"دنشواي" إلى الأبد

"دنشواي" إلى الأبد

11 أكتوبر 2015
+ الخط -
من بئر الأحزان، تخرج لنا أحداث دنشواي لكي تروي عن مناهج قهر الشعوب، وكيف أنها لم تكن الأولى، ولا الأخيرة، فكم دنشواي توالت على مصر؟
كلما مر زمن، ونسي الناس دنشواي ودم من قتلوا من دون القصاص لهم، تنبت الأرض دنشواي جديدة، تذكّرنا وتسمعنا صرخات من ماتوا ظلماً: صرخات ملأى باللعنات، وبكل دنشواي جديدة تزداد اللعنات، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
أعدم فلاحو دنشواي على يد قضاة مصريين ظلمة، باعوا ضمائرهم لمحتل. دنشواى الأخرى كانت في الثاني عشر من أغسطس/آب سنة 1952، فبعد ثلاثة أسابيع من حركة الجيش ضد الملك فاروق، خرج عمال شركة مصر للغزل والنسيج في كفر الدوار في مظاهرة يهتفون تأييدا للثورة وللواء محمد نجيب، ويطالبون بتطهير الشركة من القيادات الفاسدة وتطبيق العدالة الاجتماعية في الأجور، فأعلن الضباط الأحرار، في بداية حركتهم، أنهم مع الشعب. وكان مُنتظراً أن يساندوا العمال الذين هتفوا لهم، فقرر عمال كفر الدوار الاعتصام لتحقيق مطالبهم، وكانوا في شبرا الخيمة وغيرها على درجة من التحضر، فكتبوا على اللافتات "المصانع أمانة في أعناقنا"، و"أرزاقنا في هذه المصانع فحافظوا عليها".
واجه الضباط المنادون بالقضاء على سيطرة رأس المال ذلك التظاهر السلمي بمحاصرة المصانع بالدبابات والمجنزرات. تصاعدت الأحداث، في صباح اليوم التالي، وتم القبض على 576 عاملا، كان منهم أطفال في سن العاشرة، و بعد يومين، صدر الحكم بالإفراج عن 545 عاملا والحكم على 29 آخرين بالسجن، وكان المطلوب إعدام 29 عاملاً، وتم الاكتفاء بإعدام العاملين مصطفى خميس (18 عاماً) ومحمد البقري (19 عاماً ونصف)، وصدر الحكم بعد خمسة أيام. وفي النادي الرياضي في كفر الدوار، تم جمع 1500 عاملا ليشهدوا النطق بحكم الإعدام لبث الرعب في نفوسهم. وعن هذا المشهد، كتب المؤرخ العمالي، طه سعد عثمان، أن عاملا ممن حضروا إعلان الحكم مجبرين قال إن ما تعرض له العمال الحاضرون من مهانة وإذلال وإرهاب كان أقسى مما يمكن أن يتعرض له أسرى الحرب في جيش مهزوم ومستسلم، ما جعل المنتصر يعاملهم أسوأ من معاملة العبيد.
أحداث كفر الدوار الدامية درس في مناهج قهر الشعوب، فقد كانت النية مبيتة، لإظهار العين الحمراء للشعب، بعد عشرين يوماً فقط من حركة الجيش، يؤكد هذا أن المحاكمة تمت في يومين، وأن أغلبية العمال لم يكن معهم من يدافع عنهم، وإن بعض وكلاء النيابة كان يحقق مع مائة عامل في اليوم، في تهم عقوبتها الإعدام، ويتم النطق بالحكم في بضع ساعات.
يستمر قهر العسكر سنوات عجاف يقتل فيها الآلاف سراً، لا يعلم بهم إلا من خلقهم، وتستمر صرخات اللعنة على الشعب المتلذذ ذلاً، المستمرئ قهراً، كي تنبت الأرض عشرات دنشواي جديدة ومئات الأحكام التي صدرت في دقائق، من دون أن تحرك وازعاً من رهبة داخل قلوب نست الله فأنساهم أنفسهم.
آخر دنشواى، ولعلها الأخيرة، راح ضحيتها عرب شركس شباب بطهر ماء الندى، أعدموا قهرا، كي تزداد الصرخات واللعنات وتستمر، وتستمر معها دنشواي إلى الأبد.
E13FE7E9-9C38-424A-83A1-A2231A2A6448
E13FE7E9-9C38-424A-83A1-A2231A2A6448
سيلين ساري (مصر)
سيلين ساري (مصر)