"زوربا" وحاجتنا الحقيقية للسخرية

"زوربا" وحاجتنا الحقيقية للسخرية

17 سبتمبر 2015
(مواقع التواصل)
+ الخط -

في بيوت لا تأمل أكثر من توفير لقمة العيش أو ربما الادخار لشراء جرة غاز جديدة لأن الشتاء اقترب ولأن جرة واحدة لا تكفي للغاز وللمدفأة في المنزل، في بيوت يرتفع فيها عدد أفراد الأسرة لأن الأم والأب لا يمتلكان وقتاً للتنظيم، أو أنهما لم يفكرا به أصلا، وربما يجدان في كثرة الإنجاب طريقاً للخلاص "مش يمكن هذا الي ينشلنا ويسندنا".


في شوارع الأحياء المعدمة الغارقة بالوحل والطين لأنها لم تعبد كلها بعد، ليس لأن هناك خطة موضوعة للتطوير ورفع مستوى البنية التحتية ستشملها لاحقاً، بل لأن هذه الشوارع لا يراد لها أن تعبد ولا يراد لأهلها أن يفكروا بعيداً عن قوت يومهم، هناك حيث يعرف الناس أخبار بعضهم دون الحاجة للتزاور أو الحديث، لأن شدة الاكتظاظ تجعل من يوميات الجيران مادة مسربة عبر الجدران الملتصقة بعضها ببعض، وفي ثراء معجم الشتائم والألفاظ البذيئة التي يبدع فيها هؤلاء ويطورونها ويضيفون عليها بما يتناسب مع الموقف.

في الأحياء الراقية شديدة الهدوء والتي لا تتسع مساحات منازلها لاصطفاف العربات الفخمة الموجودة في الخارج، تمتلئ شوارعها بفتيات خرجن مع كلابهن المدللة في جولة صباحية لاستنشاق الهواء النقي، منازل لا تخلو من التدفئة المركزية أو"الفايَر بليس" الذي يضفي أجواء مليئة بالرومانسية والحميمية، في مدارس هؤلاء وكمية المرافق المصممة للتسلية واستيعاب نشاطاتهم وهواياتهم وحتى في التصميم الذي صمم عليه حجم الصف الدراسي الواحد الذي رغم مساحته الواسعة لن يضم إلا عدداً بسيطاً من الطلاب، في المقاهي الراقية التي لن تجد فيها من يتكلم العربية ليس لأنهم لا يتقنونها بل لأنه يُعتقد هُنا أن الطلاقة في الإنجليزية ترتبط بحجم الرقي والتفوق الاجتماعي.

في الصورتين السابقتين حيث تتسع الهوة بين المجتمعين وتزداد مساحة التناقض بينهما، تتجلى حاجتنا الحقيقية للسخرية.

السخرية التي تزداد مع كم مرة عدنا مُهشّمين من تجربة حب تأملنا بها كثيراً، مع فداحة الخيبة وقسوة الصدمة ... مع كم مرة شعرنا بالفراغ .. فراغ كبير ومساحات شاسعة احترقت في دواخلنا ولا شيء سوى الرماد فيها، مع كم مرة شعرنا باللاجدوى أو كم مرة شعرنا باللاشيء باللاأمل باللاحب باللاحلم باللا رغبة -الأخيرة قاتلة فليس أشد موتاً من أن يستوي صباحك ومساؤك وتختفي دهشتك لتعيش محايداً وحيداً لا تنتظر خيراً في غدٍ أو من أحد- مع حجم الألم الساكن في كل شيء حولنا ومع أفراحنا الناقصة وخجلنا الدائم من شعورنا بالسعادة أو بالتعبير عنها أمام لون الدم ورائحة الموت.

السخرية تتألق مع نذالة السجان وتردي منظومة التعليم، ومع اكتظاظ مراكز التسوق بالفتيات والمقاهي بالشباب العاطل عن العمل في مجتمعات لا تنتج حتى القمح الذي تصنع منه خبزها.

عليه ومن الطبيعي جداً أن تكون الشعوب العربية الأكثر قدرة على السخرية والأكثر امتلاكاً للموهبة المتطلبة لها لأن السخرية نتاج تراكم خبرات ومكابدة آلام ومعاناة واقع ومن سوانا يبدع في الرقص على الجراح، من أكثر منا اتخاذاً للسخرية فناً وقهوة صباحية ومسائية وفي كل الأوقات، الشعب المصري مثلا الذي كثيراً ما يُنعت بـ (خفة الدم) ماهرٌ جداً في السخرية المنسجمة مع الظروف الصعبة التي يعيشها، وفي الأردن أيضاً يبدع الشعب في السخرية وتأليف النكات حول أي حدث قلّت أهميته أو زادت، من تغيرات الطقس وزيارات المسؤولين وأزيائهم إلى السلوك السياسي للدولة.

وعلى عكس ما يظهر أن مؤلف النكتة شخصٌ فارغ "لا عباله ولا عقلبه" كما يقال بالعامية فهو كذلك بقدر امتلائه بالحزن والخيبات، وفي ذلك يعتبر علم النفس السخريةَ سلاحاً ذاتياً يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخلية ضد الخواء والجنون، فهي أي السخرية رغم هذا الامتلاء الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة إلا أنها تخفي خلفها أنهارا من الدموع.

هذا يؤكد أن السخرية قناعٌ يخفي تحته تناقضاً شديداً مع الحقيقة، حقيقة المشاعر المُعاشة والخوف من المواجهة المباشرة وكأنها الذهاب بالأشياء إلى المواربة بعيداً عن البوح الفج والمباشرة المملة في أن نقول مثلا إننا نتألم أو إننا نحب حتى.

كم مرة قابَلنا أحدهم بسخرية عارمة وضحكات مستفزة وغير مبررة وكم مرة افتعلنا النكات فجأة في سياق لا يحتمل ذلك إخفاءً لعجز اللغة في التعبير عن سعادتنا أو بدلاً من أن نقول مباشرة وبوضوح واختصار كلمة بسيطة مثل "مشتاقون"!

هذا ما يعبر عنه بذكاء بالغ الكاتب الإيرلندي جورج برنارد شو في قوله: "عندما يكون الأمر مثيراً للضحك، فابحث جيداً حتى تصل إلى الحقيقة الكامنة وراءه"، لذلك عندما ينهال كاتب ما على السلطة في بلاده مديحاً وغراماً فابحث جيدا في حقيقة ما كتب، ولذلك عندما تسيطر الفكاهة على حديث أحدهم ابحث جيداً في حالته وإذا تناولك أحدهم بالمزاح أو بدأ على غير عادته بالسخرية من طبعٍ لديك، لا تحزن لأن طبعك يعجبه على عكس ما يحاول نفيه.

من كل ما مضى يمكن القول إن السخرية سلوك إنساني ثري، وهو من ناحية أخرى يعد شكلا من أشكال حرية الرأي و التعبير ما دام لا يهدف إلى النيل من شخصية ما، ولا يحق لأحد أن يمنع حقا تكفله كل مواثيق حقوق الإنسان والحريات الصحافية في العالم، بل وتشتمل عليه دساتير غالب الدول، لا يحق لأحد أن يحرم الآخرين من الضحك.. نعم الضحك من عجزنا، هذا ما تبقى لنا أن نضحك من شدة البكاء.

وربما هذا ما يفسر موجة الغضب التي ظهرت في مواقع التواصل الإجتماعي أخيراً عندما استيقظ روادها يوم الثلاثاء الماضي على خبر اعتقال المدون الساخر عمر زوربا في الأردن والذي يتخطى عدد متابعي صفحته الثلاثمئة ألف متابع، وذلك إثر منشور انتقد فيه زوربا التكاليف المادية لعرس نجل ابن رئيس وزراء سابق، مما دفع بالأخير إلى رفع دعوى قضائية يتهم فيها زوربا بالقدح والتشهير، وتحديد كفالة قدرها خمسين ألف دينار للإفراج عنه، خمسون ألف دينار كان على زوربا أن يدفعها حتى يحصل على حريته التي قُيدت أصلا بسبب سخريته من تكاليف أعراس عِلية القوم، مقارناً ذلك بعجز آخرين في نفس المجتمع في تلك الأحياء المعدمة عن الزواج، لأنهم لا يملكون ثمن سعر الكنافة ربما أو ثمن فستان العروس الذي لن تشتريه حتماً من مراكز التسوق الضخمة في عمان، خمسون ألف دينار هو ثمن انتقاد أعراس أصحاب النفوذ -حتى الغرامات المالية المتعلقة بقضاياهم مرتفعة-، الأمر الذي قوبل بالتهكم والسخرية في دولة ترفع أعلى مراكز صنع القرار فيها شعار "صحافة حريتها حدود السماء"، ويحيل إلى تساؤلات جوهرية حول المأزق الذي تواجهه مواد دساتيرنا العربية وأنها لا تتعدى حبراً على ورق لا يرقى في كثير من الأحيان إلى حيّز التنفيذ، حجم التفاعل الذي صاحب هذه الحادثة في بلد صغير تنتشر فيه الأقوال بسرعة هائلة كالأردن وتدارك سريع لردود الأفعال التي تكللت بإطلاق وسوم (هاشتاغات) تطالب بحرية المدون الساخر، وعلى عادة السياسيين في استغلال الأحداث وقلب مجرى الأمور لصالحهم.

كل ذلك دفع برئيس الوزراء الأسبق أن يعلن في نفس الوسيلة التي تعرض بها عرس ابنه للنقد أنه سيتجه مع العريس صباح الخميس إلى مركز الأمن لسحب الدعوة ضد زوربا، بل وتجاوز ذلك إلى موقف لا يخلو من الكوميديا، وهو أنه سيطلب صداقة عمر زوربا على فيسبوك.

هذه الحادثة الصغيرة وتداعياتها تضعنا في مواجهة حقيقية مع واقع الحريات لدينا، هل نؤمن حقاً بحرية التعبير أم أنها مجرد عبارات وجمل مرصوصة نستدعيها في خطابات أنيقة نلقيها في المحافل الدولية؟

متى سيعبر المواطن عن رأيه بعيداً عن قناعة راسخة في مخيلته أنه وقبل أن ينتهي من نصه ستعتقله أجهزة أمن الدولة؟ وإن كان صحافيا ألا تحذف الرقابة جزءا من نصه الذي من الوارد أيضاً أن تمنع نشره بالكلية؟ متى سنأخذ حريتنا الكاملة في الحصول على الحرية؟

ختاماً، مهما اختلفنا حول شخصية زوربا وجدوى السخرية في صفحته واستحقاقه لشهرته بين المدونين والتي ازدادت بالتأكيد بعد الحادثة الأخيرة، سنتفق أنه ليس مثقفاً بالصورة المتعارف عليها -كما يؤكد هو على صفحته مراراً- وليس صحافيا ينشر في صحيفة يومية، وليس عضواً في اتحاد الكتاب الأردنيين، ولن تجد له منشوراً واحداً مكتوباً بالعربية الفصحى، وهمومه الذاتية وذكريات دراسته وقصصه مع جيرانه وزملائه تغلب على ما يكتب، وقد لا تتجاوز أحلامه عافية أمه، وقد نشك أحياناً في ذكائه في التقاط الأحداث هل جاء صدفة أم أنه كان مدروساً، لأنه في النهاية ليس محمد طمليه ولا جعفر عباس ونظلمه كثيراً إذا فكرنا بمقارنة من هذا النوع ونلبسه ما ينفيه هو عن نفسه.

لكن الأكيد أن زوربا كان قادرًا على إضحاك الكثيرين، كما أبكاهم مرات عديدة وأن احتجاز شاب مثله هو السخرية بحد ذاتها.

(الأردن)

المساهمون