"التسوية الإقليمية" في الذهنية الإسرائيلية

"التسوية الإقليمية" في الذهنية الإسرائيلية

05 مارس 2017
+ الخط -
إن كان ثمة من هو معني بالتعرّف على مثال آخر من أمثلة الاستخفاف الصهيوني بوعي القائمين على أنظمة الحكم في الدول التي تمثل معسكر "الاعتدال العربي"، المراهنين على عوائد التحالف (أو الشراكة) مع تل أبيب، فما عليه إلا أن يحاول الإحاطة بماهية مفهوم "التسوية الإقليمية" التي يروّجها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزراؤه، آلية لحل الصراع مع الشعب الفلسطيني. فعلى الرغم من أن هناك صيغا عديدة لـ "التسوية الإقليمية" التي تحاول نخب اليمين الحاكم في تل أبيب تسويقها، إلا أن القاسم المشترك بينها يتمثل في أنها ترمي إلى إنهاء الصراع، وفي الوقت نفسه، اقتطاع الضفة الغربية والقدس وضمها لإسرائيل بمباركة عربية، وأن تدفع دول عربية ثمن استمرار الاحتلال.

وقبل مناقشة بعض صيغ "التسوية الإقليمية" التي يتم ترويجها، يجب استخلاص العبر مما تم في لقاء العقبة السري في مارس/ آذار 2016، الذي كشفت عنه صحيفة هآرتس الإسرائيلية، قبل أيام، وجمع إلى جانب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية الأميركي جون كيري ونتنياهو. وأقر بانعقاده كل من نتنياهو والرئاسة المصرية، عرض فيه كيري على نتنياهو، بموافقة العرب، صيغة مغرية لـ "التسوية الإقليمية"، تقوم على ثلاث مركبات أساسية: تبني "حل الدولتين"، واعتراف عربي فلسطيني بيهودية إسرائيل وحق الكيان الصهيوني في الحصول على ترتيباتٍ أمنية. فمن الواضح أن الاعتراف العربي بيهودية إسرائيل يعني تنازلاً مسبقا عن حق العودة للاجئين، والموافقة على منحها ترتيباتٍ أمنيةً، تمثل تسليما ببقاء مناطق واسعة من الضفة الغربية تحت السيطرة الأمنية. وقد تمثلت المفارقة في أنه على الرغم من أن العرض السخي الذي قدمه العرب، من خلال
كيري، ينسف أسس مبادرة السلام العربية، ويمثل تصفية لمركبات القضية الفلسطينية، إلا أن نتنياهو رفضه، لأنه لم يضمن احتكار الكيان الصهيوني السيطرة المطلقة على الضفة الغربية!
ومع أن نتنياهو الذي تعاظم مستوى ترويجه التسوية الإقليمية، منذ لقاء العقبة، لم يفصح عن معاييره للتسوية الإقليمية المقبولة إسرائيليا، إلا أنه ترك لوزرائه، والمقرّبين منه، الإفصاح عن طابع هذه التسوية، فإحدى هذه الصيغ قدمتها، أخيرا، مجموعة من قيادات حزب الليكود الحاكم ونوابه، وتتزعمها نائبة نتنياهو، تسيفي حوطبيلي، وتقوم على حل الصراع عبر تدشين "اتحاد كونفدرالي" بين الأردن وكيان فلسطيني في الضفة الغربية. وعند التدقيق في تفاصيل المقترح، يتبين بسرعة أنه يهدف، بالأساس، إلى ضمان بقاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة، وتحميل الأردن كلفته. فحسب المقترح، تواصل إسرائيل السيطرة الأمنية على كل مناطق الضفة الغربية، في حين يتم منح الأردن "الصلاحيات المدنية" في منطقة "أ" التي تضم المدن الفلسطينية الكبرى، وأجزاء من منطقة "ب" التي تضم بعض البلدات والقرى، في حين تنفرد إسرائيل بمواصلة السيطرة الأمنية والمدنية على المنطقة "ج" التي تضم أكثر من 60% من مساحة الضفة وبقية مساحة منطقة "ب". وحسب هذه الصيغة التي يفترض أن تفضي إلى إنهاء الصراع، سينتقل تحمل أعباء إدارة شؤون حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية من السلطة الفلسطينية إلى الأردن، في حين تواصل إسرائيل الهيمنة الفعلية على الأرض. ولا يقف الاستخفاف عند هذا الحد، بل تقترح المبادرة أن يصوت الفلسطينيون في الضفة الغربية للبرلمان الأردني، حتى لا يتم اتهام إسرائيل بإدارة نظام فصل عنصري في الضفة الغربية، لا يتمتع الفلسطينيون فيه بحقوق سياسية. إلى جانب هذه الصيغة، هناك صيغ أكثر "جرأة"، أشار إليها أيوب قرا الوزير المكلف بالعلاقات الإقليمية في حكومة نتنياهو، والتي تقوم على إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة وشمال سيناء. وبغض النظر عما إذا كانت هذه الصيغة من بنات أفكار السيسي، كما يزعم قرا، أو مجرد بالون اختبار، قذفه بناءً على توجيهاتٍ من نتنياهو، فإنها تهدف إلى إضفاء شرعية عربية على انفراد إسرائيل بالهيمنة على الضفة الغربية.
لا خلاف على أن الأردن لا يمكن بأي حال أن يتبنى الصيغة التي تروجها حوطبيلي ورفاقها،
ولا يمكن لأحد أن يتصور أن المصريين يمكن أن يسمحوا بتمرير الصيغة التي يسوّقها قرا. وإذا كانت الأمور على هذا النحو، لماذا مع ذلك كله، تصر نخب الحكم في تل أبيب على ترويج هذا النمط من "التسويات الإقليمية"؟
ما يشجع اليمين الصهيوني الحاكم على الدفع بصيغ "الحل" هذه، على الرغم مما تنطوي عليه من استخفافٍ فج بنظم الحكم العربية، حقيقة أن هذه النخب تنطلق من افتراضٍ مفاده بأن هذه النظم ترى في التحالف مع إسرائيل ضمانةً لاستقرارها في ظل التحولات التي جلبها الربيع العربي والتهديد الإيراني، علاوة على أن هناك قناعة متجذرة في تل أبيب بأن الحكام العرب المعنيين تماما بتطوير علاقاتهم مع الولايات المتحدة يعتقدون بأن أفضل السبل لتحقيق ذلك هو باسترضاء الرئيس دونالد ترامب، عبر إبداء استعداد للتعاون مع إسرائيل، تساوقا مع رغبات ساكن البيت الأبيض الجديد.
بغض النظر عن طابع المسوّغات التي تحتكم إليها أنظمة الحكم العربية التي تحافظ على علاقات تعاونٍ صاخبة مع إسرائيل، تحديدا في السر، فإن على هذه الأنظمة أن تدرك أن هذا السلوك يغري فقط نخب الحكم الصهيونية التي استبدّ بها جنون التطرّف والرعونة، لتعرية هذه الأنظمة وإحراجها أمام الرأي العام في العالم العربي، ناهيك على أن هذا التعاطي يضفي صدقيةً على مواقف خصوم الأنظمة في الداخل وأعدائها في الإقليم.