"التطبيل" في موريتانيا: اللغة الرسمية للاستبداد

"التطبيل" في موريتانيا: اللغة الرسمية للاستبداد

07 فبراير 2017
(حملة انتخابية/ موريتانيا، تصوير: جورج جوبات)
+ الخط -
إلى حدّ اللحظة لم يتمّ التفكير في "التطبيل"، كممارسةٍ سياسيّة واجتماعيّة، تفكيرًا يُضفي عليه عنصر الحساسيّة التي تحتاج إلى بحثٍ معرفيّ مُعمّق يقاربه في كل تجليّاته. ويعود ذلك بالمقام الأوّل إلى صعوبة بحث مثل هذه الأمور بحثًا علميًا، لأنّ في ذلك تهديدٌ للقنوات السلطوية التي تستفيدُ من ممارستها. ومن شأن ذلك التفكير البحثيّ، إن حصلَ، أن يُفكّك الأساس الذي تعتمد عليه ممارسة التطبيل تفكيكًا يُحطّم كل إمكانيّة تأثيرٍ لها في المستقبل.

إذن، موضوعُ "التطبيل" هو من المواضيع التي لا تستحسنُ السلطة الخوضَ فيها، إلاّ في حالةٍ واحدة: عندما يتمّ عرضه كمؤشرٍ قطعيّ على شرعيّتها الشعبيّة بعد أن حقّقت للشعبِ الحرّية والعدالة والمساواة. فكل شيءٍ قابل للاستغلال في سبيل إظهار أنّ السلطة الحاكمة هي الأفضل الذي لا بديل له.

وتبدو هناك مفارقة ملفتة، عند التأمّل في هذه الحالة، وهي "التطبيل" أيضًا من خلال التطبيل نفسه. أي تدويره مرةً أخرى للتأكيد على مصداقيّته: "انظروا، فما دام هذا هو الحال إذن، فإننا حقًا في ظلّ رئيسٍ فاضل". ولا تنتهي المسألة هنا، فقد نجدُ أيضًا عكسَ ذلك تمامًا. فممارسة التطبيل الآنَ أصبحت تحدث حتّى من خلال المواضيع المضادة كليًا له: مثلاً فعندما يبلغ شابٌ درجة من التذمّر لا تطاق، ويخرج ليقول في منبرٍ عموميّ: إننا نعيشُ تحتَ هيمنة سلطةٍ مستبدّة فاسدة لا تُحتمل إطلاقًا، فإنَّ هذه الحالة العفويّة، تصلحُ عند "المُطبلين" الأفذاذ لثبتوا من خلالها، كحالة متجسدة: "إنّنا نعيشُ حقًا في ظلّ سلطةٍ ديمقراطية تسمحُ بالتعبير عن الرأي، وذلك بفضل التوجيهات الرشيدة والنيّرة لفخامة الرئيس".

إيديولوجيا الاختزال
يبدو أنّ أوّل شيء تقوم عليه ممارسة "التطبيل" في موريتانيا، هو الاختزال الشخصيّ. فهي مع أنها تتوجّه أساسًا نحو الرئيس كشخص حاكم، فإنّ قاموسها يوحّد بينه والدولة، وذلك على الرغم من اختلاف الوضعيّة القانونية والمؤسسيّة بينهما. فالرئيسُ هو الجامع الكليّ لهذه التسميات والمؤسسات، ما يعني عندها أنه عظيم الشأن.

يحدث ذلك الاختزال غالبًا على مستوى اللاوعي، وعلى مستوى الوعي أحيانًا أخرى. ففي المستوى الأوّل، حيث غمام اللاوعي، تتدخّل الإيديولوجيا الرسميّة بشكلٍ كبير لتوجّه وتُسيّر عبر آلياتٍ خفيّة. هنا؛ يُصبح الاختزال ضرورة للتأكيد على تصوّرٍ سلطوي ينبغي بثّه في صفوف السّكان، ويتمثّل في التوحّد المطلق في التمثيل. أما في المستوى الثاني، حيث سطوح الوعي، فتتمّ ممارسة ذلك الاختزال من أجل تحصيل منافع مباشرة لصالح مُمارس "التطبيل".

فأن يتمّ اختزال الدولة في شخص الرئيس، فإنّ في هذا مركزةً كبرى تُضفي الشرعية على الاستبداد، وتغضُّ الطرف عن ممارساته الفاسدة على أكثر من مستوى. إضافة إلى ذلك ففي ذلك الاختزال تضليلٌ واضح يقوم على الاعتقاد، بأنّ الشخص الذي لا يُطبّل للرئيس هو شخصٌ يعادي الدولة الموريتانيّة ومصالحها الوطنية، ما يعني بالتالي أنّ معارضته غير شرعيّةٍ وينبغي محاربتها بشتّى الطرق. ومن المعروف مقدار التبجيل العظيم الذي يكنّه المواطنون لدولتهم، وهو تبجيلٌ تفرّغه السلطة من قيمته لتستغله في مصالحها الخاصّة.


الدولة المستوردة
في مقالةٍ معمّقة كُتبت في عام 1992، يتحدّث عالم الاجتماع عبد الودود ولد الشيخ عن نمطٍ جديد من الاستبداد بدأ في البروز في موريتانيا، متغذيًا على ما أسماه "مطلب الطغيان". فـ"الاستبداد الجنوبي، في موريتانيا، المنبثق من تبيئة حديثة العهد لنظامٍ بيروقراطيّ مُستوحى من المؤسسات الفرنسيّة داخل بنى قبلية يبدو أنها حافظت على كامل قوّتها "يستدعي، كما يرى عبد الودود ولد الشيخ، قيام ممارسةٍ تترجم مطلب الطغيان بشكل سياسيّ حديث".

التداخل المشوّه بين الآلية البيروقراطية الحديثة والبنى القبلية التقليدية ولّد في نظر ولد الشيخ ما أسماه بـ "الاستبداد الجنوبي"، الذي يشكل فيه الطاغية العسكريّ موقع الصدارة الأوّل. لكن الاستبداد الجنوبيّ، وخلافًا للاستبداد الشرقيّ، الذي استوحاه منه ولد الشيخ في مقاربةٍ حذرة، لا يستمدُّ قوته من التقاليد الأسطوريّة والرمزيّة، بقدر ما يستمدّها تحديدًا من مطالبة نابعةٍ من المجتمع المدني نفسه الذي يعاني نقصًا وظيفيًا شديدًا، أي أنّه يسعى لجعل شرعيته قائمة على المنظومة القانونيّة الحديثة التي تُعتبر غطاءً تختفي تحته الكثير من تحالفات القرابة الموّظفة سياسيًا واقتصاديًا.

اليوم وبعد أكثر من عشرين سنةٍ على ذلك الكلام، يتحدّث عبد الودود ولد الشيخ قائلاً: "بخصوص ظاهرة "التطبيل/ التصفاق"، وإن لم تكن خاصّة بالمجتمع الموريتاني، ربّما كان البعض منها راجعًا إلى النوع المحليّ من الانتهازيّة التقليدية، المشرّعة من خلال المقولة المنتشرة: "اليد التي لا تستطيع قطعها قبّلها". خاصّة أنّ "الدولة المستوردة" التي لم تعد لها جذور محليّة، ليست دولة أحد، والإذعان لها غير مضرّ بالنفور التقليدي "الفوضوي" القبليّ في الخضوع للغير من بني عمومة أو قبيلةٍ منافسة، أو ما يشبه ذلك من دوافع الانقسام التقليدي. لهذا فالتصفيق له عمل "خارجي"، مؤقت، زائل، لا يفيد التزامًا، وما من صدىً له في عمق روح المصفق".

يبدو "التطبيل" في السياق الموريتانيّ الحديث مرتبطًا بعددٍ من الممارسات صاحبت التحوّل في طبيعة السلطة السياسة وعلاقتها بالبنيات الاجتماعيّة التقليديّة التي كانت مرتكزًا محوريًا في تشكيل المجال السياسيّ القديم. فالتحوّل من مجال جغرافيّ تنعدم فيه أيّ سلطةٍ سياسيّة وقانونيّة مركزيّة، إلى مجالٍ برزت فيه فجأةً دولة وطنيّة موجّهة، يستدعي تساؤلًا مُلحًا في هذا الصدد، خاصّة إذا علمنا أن سكان الدولة هؤلاء اليوم، كانوا في الأمس القريب يعيشون في مجالٍ بدوي صرف تحكمه حالة قبليّة متصارعة لا تعرفُ الخضوع للسلطة، حسب أغلب التحليلات الإنتربولوجية.


"التطبيل" كإنتاج ظرفيّ
يكثر التطبيل في مواسمٍ ومراحل معيّنة، كمواسم الحملات الانتخابية والزيارات الرئاسية الرسميّة والاجتماعات القبليّة تحديدًا. وهذا ما يؤكد أنّه صناعة موجهة تلقى الرواج في فترةٍ والكساد في فترةٍ أخرى. ولا تبدو مواقع الإنتاج والاستهلاك واضحة في هذه الحالة، إذ إنّها تترواح في أحيانٍ كثيرةٍ بين السلطة والشعب وما بينهما من قنوات الربط.

ففي مواسم الانتخابات والزيارات الرسميّة خصيصًا يتمّ إنتاجُ "التطبيل" بشكلٍ كبيرٍ، نظرًا لما سيترتب عليه من مصالح وعلاقات وتوجيهات ومواقف شديدة الأهميّة في صناعة المشهد السياسيّ والاجتماعيّ العام. وتعود حالة وفرة "التطبيل" هذه إلى طبيعة الحشد المالي والقبليّ المُصاحب لهذه المناسبات، حيث إنّ العطايا المالية والاعتبارات القبليّة المتنافسة من أجل نيل رضا الرئيس، تدفعانِ إلى بروز "تطبيلٍ" حارّ يمتلك صفة ظرفه الاستثنائيّ.

المسألة الأخرى التي تؤكدُ أنّ "التطبيل" في موريتانيا إنتاجٌ ظرفي، هي كون غالب ممارساته مؤقتّة بحسب فترة الأنظمة السياسة الحاكمة. فممارسة "التطبيل" في هذه الحالة هي ممارسة متجدّدة ومؤقتة حسب مرحلة كل رئيسٍ حاكم. فالمطبلون "يطبّلون" اليوم للرئيس الحاكم، وفي الغد "يطبّلون" أيضًا للرئيس الجديد. فـ"التطبيلُ" عندهم بمثابة ممارسةٍ دؤوبة تشكّل نمطًا من جلب المصلحة والحماية، ينبغي أن تمارس دائمًا من أجل أيّ رئيسٍ، حتّى وإن كان لا يستحقّها، كما هو الحال الغالب. وممّا يجعلُ المسألة تبدو غريبة، هو هجوم أولئك المطبّلين على الرؤساء القدماء مقارنة لهم بالرئيس الجديد الساعين لنيل رضاه، وذلك على الرغم من أنّهم في الأمس القريب كانوا "يطبّلون" لأولئك الرؤساء القدماء بحماس شديد.


العهد الطائعيّ
ظهر التطبيلُ أساسًا في فترة حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع (1984- 2004) الذي وصلَ لسدة الحكم ورحل عنها بانقلابٍ عسكريّ. ففي الفترة الطائعيّة تلك كان ظهور "التطبيل" ملفتًا وضخمًا بشكلٍ غير معقول إطلاقًا، وكانت السلطة تقّدم الرعاية المجانيّة والسخيّة له، فاتحة أمامه منابرها، ومتيحة وسائل وموارد الدولة في سبيل إشاعته بين صفوق الشعب. وفي ظل تلك الحالة أصبح سلوكًا رسميًا وشعبيًا يمارس بشكلٍ يوميّ في شتّى المجالات والأمكنة، سعيًا إلى إصباغ الشرعيّة على النظام السياسيّ الحاكم، في مواجهة أزمات قمع الحرّيات والفساد المتفاقمة بازديادٍ شديد.

كان "التطبيل" في زمن ولد الطايع يلعبُ دورًا كبيرًا في تنظيم العلاقة بين السلطة العسكريّة والقبيلة، بحيث إنه شكّل المعيار الأساسيّ الذي يتمُ عبره إجراء التوظيفات الإدارية من قبل السلطة لأبناء القبيلة، في مقابل ضمان تأييد أبناء القبيلة للنظام السياسي الحاكم، خاصّة في أوقات الانتخابات.

وفي سبيل تأدية ذلك الدور، الذي كان الهاجس الرئيس للمسألة، قام الشعراء والفقهاء والكتاب بتقديم منتوجاتهم التي تتضمّن "تطبيلًا" صريحًا ينظرُ للرئيس بوصفه مُخلصًا أسطوريًا سيجعل الوطن يتبوّأ مكانة عليا بعد عهودٍ من الذلّ. ويُساعد استنطاق تلك المنتوجات في إبراز المعاني الخفيّة المُتضمّنة. وهي معان لا تخرج غالبًا عن إطار الموقف القبليّ وسعيه من أجل أخذ مكانة في الساحة السياسية الجديدة التي تغيّرت معها موازين كثيرة.

قوّة "التطبيل" في زمن ولد الطايع جعلت الذاكرة الشعبيّة تحفظ بعض غرائبه، التي أصبحت تستخدمها ساخرةً من كل ممارسة تطبيليّة جديدة؛ وهي غرائب تحتوي على مخالفات للمعهود الدينيّ، بل وتصل درجة استخدامه في سبيل توصيل نفسها، من ذلك مثلا حالتين مشهورتين: تقولُ أوّلهما أن أحدهم أهدى الرئيس الطايع مصحفًا، ورجَا منه تقبّله كـ"هديّة متواضعة". أما الثانيّة فتقول إنه ذات زيارة لولد الطايع لإحدى المدن الداخليّة مرّ بمدرسة كتاتيب قرآنيّة، وسأل أحد تلامذتها: "في أيّ حزبٍ أنت يا بنيّ؟" فأجاب شيخ المدرسة: "في الحزب الجمهوري الرسميّ مثلنا جميعًا".

من شأن مثل هذه الأمور البسيطة أن تُشير إلى أهميّة التطبيل عند السلطة المحافظة، حتّى وإن تضمّنَت سخرية من بعض المقدسّات الدينيّة التي تعتبرُ خطوطًا حمراء في المجتمع، لكن يبدو أنه لا مشكلة في شيءٍ كهذا ما دام في سبيل "التطبيل" للرئيس الذي تطبعه في مخيال الوعي الرسمي والشعبيّ هالة قداسة لا تقارن بغيرها.

أمّا في الوقت الراهن، وعلى الرغم من حفاظه على أساليبه القديمة، فقد ارتبط "التطبيل" أساسًا بالأوضاع العامّة المتدهورة، لدرجة أنه أخذ طابعًا مأساويًا يتغذّى على المبالغة المستمرّة. ويعتمد هذا الولاء على نوعٍ من المحنة التي يظهر ممارسوها وهم على استعدادٍ للتضحيّة من أجل أن "يحكم الرئيس للأبد". لهذا نراهم يهدّدون بالانتحار والقفز من أعلى بنايةٍ في البلاد "إن لم يترشّح لمأموريّةٍ ثالثة". ويبدو ذلك الطابع المأساويّ في "التطبيل" قائمًا مع حالات البكاء الهستيريّة التي ظهرت مؤخرًا في المنابر العامّة، وتمّت مُكافأة أصحابها بتعيينهم في مهامٍ وزارية حكومية.

قضية "التطبيل" في موريتانيا تأكيدٌ على خللٍ يطبع تصوّر الدولة عند أجهزتها الرسميّة ومواطنيها معًا. حيث إنّ الأجهزة تنظر للدولة باعتبارها ملكيّة خاصة ينبغي استغلالها في سبيل مصالح الحكام فقط، في حين أنّ المواطنين، ونظرًا لارتباطهم بهويّة جماعية قبليّة، غير قادرين على النظر للدولة، ممثلة في السلطة، إلّا بوصفها سيدًا يستحقّ منهم "التطبيل" الدائم، بغض النظر عن أي اعتبارات مغيّبة أصلًا كالكرامة والاستقلالية.

المساهمون