"أدبيات" ليس مجرّد مقهى تركي

"أدبيات" ليس مجرّد مقهى تركي

27 مايو 2014
قهوة تركية (Getty)
+ الخط -

لم تلازمني العبارات التي حاول أحد أصدقائي أن يحفّظني إياها بالتركية، كي أقولها لسائق التاكسي في طريقي إلى "أدبيات". إذ بعدما قلت له: "نيل أوتيل"،، نظر إليّ عبر المرآة التي أمامه. فحاولت أن أشرح له بإنكليزيتي الضعيفة أنّني لست ذاهبة إلى الفندق، بل إلى مكان قربه، فسألني: أدبيات؟

توقف السائق أمام المحل قائلاً، وهو يشير بيده: أدبيات.

في ذلك الفناء الواسع، الشبيه ببيت عربي قديم، دخلتُ واقتحمتني الموسيقى الصاخبة.

في طريقتنا للتحايل على المكان لحفظه وأرشفته في الذاكرة، كان الأصدقاء السوريون القادمون من دمشق يربطون المكان ببيوت دمشق، بينما أنا المحتفظة بحلب، أحاول الربط بين هذه الدار الكبيرة، وبيوت حلب القديمة.

لكن لا. "أدبيات" لا يشبه مقاهي حلب، فأوتوش، وحده ندرة لا تتوافر في حلب، أو دمشق. أوتوش، ملك المكان، الذي يدغدغ أحلامنا الثقافية، فيفكّر زوربا، صديقنا السوري المقيم في عنتاب، في البحث عن مكان موازٍ لأدبيات، نقيم فيه نشاطاتنا الثقافية: ندوات أدبية، عروض سينما، مسرح، موسيقى... زوربا الذي كان يحبّ النوم في المقاهي كما يخبرني، ألهمه "أدبيات" ليوسّع شغفه بالمقهى، لندخل في حلم المقهى الثقافي، الاستعراضي، أي المشهدي، حيث لا يقتصر المقهى على النشاط الذهني، بل البصري كذلك.

من أين يأتي هذا الإلهام، وتحريض المخيلة؟ أهو المكان أم أوتوش؟

"أدبيات" من النادر أن تعثر على مقهى مماثل له، في تركيا أو غيرها من البلاد. هنا: لا نحتسي المشروبات فقط كزبائن تقليديين، ثمة من يفعل هذا، وثمة من يتحوّل إلى "مشهد" داخل الفضاء المسرحي أو الثقافي، حيث فتيات ينهضن للرقص، يعقدن الدبكة ويتجولن بين الطاولات، هنّ أنفسهن وأصدقاؤهن زبائن تلك الطاولات. فتاة تذهب إلى منصة الغناء، وتطلب أغنية ترقص عليها، ثم تأتي أخرى، لتأخذ مكان المغني، زبونة تنهض من بين الطاولات، تغني بالكردية القريبة من التركية والمتداخلة معها أحياناً، فيفهم بعض الزبائن تلك اللغة، الأتراك الكرد، والسوريون الأكراد.

في "أدبيات"، أوتوش، ليس مجرد نادل، بل صديق. يجلس إلى طاولاتنا، يحاورنا، يتناقش معنا. صديقنا التشكيلي يرسم بورتريه لصبية جالسة إلى طاولة بعيدة، قرب الصحن الأبيض الذي ضحّى به، فلم يتناول الطعام، متفرّغاً لشهية الرسم. يرسل اللوحة ـ الصحن مع أوتوش إلى الصبية، فتنهض من طاولتها وتأتي إلى طاولتنا، حيث خضر، الذي رسمها، لتعانقه وتشكره، وتسرق الصحن ـ اللوحة وتحتفظ بالبورتريه في حقيبة يدها.

هنا أوتوش، يشرح لنا أفكاره، نتناقش في الانتماءات الإنسانية المفتوحة الفضاءات... يقف أوتوش، بين فاصل وآخر، وهو يقدّم الأطباق والمشروبات، ليأخذ الميكروفون ويغنّي، وبين فواصل غناء المطرب الرسمي للمحل، يلقي أوتوش، قصائد شعرية، منها ما يرتجلها، ومنها لشعراء أتراك معروفين.

الصبية الكردية التركية، على الرغم من الضجيج، تقرّب كرسيها من طاولتنا، وتشرح لنا، مترجمة من التركية إلى الكردية، ويترجم، خضر تحديدا، من الكردية إلى العربية.

هل هذا فضاء مفتوح لحوار الثقافات؟

يتجول أوتوش، بين الطاولات، متعدد الأداء، كأننا أمام نوعين ممتزجين من المسرح، مسرح "وان مان شو" يتحوّل بعد اندماج الحضور مع العرض إلى "مسرح تفاعلي".

إذ يبدأ أوتوش، عروضه التلقائية، متدرّجاً، كما في مثال الانتظار في محطة القطارات، حيث يكون الفضاء فارغاً، ثم يزداد الحضور مع اقتراب وصول القطار، ثم يعود إلى الفراغ.

حالة القطار تنطبق على مسرح أوتوش، أعني مقهى "أدبيات". هناك يبدأ أوتوش عرضه، أو عمله، بتقديم الطلبات، وبعدما يطمئنّ إلى أنّ كلّ زبون، وكلّ طاولة، لديه ولديها ما تحتاج وما يحتاج، وقد فرغ من دوره الأول، يذهب إلى المرحلة الثانية من الأداء، ليلقي قصائده بين وقفات المغني، ثم يتعب، فيطارح الزبائن الأحاديث والحوارات، ثم يعود ليتفقد الطاولات وطلبات الزبائن، ثم يرقص وحده، ليشجّع الآخرين... وهكذا نتسلّل ببطء، إذ يسخن المشهد، ويقترب وصول القطار، فيندمج الزبائن، ويأخذ أوتوش جانباً، تاركاً الساحة للصبايا والشباب، يرقصون ويغنون، ويدخلون في أدائهم الذي لا يكون أوتوش، خلاله سوى مشجع بالتصفيق، وأحياناً ينسى وينخرط في الأداء فيرقص معهم.

في نهاية السهرة، في الثانية صباحاً تقريباً، أخرج وحدي، وقلق سيارات الأجرة في رأسي. أسأل أوتوش، كيف أجد سيارة تكسي؟ لم يكتفِ أوتوش، بأن يشرح لي بالانجليزية، بل يخرج معي.

كأننا في عالمين، يفصل بينهما الباب الخارجي لأدبيات، حيث بابه الرئيسي، يبعد عن باب المقهى بساحة صغيرة، فيها درج يؤدي إلى الطبقة الثانية. وعلى الرغم من صغر الساحة، إلا أنّك ما إن تقطعها، وتغادر، تشعر باختلاف المكان.

خارج المقهى، وأنت لا تزال أمام الباب الرئيسي، يصدمك الهدوء، وعتمة الليل الرومانسية. فيخرج معي أوتوش، من الصخب إلى الهدوء. سيّارات التاكسي تصطفّ مقابل المقهى، لكنّها فارغة، فأين السواق؟

ينقذ أوتوش الموقف، وأفهم سبب خروجه معي، فالعثور على السائق يحتاج إلى بعض الخبرة. لم يرغب أوتوش، في تَركي وحدي أُجرّبها للمرّة الأولى. مجموعة السواق يدخنون ويثرثرون في ركن ما، محلّ يخرج منه شاب يصيح عليه أوتوش، ليدلنا إلى السائقين. فيذهب الشاب ويدعو السائق. أرى مجموعة الرجال القاعدين في ركنهم المتغير حسب الصدف والمزاج. يأتي سائق السيارة الأولى، يودعني أوتوش، وهو يؤمن عليّ بعهدة السائق!

حين دخلت في المرة الثانية إلى "أدبيات" رحّب بي أوتوش، بحرارة مختلفة عن اللقاء الأول. ففي اللقاء الأول يكون ترحيبه رسمياً، كي لا يصدم الزبون أولاً، ولكي يتأكد من تناغم شخصية الزبون أو مزاجه، مع مزاج المكان.

نعم، كما تحدث باشلار، عن سيكولوجية المكان، لهذا المكان سيكولوجيته الخاصة، مزاجه، شخصيته... للتقليديين، الراغبين فقط في سهرة بين الأصحاب، لهم مكانهم. للمتمردين النزقين كذلك مكانهم، لصبايا يرغبن في السهر وحدهن من دون ثقل الذكور، مكانهن هنا أيضاً. صبايا مستقلات، ناضجات، يأتين لتناول الطعام، أو تناول مشروب ما، من دون اختلاط بأحد، اللهم إلا أوتوش، صديق الجميع، ويغادرن وحدهن بعد منتصف الليل، من دون أن يزعجهنّ أحد، كأنهنّ في بيت أحد الأصدقاء، أو أحد أفراد العائلة.

في ترحيبه الثاني إذن، أثنى أوتوش، على العقد الملوّن الذي أزيّن به بلوزتي السوداء. حبّات العقد المتعددة الألوان، يلمس عقدي من دون إزعاج، بخفة روح، وابتسامة مريحة، ليعبر عن إعجابه بالتعددية والانفتاح على الألوان – الاختيارات. لنأخذ الأمر إلى أبعد من كونه مزاجاً شخصياً، بل إلى فكرة القبول بالآخرين، المختلفين، من مشارب وألوان أخرى.

ربما هو جهلنا بالتركية، وربما يمارس أوتوش، كذلك بعض الاستعراض اللغوي، فيقدم لنا خلطات تضحكنا أحياناً، تثير دهشتنا، ونقبلها، لأن نواياه نبيلة.

يسرد عليّ لائحة أسماء يشعر بالانتماء إليهم، فيخلط الحابل بالنابل، من كافكا إلى سارتر إلى ناظم حكمت إلى الإلحاد إلى اليسار إلى الطوائف... أجل، يقول، إنّه عالمي وإنساني وكافكاوي وعلوي... ونضحك بين بعضنا بخبث الغرباء المتآمرين على شخص مختلف بينهم.

أدبيات هو مقهى، لكنّه ليس كباقي مقاهي العالم، هو مقهى ثقافي اعتباطي مرتجل، يقوده الزبائن ويشرف عليه أوتوش، ويتغير برنامج العروض من ليلة إلى أخرى، حسب أداء الحاضرين، وتفاعلهم وأمزجتهم، من أمسيات صاخبة، تحتشد فيها أغنيات متعددة اللغات، تركية وكردية وعربية، صار يفرضها السوريون، إلى أمسيات أقل صخباً، حين يكون المزاج فاتراً أو أقلّ حماسة، لسبب لا تدركه إلا كيمياء الأمزجة، وسيكولوجيا أدبيات. 

المساهمون