبان بن وائل، فإننا لا نعدم وسيلة كبرنامج "فصاحة" تقول لشباب اليوم من هو سحبان، وتدعوهم إلى سبك الحروف، ورصف الكلمات بلفظ مرن، بعيداً عن اللحن والحشو والتكرار، وتقول لحافظ إبراهيم: لقد أسمعت سامعا ونفخت في جذوة مشتعلة.
avata
avata
محمد ياسين صالح (سورية)
محمد ياسين صالح (سورية)