"تينيت": حين يغرق مخرج كبير في أفكاره

"تينيت": حين يغرق مخرج كبير في أفكاره

16 سبتمبر 2020
كريستوفر نولان أثناء تصوير مشهدٍ من "تينيت" في 17 سبتمبر 2019 (كونال باتيل/Getty)
+ الخط -

 

يُفيد دائماً إلقاء نظرة على كيف بدأ كلّ شيء، لفهم كيف انتهى الأمر.

عام 1997، كان المخرج الإنكليزي كريستوفر نولان في منتصف عشرينياته. شابٌ شغوفٌ بالسينما، يريد صُنع أفلامٍ. جمع أصدقاء وأقارب، وبدأ تصوير فيلمٍ، أسماه Following، عن نصّ كتبه بنفسه. استمرّ التصوير عاماً واحداً تقريباً، لاضطراره إلى العمل أيام الإجازات فقط. بلغت كلفة إنتاج الفيلم 6 آلاف دولار أميركي لا غير. النتيجة مُدهشة: عملٌ جميلٌ وذكي، لفت أنظار الجميع إليه، فانتقل سريعاً إلى هوليوود لإخراج فيلمه الثاني، Memento، عام 2000، بلعبة سردية فائقة التجديد (سرد أحداث الفيلم عكسياً، أي من نهاية الأحداث إلى بدايتها)، مكتوبة في سيناريو ذكيّ وحاذق وعاطفي جداً.

بعد ذلك، أصبح كريستوفر نولان أنجح مخرجي هوليوود في العقدين الأخيرين، من دون منازع. صار المخرج النجم، ذي البصمة التي لا يُخطئها أحد. في أفلامه كلّها، باستثناء ثلاثية "الرجل الوطواط (باتمان)"، كانت الألاعيب السردية ومساءلة الوقت والزمن أساسية. وصل إلى ذروة اشتغاله في Inception، عام 2010. أثار جدلاً واختلاف آراء جيّدا بفضل Interstellar، عام 2014. ثم بدأ بعده مرحلة الغرق في نفسه، وفي هوسه بالألاعيب والتقنيات والحقائق العلمية. في جديده Tenet، غَرق في هذا الصخب، إلى درجة افتقاد السينما نفسها في الفيلم.

السينما أشياء كثيرة، تختلف عند كلّ متلقّ. لكنْ، هناك مفاهيم عامة، ونسبية أيضاً، يُتّفق عليها، كفهم ما يحدث على الشاشة، أو التعاطف مع الشخصيات والشعور بالخَطر عليها، أو إدراك مشهد حركة، ومَن يحارب مَن. هذا كلّه يوصل إلى الـ"استمتاع". Tenet افتقد هذا، إذْ بدا أقرب إلى صراع وتحدٍّ مع المُشاهد. أحجيات تحدث في الحوار والصورة والأحداث كلّ دقيقة، من دون فهم أو تعاطف أو إدراك كامل لما يحدث.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

القصة تبدو بسيطة في قسمٍ منها. بساطة يعتمد عليها كريستوفر نولان في غالبية أفلامه، فيكون القالب الواسع فيلم سرقة (Inception) أو رحلة فضاء (Interstellar)، بينما يحدث التغيير والتلاعب في تفاصيل وعوالم ذلك، كأنْ تكون السرقة في الأحلام، وكأنْ تصل رحلة الفضاء إلى ثقب أسود يُغيّر معنى الزمن.

في Tenet، القالب خليطٌ من شيئين: الأول، أفلام الجاسوسية، وتحديداً جيمس بوند، حيث البطل (اسمه في الفيلم The Protagonist) يحاول إنقاذ البشرية من شريرٍ روسي يهدف إلى إنهاء العالم. الثاني، أقرب إلى أفلام الخيال العلمي والسفر عبر الزمن، إذْ يتوجّب على البطل الرجوع بالزمن لتحقيق الإنقاذ.

في النصف الأول من الأحداث، يؤسّس Tenet القصّة البسيطة. تبدو الأمور واضحة. صحيح أنّها غير جديدة، وأنّ تجريد نولان المتعمَّد للمشاعر ولأي تفاصيل المرتبطة بالبطل غير مفهومة بالنسبة إلى مخرجٍ، كانت العاطفة والتأثّر جزءاً أساسياً ودائماً في أفلامه؛ وصحيحٌ أيضاً أنّ المونتاج السريع جداً واللقطات الكثيرة جداً في مشهدٍ واحد، والأداء الـ"روبوتيّ" المقصود لبعض الممثلين (جون ديفيد واشنطن، مؤدّي الشخصية الرئيسية)، جعلت إيقاع الفيلم غير متزن وغير مريح؛ لكنّ المتفرّج ظلّ قادراً على التفاعل مع أحداثٍ وصراعات.

في النصف الثاني، تصبح الأمور مستحيلة الإدراك. نظرة بسيطة على "فيديوهات" الشرح وتعليقات المتفرّجين عبر مواقع مختلفة، تؤكّد أنّ 95 بالمئة على الأقل منّهم "لم يفهموا شيئاً". وهذا ليس بالمعنى الإيجابي المقصود لأفلامٍ تجعل المتفرّج يتفاعل مع التجربة الشعورية، ويستوعب كلّ شيء ببطء، بل على مستوى بسيط جداً لمَشاهد الحركة وسير الأحداث، إذْ لا تُفهم القواعد المتحكّمة للحركة في الزمن، أو الأخطار التي تواجه الشخصيات خلال العملية، أو حتّى مهمّتها الرئيسية الكبرى مع الفريقين الأزرق والأحمر. كلّ شيء يحدث سريعاً وصاخباً وجنونياً على الشاشة، وفي الحوار.

كريستوفر نولان ـ المتّهم سابقاً بتأسيس عوالم أفلامه وقوانينها بشكل مستفيض، ليتفاعل المُشاهد معها، كمشهد الحلم الطويل بين ليوناردو دي كابريو وإلن بايدج في Inception، وبين ماثيو ماكونهي ومايكل كين في Interstellar ـ يقرّر في Tenet تجريد المتفرّج من أيّ مشهد شارحٍ بشكل حقيقي. مثلاً: المشهد الأول للبطل مع الطبيبة، التي تتحدّث عن الرصاصة العائدة إلى الوراء كأنّه يلتقطها، والتي تكتفي في نهايته بالقول: "لا تحاول الفهم. حاول فقط أنْ تشعر بها". تبدو الجملة كأنّها موجّهة من نولان إلى المُشاهدين، كما تبدو غريبة جداً في فيلمٍ يُحيّد المشاعر تماماً، إلى درجة جعل البطل بلا اسم.

كيف يشعر المُشاهد بالخطر، إذا لم يفهمه؟ لماذا يُخبر الفيلم أنّ الفهم ليس مهمّاً، ثم يُغرِق مُشاهدَه في أحجيات، كلّ لحظة؟! حتى تقنياً، ودهشة تنفيذ مَشاهد الحركة التي لم يسبق مثيل لها، يبدو الفيلم أقلّ كثيراً من دهشة Inception وأحلامه قبل 10 أعوام.

Tenet الفيلم الـ11 في السيرة المهنية لكريستوفر نولان. بلغت تكلفته 200 مليون دولار أميركي، صُرفت غالبيتها على تنفيذ مَشاهد الحركة بشكل حقيقي، من دون مؤثّرات خاصة. مع ذلك، يبقى فيلمه الأول Following، ذو الـ6 آلاف دولار، الذي صنعه كمخرج هاوٍ، أفضل وأكثر إخلاصاً للسينما بكثير. في السيرة نفسها، يبدو Tenet أضعف أفلام نولان على الإطلاق.

المساهمون