"خيانة" الصحافي الروسي: هكذا يُرسخ القمع

26 يوليو 2020
+ الخط -

 

تفتح ملابسات اعتقال الصحافي الروسي السابق، إيفان سافرونوف، بتهمة "الخيانة العظمى"، جدلاً واسعاً حول حدود حرية الصحافي في البحث عن مصادر المعلومات ونشرها، وتكشف عن خط دقيق يفصل بين الصحافة، وتحديداً الاستقصائية منها، وأجهزة الاستخبارات العالمية، بما يجمعهما من البحث عن الخبر وجمع المعلومات من مصادر عدة لأهداف مختلفة.

وفي مقابل اتهام الصحافي بالخيانة وعدم الوطنية، مع احتمال دفعه ثمناً باهظاً أقله قضاء سنوات طويلة في السجن، وقد يصل الأمر إلى تصفيته الجسدية من دون معرفة الفاعل، يحصل رجل الاستخبارات على ترقيات وعلاوات لمساهمته في حماية أمن الدولة من "الطابور الخامس".

وفي قضية أثارت جدلاً حول حرية الصحافة في روسيا، اعتقلت "هيئة الأمن الفيدرالي" الروسي سافرونوف، في 7 يوليو/تموز الحالي، أثناء توجهه إلى مقر هيئة الفضاء الروسية "روسكوسموس" حيث يعمل منذ أشهر مستشاراً لرئيسها ديمتري راغوزين. وبعد جلسة سرية، قررت محكمة في موسكو توقيفه حتى 6 سبتمبر/أيلول المقبل على ذمة التحقيق، في قضية "الخيانة العظمى"، بموجب المادة 275 من القانون الجنائي الروسي.

وذكرت "روسكوسموس" أن اعتقال سافرونوف لا علاقة له بعمله فيها، وأنه غير مطلع على أي ملفات سرية هناك. وأكد الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أنه قرأ خبر اعتقال الصحافي السابق في وسائل الإعلام، وأثنى على تقاريره العميقة والجريئة أثناء عمله في صحيفتي "كوميرسانت" و"فيدومستي". ومعلوم أن سافرونوف كان ضمن الفريق الإعلامي الذي يغطي نشاطات الرئيس فلاديمير بوتين وينتقل معه في زياراته الداخلية والخارجية.

رجحت تقارير إخبارية أن الاعتقال سببه الكشف عن صفقة بيع طائرات "سوخوي 35" لمصر

وفي حين رجّحت تقارير أن الاعتقال جاء على خلفية تقرير أعده سافرونوف وكشف فيه عن صفقة لبيع طائرات "سوخوي 35" لمصر في 2019، ما تسبب في تلويح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حينها بفرض عقوبات على مصر في حال إتمام الصفقة، قالت السلطات إن الصحافي متهم بجمع معلومات ونقلها إلى دولة عضو في "حلف شمال الأطلسي" حول صفقات أسلحة وتعاون روسيا العسكري التي تعد سراً من أسرار الدولة، علماً أن صفقة الطيران مع مصر أكدتها لاحقاً وكالة "تاس" الحكومية عن مصدر "عسكري دبلوماسي".

ورداً على اعتقال سافرونوف واتهامه بالخيانة، أكد زملاؤه في صحيفة "كوميرسانت" في بيان أنه "وطني روسي حقيقي كتب عن الجيش والفضاء، ولأنه كان قلقاً بحق على مصيرهما، فإن الاتهام بخيانة الوطن في حالته يعد سخيفاً". ومع تأكيده على مهنية سافرونوف العالية، أشار البيان إلى أن "تجارب السنوات الأخيرة توضح أن أي مواطن يتصل عمله مع الأعمال العامة، سواء كان ناشطاً حقوقياً أو عالماً أو صحافياً، يمكن أن توجه له في أي لحظة اتهامات خطيرة". وأعرب زملاء الصحافي المعتقل عن خشيتهم على مصيره، نظراً لأنه "من الصعب الوصول إلى العدالة الحقيقية والتحقيق الشفاف في قضايا المواطنين المتهمين بخيانة الوطن، ولجنة التحقيقات لا ترغب في إطلاع المحامين على تفاصيل القضية، وجلسات المحاكمة سرية بالكامل". وخلص البيان إلى أن "المجتمع مجبر على الاعتماد فقط على حديث الأجهزة الأمنية التي تُطرح أسئلة كثيرة حول عملها في السنين الأخيرة، والصحافيون الذين يطرحون هذه الأسئلة يتعرضون للضربات".

ويرى زملاء الصحافي المعتقل أن قضيته باتت استثنائية بالنسبة لـ"كوميرسانت"، فسافرونوف البالغ من العمر 30 عاماً حل عملياً مكان والده إيفان سافرونوف الذي عمل طويلاً محرراً للشؤون العسكرية في الصحيفة، وتوفي في ظروف غامضة عام 2007، وخلصت التحقيقات حينها إلى أنه انتحر برمي نفسه من شرفة منزله. وأنهى سافرونوف دراسته في "مدرسة الاقتصاد العليا" في اختصاص الصحافة، وباشر عمله في "كوميرسانت" حتى 2019، لينتقل بعد فترة قصيرة إلى " فيدومستي".

والد سافرونوف عمل محرراً للشؤون العسكرية في "كوميرسانت"، وتوفي في ظروف غامضة عام 2007

وبعد نحو شهر على إقالة سافرونوف، في مايو/أيار عام 2019، واستقالة كامل قسم السياسة تضامناً معه، على خلفية تقرير نشر حول استقالة رئيسة مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي فالنتينا ماتفينكو، كشفت وكالة "تاسّ" الحكومية عن رفع قضية ضد الصحيفة، بسبب تقرير صفقة الطائرات لمصر تقول السلطات إنه يكشف أسراراً حكومية. وأجبرت الصحيفة لاحقاً على شطب التقرير لحل القضية.

وأثارت بعض تقارير سافرونوف ضجة كبيرة، كان أهمها كشف تفاصيل حريق أودى بحياة 14 بحاراً روسياً في يونيو/حزيران الماضي، في بحر بارنتس، حين كانوا على متن غواصة نووية. وفي أكتوبر/تشرين الأول، نقل الصحافي في تقريره عن مصادر عسكرية أن خللاً حصل أثناء تدريبات شارك فيها بوتين كان من المفترض أن تجري فيها عمليات إطلاق صواريخ استراتيجية. ونظراً إلى علاقاته الواسعة وقدرته على الحصول على معلومات في الكرملين والمؤسسة العسكرية، يتهم بعض زملاء سافرونوف السلطات بمحاولة الضغط عليه لمعرفة مصدر معلوماته، في إطار التضييق على عمل الصحافة في روسيا.

في 2 يوليو/تموز الحالي أيضاً، قضت محكمة في سانت بطرسبورغ بحبس الخبير العسكري، فلاديمير نييلوف، سبع سنين بتهمة "خيانة الدولة"، بعد تأكيد المحكمة أنه نقل معلومات لشركة استشارية ألمانية مقابل المال عن عمليات تعليم وتدريب طلاب القوات الخاصة في هيئة الأمن الفيدرالي الروسي. عمل نييلوف في إعداد دراسات لمراكز بحوث استراتيجية حول عمل الشركات العسكرية الروسية الخاصة، ونقلت وسائل الإعلام تقديراته حول عمل مرتزقة "فاغنر" في أوكرانيا وسورية.

يذكر أن "المادة 275" المتعلقة بـ"خيانة الوطن" اعتمدت في قانون العقوبات الروسي في بداية 1997 بحق مواطني روسيا في ثلاث حالات: تسليم أسرار حكومية لدول أجنبية، والجاسوسية، ودعم دولة أجنبية في أعمال موجهة ضد أمن روسيا. وتصل العقوبة إلى نحو 20 عاماً من الحبس المشدد. وذكرت "كوميرسانت" في تقرير أن 118 شخصاً على الأقل اتهموا بمقتضى هذه المادة، وتعرّضوا لعقوبة بالسجن تراوحت بين 3.5 و20 سنة.

قال زملاء سافرونوف إن السلطات تضغط عليه للكشف عن مصادره

ووفقاً لشهادات زملائه عن "وطنيته وحبه لروسيا" واجتهاده في البحث عن مصادر لتقاريره أثبتت صدقيتها، وعدم استغلاله موقعه في "روسكوسموس" للاطلاع على أسرار الدولة، تصلح قضية سافرونوف كمثال على طرق تعامل السلطات في عدد كبير من البلدان مع الصحافيين الذين يخالفونها الرأي، أو يكشفون عن تفاصيل لا تريد السلطات وصولها إلى عامة الشعب، رغم أن الوقائع اللاحقة أثبتت صدقيتها.

وتكشف القضية عن حجم الضغوط الممارسة على الصحافيين لإنهاء دور الصحافة كـ"سلطة رابعة" في كثير من الأنظمة السياسية، وحصر خيارات الصحافيين بين العمل وفق أجندة محددة وضوابط وخطوط حمراء يجب الالتزام بعدم تجاوزها، أو توجيه اتهامات لهم بالخيانة و"إضعاف الروح الوطنية" و"نشر أخبار كاذبة"، و"وهن نفسية الأمة"، و"إضعاف الشعور القومي" كما في تهم النظام السوري الجاهزة.

ورغم انصياع كثير من الصحافيين في الأنظمة القمعية لتوجهات السلطات، فإن صحافيين كثراً ما يزالون ينظرون إلى عملهم كأداة لنشر الحقيقة، وليس مجرد مصدر لكسب العيش، ويغامرون بدفع حياتهم ثمناً لذلك، خاصة في أنظمة يتحكم فيها الأمن والاستخبارات ويسعون إلى تحويلها إلى نمط جمهورية "أوقيانيا" التي استشرف فيها الكاتب جورج أورويل في روايته "1984" عن أوضاع الحريات في البلدان القمعية حيث تنشط شرطة الفكر، ولا مكان إلا لوزارة "الحقيقة" التي تنطلق من أن "الحرب سلام، والحرية عبودية، والجهل قوة".

المساهمون