يوميّات الحرب في غزّة (5)

يوميّات الحرب في غزّة (5)

09 نوفمبر 2023
طفل فلسطيني مُصاب يبكي في مشفي في دير البلح وسط قطاع غزّة (7/11/2023/الأناضول)
+ الخط -

(5 نوفمبر)

هل يعرف أحدٌ الغيب؟ لم أعُد قادراً على التفكير في منطق كل ما يجري. ولا أعرف كيف أستطيع ان أقنع نفسي لماذا مات جاري ولم أمُت أنا؟ أو لماذا سقطت الشظيّة على ساقي ولم تسقط على رقبتي أو في بطني؟ أو لماذا لم أقف قليلاً إلى الامام وقرّرت أن أقف قليلاً إلى الوراء فأخطأني كثيرٌ من الركام، وضلّت طريقها كثير من الشظايا؟ أو لماذا تأخرتُ قليلاً أو لم آت مبكّراً بوقت قصير فأنجو بشكلٍ كامل؟ هل يعرف أحدٌ ما اللحظة المقبلة؟ اللحظة التي لا تأتي مع نسمةٍ، ولا مع شعاع شمس، ولا زوبعة ريح، ولا نثار غبار، ولا رملٍ متطاير، يأتي ذلك كله معها، فتحملك إلى حيث ترغب هي، فيما أنت غارقٌ في معمعان تلك التفاصيل.

التفكير في القادم أشدُّ وطأةً من القادم نفسه. ولا يجلب الخوض في متاهات التأمّل إلا مزيدا من الضياع. أفضل شيء أن تحاول أن تنسى ما أنتَ فيه، وتبتدع عالماً آخر تعيش فيه. تخدَع نفسك أن ثمّة واقعا آخر، وأن ما يدور حولك ليس إلا قصّة مؤلمة تسمعها من جدّتك، وهي تهدهدك، لترسلك على جناحيْ حمامة إلى النوم، لكن ما تراه ليس حمامةً وليس جناحين، بل طائرات تحمل السماء على الغضب، وتلقي بحممها جحيماً وتصنع للموت وجباتٍ شهيّةً، يلتهم فيها كل من تأتي عليه. ومع ذلك، لك أن تتخيّل أن هذا كله إبداعٌ ووهمٌ وخلقٌ مصطنعٌ لواقع تكون جزءاً منه مثل عالم افتراضي تعيش فيه، لكنك ليست جزءاً منه. ثم تسأل نفسك: هل يمكن للإبداع أن يكون بمثل هذه الوحشية والقسوة لسذاجةٍ مفرطةٍ تظن أن الفن مرتبط بالجمال، وأن العقل البشري أقسى ما يمكن أن يتفتق عنه هو إعادة تحوير للواقع المعاش؟

تضع جانباً مثل هذا التفكير، فالتفكير في الشيء يفسدُه حتى الحب والسؤال عن المآل ليس إلا تعبيراً عن فقدانه. تعود إلى التفكير بسؤال الغيب الذي لا يعرف أحدٌ شيئاً عنه. تنتظر على قارعة طريق مظلمةٍ لا تقود إلى مفارق تتشبّع منها الطريق، لا طريق إلا الطريق، وليس بعد الخطوة إلا الخطوة التالية، ولا يجلب التعبَ إلا المزيد منه. بحركةٍ آلية، أُمسك رأسي بين يديّ. ومثل من ينتزع جزءاً من آلة، أحمله وأضعه على الطاولة بجانبي، وأقول له أن يهداً، أن يتوقّف عن التفكير، وأن يلقي جانباً كل الأسئلة، ويترُك لي تفاصيل النجاة. أتجاهلُه وأحاول أن أظنّ أنه غير موجود، فأواصل الانشغال بأشياء تافهة، مثل التأكد أن علبة القهوة الفارغة لابد أن فيها بقايا لو جمعتها، يمكن أن أصنع منها فنجاناً صغيراً، فأحاول ولا أحصل إلا على ربع ملعقة صغيرة، لا تكفي حتى لأمسح بها لساني. ثم أقول: "لا بأس بكأس شاي". وأنا الذي قلّما شربتُه إلا في مناسباتٍ، فلا أجد ملعقة سكّر أذيبها فيه، فأصرخ لن أشربه مرّاً. كنت أفعل ذلك خلال دراستي في إنكلترا، وتعوّدتُ تقريباً على الأمر. ثم حين عدتُ إلى غزّة بدت تلك عادةً غريبةً وتدريجياً عدت إلى شرب الشاي المُحلّى بالسكر. أتمشّى في الممرّ الخلفي، حيث شجرة "السنطاروزة" الصفراء مرهقة منزعجة من صوت الزنّانة مثلي. وحين أعود، أجد رأسي ما زال على الطاولة ينتظرني، فأرى الأفكار تتطاير منه، وأرى صورة علبة القهوة وملعقة السكّر وخيالات شجرة السنطاروزة، وأعرف أنه كان يفكّر عني، وكنت أسير، بلا هدى، نحو تلك الرغبة الدفينة للغيب.

التفكير في القادم أشدّ وطأة من القادم نفسه. ولا يجلب الخوض في متاهات التأمّل إلا مزيدا من الضياع

كلّ يوم، نمضي يومنا فوقنا سحابةُ الغيب الثقيلةُ بقلقنا. تعرف ما لا نعرف ولا تُخبرنا. لا تقول لنا إننا قد نمضى بعد قليل، أو قد يذهب من نحبّ، فلا تمنحنا فرصة وداعهم اللائق. سحابة الغيب تلك رفيقٌ غير وفيّ وصديقٌ غير صادق، لا تحذّرنا ولا ترمي لنا ببعض ما فيها من علم عنّا. تحوّلنا إلى مادةٍ تلهو بها لتصنع أقدارنا. حين أنظر إلى السماء، أنظر إلى تلك الغيمة التي بتّ أحفظ شكلها وأعرف ملامحها وأراقب حركتها وسيرَها حتى في عتمة الليل. إنها نظرتُنا ذاتها حين نرفع رؤوسنا إلى السماء، نسأل المشورة أو نسأل الرحمة، أو نعلن احتجاجاً على ما يقع علينا من ظلم. إنها الغيمةُ داكنة السواد في أوقات، وشفيفةُ البياض في أوقات أخرى. إنها الغيمة التي تحمل بين كثبانٍ غيْبها حيواتنا التي لا نعرف، لكنها تظلّ ضنينةً علينا بعلمها. أمشي وتمشي فوقي. أغفو فتكون مثل سقف البيت ممدّدة فوقي. وأتخيّل أنها ستسقط عليّ من علوّها، وحين تسقط يسقط معها قدري، فتلتصق بي، وتصبح جزءاً منه، وقتها يتحقّق غيبُها فيّ وأكون قد ذهبْت. إنها اللحظة التي أنتظر ولكني لن أعيشها. لا أحد يعيشُ لحظة نهايته، لأنه يكون قد ذهب. كل من ذهبوا لم يدركوا أنهم بالخطوة التي قاموا بها لتوّهم قد طووا كتاب الحياة. كلنا يقترب يومياً بمسافاتٍ متفاوتةٍ من تلك الخطوة، وكلنا كل يوم ربما يوشك أن يقوم بها، لكنه يُحجم في اللحظة الاخيرة.

الصورة
بين الدخان
بحث بين الأنقاض عن ناجين وشهداء بعد قصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزّة (6/11/2023/ الأناضول)

أمضيتُ آخر المساء عند أختى عيشة. وحيث إنني لم آكُل شيئاً منذ الصباح، اقترحت أن نجهّز شوربة من كل ما تبقّى من خضار. آخر حبّة بطاطا وآخر حبّة باذنجان وآخر حبّة فليفلة وبصلتان من كومة البصل الأخيرة وآخر علبة ذُرة. واستعدتُ القليل من النشاط، وأنا أحضر أول شوربة نشربها من شهر. ذلك كله مع القليل من الرّز. بدت شهية. استذكرتُ تلك الأيام قارسة البرد خلال دراستي في جامعة بيرزيت، حين كنّا نعيش أربعة طلاب في بيت واحد، وكان إعداد مثل تلك الشوربة طقساً يستحقّ الاحتفال، لأنه، ببساطة، يذكّرنا بعالم الدفء التي كانت توفّره لنا أمهاتنا قبل غربتنا تلك. وضحكتُ وأنا أخبر عيشة عن الشوربة التي أعددُتها ذات ليلة غطّى بها الثلج كل شيء، فلم يكن أمامنا إلا أن نصنع لنفسنا دفئاً. يومها، بدلاً من وضع الملح وضعتُ كثيرا من السكر، وحين استدركت الأمر وضعت كثيرا من الملح. حين سكبتُ الشوربة في الصحون، عرفنا أنها فسُدت بشكلٍ يمكن لنا فيه أن نتحمّل الجوع ولا نتحمّلها. سكبت الشوربة على باب البيت. وستُصبح طرفة زملائي بعد ذلك أن القطّة التي كانت تستأنس بنا وبحسّنا في البيت أكلت منها وماتت. لم أر القطّة، لكن موتها بات مؤكّداً أنه صار حقيقة في حكايتهم عن تلك الشوربة.

لسببٍ أجهله، حين وصلنا إلى الحارة، طلبتُ من محمّد أن نركن السيارة مقابل سوبرماركت الهسي. كان ينوي ركنها تحت بيت فرج حيث نبيت. قلتُ له هنا أفضل. كانت تلك هي الخطوة القصيرة التي أزاحت سقوط غيمة الغيْب علينا. ركنّا السيارة ووقفنا نتحدّث قليلاً مع أخي إبراهيم. كان علينا أن نتحرّك فوراً إلى بيت فرج، فالليل اكتمل سوادُه، وبات مجازفةً السير في الشارع مسافة 20 متراً. تعني المجازفة أن تكون عرضة لمزاج وتفسيرات مراقب شاشات الطائرات الزنّانة. لذا يحاول معظم الناس إن اضطرّوا للتخفّي بالسير بجوار الجدران وتحت مظلات المحلات وعليات البيوت وشُرفاتها.

كل من ذهبوا لم يدركوا أنهم بالخطوة التي قاموا بها لتوّهم قد طووا كتاب الحياة

لم يعُد أبي ينام في بيته، فالبيتُ كما يرى غير آمن، خصوصا أنه يقع في منتصف الحارة، وإذا حدثَ أيّ قصفٍ ستنهال عليه كل البيوت. وتفكير الناس أنه في حال حدوث مكروه، يمكن أن يوفّر البيت الموجود على الشارع العام للجرّافات أن تصل إليه، وتحاول أن تٌخرج الأحياء من تحت الركام. أما تلك البيوت في الأحياء والحارات الداخلية، فيصعُب وصول المساعدة لها. قال إنه سيذهب للمبيت عند أختي أمينة، لكنه لن يتمكّن من صعود الدرج إلى الطابق الرابع. رافقه ابني ياسر ليساعده في الوصول. يحبو أبي نحو منتصف عقده الثامن، ويعاني من بعض أمراض الصدر.

وقفنا، أنا وإخوتي، نتحدّث في انتظار عودة ياسر، حين لمحتُ صديقي فخري فناديتُ عليه. كنتُ أرغب بالحديث معه. كان يبعد عني ثلاثين متراً، وكنت أهم بالتوجه إليه. فخري من القلة التي ظلّت على ما تعتقد، ولم يبدّل رغم عدم انشغاله كثيراً بالعمل الحزبي. وهو شخص محبوب بشكل كبير في الحارة. أمضى فترة من شبابه في معتقل النقب، بسبب نشاطاته في الانتفاضة الأولى. أظنّ أن أغلب أعضاء مجموعته اليساريين القدامى قد جرفهم تيار التديّن، وظل هو يؤمن بكل ما قرأ وتعلم. كدت أذهب نحوه لولا تأكيده أنه سيذهب إلى الحمام في البيت ويعود بعد دقائق.

الصورة
فلسطينية تهرب مع ابنها بين أنقاض المباني بعد قصف إسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزّة في 6/11/ 2023 (الأناضول)
فلسطينية تهرب مع ابنها بين أنقاض مبان بعد قصف إسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزّة (6/11/ 2023 الأناضول)

لم يعُد فخري، أو هو لم يذهب إلى أيّ مكان. فقط ثانية واحدة وقصَفت الطائراتُ المنطقة. لم أر إلا الدّخان والغبار والنار التي تصاعدت نحو السماء من مكان القصف. رأيتُ النار تصعد والدخان يغطّي كل شيء. لكنني لم أر شيئاً. لم أر فخري. تساقطت عليّ الحجارة وقطع الخشب والأسمنت والحديد المتطايرة. يتطاير الركام في كل اتّجاه وشظايا الصواريخ مثل زوبعةٍ تقصف الأعمار. وضعت يديّ فوق رأسي أحميه من الشظايا. ركضتُ باتجاه الشارع الفرعي الذي يربط طرفي الحارة الشمالي والجنوبي باتجاه "بلوك السنايدة" الذي حدثت فيه المذبحة الرهيبة قبل أيام. أردتُ فقط أن أبتعد قدر المستطاع عن مكان القصف. من الخطأ في مثل تلك اللحظات محاولة الاحتماء بجدران البيوت أو بالعليات أو الشرفات، إذ قد تسقُط عليك. أفضل شيء أن تواصل الركض في منتصف الشارع، وتحاول الابتعاد أكبر قدرٍ ممكن عن مكان القصف ومركزه. بات مؤكّداً أن هذا ليس حزاماً نارياً، فالانفجار تم لمرّة واحدة، ولم يتبعه مزيدٌ من الانفجارات في أماكن قريبة.

أفلت مني حذائي. ركضتُ حافياً. ركض إخوتي معي. بعد مائتي متر توقّفت. شعرتُ بلزوجة في ساقي. كان الدم يسيلُ مني. مسحتُ الدم بكفّ يدي والتقطتُ أنفاسي. بدا واضحاً أن القصف انتهى. لم أعرف أين ياسر. المؤكّد أن بيت أختى أمينة الذي اصطحب أبي إليه في الاتجاه الآخر من الشارع، أي أبعد بقليل عن مكان القصف. عدتُ إلى طريقي باتجاه المكان المقصوف. حتى اللحظة، لا نعرف أين أو ما الذي تم قصفُه.

كانت الفتيات الصغيرات يصرُخن من داخل البيت، وابنة فؤاد الكبرى تقف خلف النافذة وتطلب النجدة والنيران تلتهم كل شيء، ولا نجدة يمكن أن تحمل لها النجاة المطلوبة

كان فخري تحت الرّكام، بدا منه طرف يده. تساعدْنا في انتشاله، بعد أن رفعنا الركام والحجارة. كانت ثلاجة فوقه. شددْناه بقوة وأزحناها عنه. كان ميّتاً ولم تفلح جهودنا في الضغط على صدره لعلّه يعود. في البيت المجاور، كانت النيران تلتهم فؤاد ومها من أبناء عمومتي وأطفالهم الخمسة. عملنا جهدَنا من أجل استخراجهم. نجحنا في انتشال فؤاد من تحت الركام، إذ كان محظوظاً أننا رفعنا الركام عن وجهه فتنفّس فعادت له الحياة التي كانت على وشك أن تغادره إلى الأبد، أما زوجته مها، وهي ابنة عم زوجتي، فقد ظلّت داخل غرفة داخلية هي والأطفال تأكلهم النيران. كانت الفتياتُ الصغيراتُ يصرُخن من داخل البيت، وابنة فؤاد الكبرى تقف خلف النافذة وتطلب النجدة والنيران تلتهم كل شيء، ولا نجدة يمكن أن تحمل لها النجاة المطلوبة. ضاع صراخهن خلف الضجّة والصراخ وعويل النار وكثافة الدخان. ماتوا كلهم. مها والفتيات الأربع والفتى الوحيد في العائلة. واصلنا العمل لاستخراجهم، لعلّ الحياة تعود إلى أحدهم.

كان ثمّة محلّ ثلاجات في البناية المجاورة، ومع انفجار الغاز في الثلاجات واشتعال الفلّين في بطانتها، ظلت النيران مشتعلة أكثر من ساعتين. الحل الوحيد لاستخراج جثثهم كان بعمل فتحة في الجدار الخارجي للبيت، فهدمنا الجدار ودخل الشباب، وكان رجالات المطافئ قد وصلوا وبدأوا إخماد النيران. كانت مها قد فارقت الحياة هي والأطفال.

الصورة
امرأة فلسطينية تبكي بجوار جثامين الشهداء الذين فقدوا أرواحهم في قصف إسرائيلي أمام مشفى في رفح جنوب قطاع غزة في 17/10/2023 (الأناضول)
فلسطينية تبكي بجوار جثامين شهداء قضوا في قصف إسرائيلي أمام مشفى في رفح جنوب قطاع غزّة (17/10/2023/الأناضول)

طار عمود باطون ضخم أيضاً من البيت في المنطقة، وسقط في البيت المقابل في الشارع على نهال، إحدى بنات عائلتي، فيما كانت تستعد للنوم في غرفة نومها، بعد أن أطعمت أولادها ونظّفت مطبخها. كانت نهال تنتظر عودة زوجها محمد، بعد أن أطلق جيش الاحتلال سراح العمّال من غزّة الذين كان قد اعتقلهم يوم 7 أكتوبر. كان سيصل يوم غد، وكانت لم تره منذ شهر، ولكن الموت كان في انتظارها قبل أن يصل. وجد زوجها نفسَه في المنطقة الجنوبية من القطاع غير قادر على الوصول إلى الشمال، بسبب الدبّابات المتمركزة في الشوارع الواصلة بين الشمال والجنوب، لكنه وعدها بأنه سيعمل جهده ليصل إليها. كان الموت أسرع منه فوصل إليها قبله.

يا موت... لم تترُك لنا ما يكفي من الوقت حتى نستعيد وقتنا. تسرق منّا كل شيء حتى إحساسنا بك أنت

بدأت أشعر بدوخة شديدة، ولم أعد أقوى على الوقوف. أمسكني أخي محمّد من يديّ، بعد أن كِدت أسقط. توجّهنا نحو السيارة. كان الدم ما زال ينزّ من ساقي. لم تكن ثمّة فرصة للذهاب إلى المستشفى. سيبدو منظرنا مضحكاً، فكلّ من يصل إلى المستشفى يكون على وشك الموت، وكل فقد أطرافه أو جزءاً من جسمه. شعرتُ بالخجل من الذهاب إلى المستشفى من أجل خمس غرز، هي كل ما يمكن أن يتطلّبه جُرحي. قلت لمحمد سنعالج ساقي هنا. عصرْنا الجرح ولففْناه بقطعة قماش. كان التعب يهدّني. جلستُ في السيارة قليلاً. كانت بعض الحجارة قد كسرت الزجاج الأمامي للسيارة وخدشت بقوة أطراف الأبواب اليمنى.

صعدنا إلى منزل فرج حيث نبيت. كان المنزل مدمّراً بشكلٍ جزئي. تكسّرت كل الأبواب، وكل الشبابيك تساقطت، وكل شيء زجاجي في البيت تهشّم. طارت شظيّة كبيرة، واخترقت الجدار ووقعت على الفرشة الصفراء في الغرفة الجانبية. إنها الفرشة التي كنت أتمدّد عليها كلما حاولتُ التقاط إشارة الإنترنت لقربها من الشباك الشرقي، حيث محلّ الإنترنت ومزوّده. كان يمكن لي أن أكون ممدداً على الفرشة حين سقطت الشظية. لو لم أقف مع أبي وإخوتي خمس دقائق كان يمكن لي أن أكون ممدّداً على الفرشة وميتاً الآن. كما لو أن فخري وقف مثلما طلبتُ منه، وتحدّثنا ربع ساعة، كنت سأكون معه ميّتاً الآن. فكّرتُ في الموت، كم مرّة عليك أن تنجو منه حتى يُلقي القبض عليك.

توجّهتُ في الصباح إلى بيت الصحافة. غسلتُ الجرح بالماء والملح، ولففتُه جيّدا، وأمضيت كل النهار ممدّداً على الفرشة لا أقوى على الحركة. كان الألم يُتعبني، وكنت أفكّر أكثر بالموت الذي أخطأني أيضاً هذه المرّة. لم أُرد أن أفعل شيئاً. فقط النوم والنوم والنوم. لم يغادر فخري تفكيري، وأنا أقول لنفسي: كان يمكن لي ان أكون ممددّاً معه ميّتاً تحت الرّكام، ولابد أن نكون محظوظين أن الآخرين سيجدوننا، لأننا حتى الآن لم نجد حاتم وهدى، ولم ندفنهم بعد مرور ثلاثة أسابيع على قتلهم في بيتهم.

(6 نوفمبر)

يا الله، ما أبشعك أيها الموت، ألا تُلاحظ أنك تخطف الجميلين، كأنك تغار منهم. يا لقسوة وقع أقدامك على أسفلت أرواحنا، وبشاعة ظهورك اللحظي في حياتنا فتذهب بكثير منها، تترك آثار مخالبك على أجسادنا أزمانا لا تزول. تتقصّد أذيّتنا فيمن نحبّ، تصنع حضورَك على جراحنا وتبني مجدَك على آلامنا. تتركنا، أيها الموت، حزانى مجروحين موجوعين نذرف الدموع من دون أن تتوقف لو لدقيقة تراجع نفسك. لا تقول كفى، لقد آذيتُهم كثيراً أو تعطينا استراحة خفيفة نستعيد فيها قدرتنا على الوجع وحاجتنا للحزن، فلا وقت لنحزن ولا وقت لندفن موتانا، ولا وقت لنبكي ونغسل جفاف خدودنا المحزونة. لا تترُك لنا ما يكفي من الوقت حتى نستعيد وقتنا. تسرق منّا كل شيء حتى إحساسنا بك أنت.

ننظُر إليك فلا نعرفك. تقف قرب الباب، أو تجلس القرفصاء تحت طاولة الطعام أو تداعب وردة ستقطفها مع أعمارنا بعد قليل. نتأمّلك نحاول أن نستحضر القليل من وجودك في حياتنا، لكنك تفلت مثل ريحٍ خافتةٍ بين أوراق الأشجار. لا أحد رآك واستطاع أن يُخبرنا عنك شيئاً. فقط من يخبرك أو من يعيشك يعيش فيك إلى الأبد ولا وقت آخر له للعيش مع غيرك فيخبرهم عنك. أترى أي أنانية تلك وأي بشاعة واختطاف تقوم به. لا أحد يستطيع أن يتمثلك أو يتخيّلك. مرّة على شكل ملاك يسحب الأرواح مثل الشعرة من العجين أو على شكل ماردٍ مُرعب يخطِفُ بيديه وأظافره البشعة الحياة أو يقطفها مثل مقصّ الجنائني.

لا وقت لنحزن ولا وقت لندفن موتانا، ولا وقت لنبكي ونغسل جفاف خدودنا المحزونة

الليلة، أخذت الحرب محمد الجاجة صديقي خلال الحرب. رافقني صباحات أيام الحرب ومساءاتها في بيت الصحافة. كنّا نمضي طوال النهار سوية، أنا وهو وبلال، في بيت الصحافة. محمد الصحافي والناشط والخبير التنموي الذي كان يمضي نهاره يساعد النازحين في تأمين أرغفة الخبز لهم، وفي تأمين السلال الغذائية من أجل أن يجدوا ما يأكلونه. وكان طوال الوقت مشغولاً بتقديم العون للمنكوبين في مراكز الإيواء يتّصل ويذهب إلى المخابز والسوبرماركتات ومحلات البقالة. منذ السابعة صباحاً حتى غروب الشمس وهو مشغولٌ بهموم الآخرين. رفض النزوح جنوباً وظلّ صامداً في بيته في حي النصر، حتى جاءت القذيفة فقتلته هو وعائلته. مات الليلة خلال استهداف الطائرات بيته، لتحمله الشهادة مع زوجته وأولاده إلى مثواه الأخير.

الصورة
طفل فلسطيني
رجال الدفاع المدني والسكان ينقذون طفلاً من بين أنقاض بعد قصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزّة (6/11/2023/ الأناضول)

مساء أمس، ذهبنا كلُّ في طريقه قبل أن تغرب الشمس، وكانت آخر عباراتنا "أراك غداً"، ولا غد اليوم، يا محمّد. ... ها نحن نقصنا واحداً، ولن يعود محمّد بحسّه الفكاهي وإصراره على العمل وعلى تقديم العون والكتابة عن هؤلاء الذين قهرتهم الحرب. كما كلّ صباح صباحُنا مختلف وأكثر حزناً وأشدّ وقعاً على سيرنا المتعثّر في البحث عن النجاة. لا أحد يقدِر على هذا الألم. في مستشفى الشفاء، سترة الصحافة بطاقة التعريف به مسجّاة مثل جسدٍ ينتظر أن يُوارى في الثرى، تذكّرنا بكل هذا الألم الذي ينتظرنا على الطريق.

قال: لا تقلقوا غداً ألقاكم... وجاء غد ولم نلتق يا محمّد. ذهب الليل وذهبتَ معه ولم يطلع عليك صباح

لم أصدّق كيف للموت أن يكون بهذه القسوة. تمهّل يا موت قليلاً، لعلنا نلتقط أنفاسنا ونأخذ وداعنا المستحقّ، ونقدر على التنفس بعض الوقت قبل أن يذهب منّا النفس. محمد الجاجة الذي أتشارك معه قصص وحكايات لجوء عائلتينا من يافا، ويسكن في منطقة النصر، بعد أن سكنت عائلتُه مخيم الشاطئ رفض النزوح جنوباً، وكنتُ قد اتفقت معه، أنا وبلال، أنه حين نجد الدبّابات على باب بيت الصحافة، ونجد أنها تحمل كل الناس بالقوّة على الخروج أو الموت وقتها، ربما نسير مع الناس مضطرّين. وكان يضحك وهو يقول إن هذا قد لا يكون بعيداً، وكان يقول إن علينا أن نكون جاهزين له. على الأقل، لن يكون بمزاجنا، وليس من الصواب أن ننفّذ ما يطلبه الجيش ونسهّل مهمته في القضاء على غزّة وترحيل أهلها. كان عقل محمّد، صاحب الفكاهة، يتفتّق عن وعيٍ سياسيٍّ حادّ وفهم معقول للأحداث، بعيداً عن الرومانسية وبعيداً عن قوالب المنطق الجامدة. في أحيانٍ كثيرة، كان يدبّر لنا موضوع ربطة الخبز بسبب علاقاته الواسعة مع المخابز، لعمله في الجمعيات الإغاثية والمعونات. يوم أمس، تحدّثنا طويلاً، وكنت أقول له إن منطقة النصر باتت خطرة، فكل شيء غربي شارع النصر تحت مرمى نيران البوارج والقصف المستمرّ. وكان بيته في شقّة في بناية قرب مستشفى الشفاء، وهي المنطقة الواقعة غرب شارع النصر باتجاه مخيم الشاطئ. اقترح عليه بلال أن ينتقل هو وعائلته إلى المبيت في بيت الصحافة. رفض وقال: لا تقلقوا غداً ألقاكم... وجاء غد ولم نلتق يا محمّد. ذهب الليل وذهبتَ معه ولم يطلع عليك صباح.

كنت أقفُ قرب الجثامين الممدّدة على الأرض في مستشفى الشفاء. انتبهت إلى خوذة الصحافي وسترته الموضوعتين فوق أحد الجثامين، قلت، بحسرة: يا إلهى، صحافي آخر. وكانت الطائرات قد اغتالت عشرات الصحافيين. لم يخطُر ببالي أنني أنظر إلى سترة وبطاقة تعريف صديقي الذي كان يقول لي إلى اللقاء غداً قبل ساعات. لم يخطُر ببالي أن الشاب الدمث الخدوم سيكون راقداً في ملكوت الغيب تحت السترة ربما. حتى أنني لم أنتبه لاسمه على البطاقة التعريفية الخاصة به. كانت عشرات الجثامين ممدّدة على الأرض، وكان الأعزّاء يبكون من فقدوا بألم وحسرة. وكنتُ أنظر إليهم وأعيد تذكير نفسي أنهم ليسوا أرقاماً وأنهم حكايات وأحلام وتاريخ وعلاقات وبشر، كانوا جزءاً من استمرار الحياة على هذا الكوكب، وليس ذنبهم أن الموت خطفهم من دون استئذان. ولم أكن أعرف أنني أتحدّث عن شاب عرفته فقط فترة الحرب، وبات، بين يوم وآخر، من أصدقائي القليلين في زمن الموت هذا. لم أعرف محمّد من قبل، لكنه صار مع الأيام رفيقي، أنا وبلال، في جلساتنا في بيت الصحافة. نقصنا الآن واحداً. كل يوم ننقُص واحداً أو مجموعة. كل يوم نصبح أقلّ.

لقد كذبتَ علىّ، يا محمد، ولم نلتق هذا الصباح. لم تدخُل علينا هاشّاً باشّاً تحملنا على الابتسام، ونحن نعتصر ألماً، ونضيع من شدّة الحيرة. لم تف بوعدك وتعود، حتى نواصل تشاؤمنا ونقطف من صحرائه بعض التفاؤل، لأنّ بكرا أحلى.

قُتل العشرات، وهم يحاولون الوصول إلى الجنوب، ناهيك عن أن بعضهم مات وهو في الجنوب، فالطائرة لا تميّز بين شمال وجنوب

جلستُ، أنا وبلال، نصف ساعة، نبحلق في اللاشيء، غير مصدّقين أننا نقصنا محمّد، وأن الموت زاد به. لا شيء يمكن أن يًقال. الحياة في غزّة تصبح أكثر صعوبةً مع الوقت. ولا شيء عن المستقبل إلا المزيد من الموت. من منّا الذي سيموت في الضربة المقبلة؟ من منّا سنرثيه بكلماتٍ تجفّ في حلوقنا؟ المدينة أيضاً تصغر وتضيق وتنقص المساحات التي يمكن لنا أن نتحرّك فيها. لم يعُد بمقدورنا أن نسير في المناطق الغربية إلى حيّ النصر، وصار من الأكثر أمناً لنا أن نعبر من خلال جباليا البلد والنزلة شرقاً ثم ندخُل شارع الجلاء من جهة الشرق بدل الطريق التي كنا نسلكها عبر شارع الصفطاوي شمالاً. المدينة تضيق ونحن ننكمش، وحاجياتنا تختفي عن رفوف المحلات، وحتى طوابير الخبز تكبُر، فيما تختفي المخابز، حيث ينفد وقود تشغيلها أو يتم تهديدها من الجيش بالقصف إن فُتحت أبوابها.

تزداد أكوام القمامة في المدينة خصوصا على مدخل مستشفى الشفاء الذي صار مدينة جديدة داخل غزّة، حيث يقطنه عشرات الآلاف، وبات على مرافقه أن تستوعب كل هذا الكمّ البشري من دون أن تكون مهيأة لذلك. ترتفع كومة القمامة وترتفع، وتصبح مثل تلّة صغيرة على مدخل المستشفى، وتعيق حركة السيارات والمارّة وعوائل المصابين. كما أن ثمّة أكواما أخرى من القمامة متراكمة على مصاطب الدرج الداخلي لقسم الجراحة، فبسبب المخاطر وصعوبة التنقل بين الأماكن، لا يستطيع عمّال البلدية أن يقوموا بكل تلك الأعمال الزائدة التي تراكمت، وتزداد، مع الوقت، مع ازدياد النازحين داخل المستشفى، حيث يبدو المشهد مُربكاً، إذ وجدت المدينة الجديدة التي نشأت داخله تشكيلاتها ضمن سياق التطوّرات الميدانية للأحداث خارجها.

الصورة
صبي فلسطيني يدفع أمامه رجلا على كرسيّ متحرّك في رفح جنوب قطاع غزّة في 7/ 11/ 2023 (فرانس برس)
صبي فلسطيني يدفع أمامه رجلا على كرسيّ متحرّك في رفح جنوب قطاع غزّة (7/11/2023/فرانس برس)

أقف على النافذة في الطابق الرابع، أنظر إلى تلك المدينة التي صار لها شوارع وبيوت وبقالات صغيرة وحلاق، ويمكن لك أن تشم رائحة بعض الطعام تفوح من طبخ تحضّره سيدةٌ لأطفالها. تفاصيل تعيد تركيب حياة الناس، فالخيام الصغيرة والبيوت الأصغر التي تكوّنت من جدران قماشية أحدثت طرقاتٍ أصغر وممرّات أكثر تعقيداً، لكنها تصلح حتى يواصل الناس حياتهم فيها. السؤال الأهم الذي يأكل رأسي: كيف يمكن للناس أن يعودوا إلى حياتهم بعد كل هذا البؤس؟ آلاف البيوت تم هدمها ومسحت عن وجه الأرض، ولن يكون بسهولة بناؤها، والمدارس ممتلئة بالنازحين الذين لن يجدوا مكاناً يذهبون إليه بعد انتهاء الحرب. أضحك قليلاً وأقول: الأهم أن تنتهي الحرب، وأن يجدوا حياة جديدة، أما طبيعة تلك الحياة فهذا أمر آخر. أسير في طرقات المدينة التي تبدو أقلّ اكتظاظاً كلما ابتعدت عن مستشفى الشفاء، ثم أجد نفسي في شوارع مقفرة بشكل كامل. لا شيء إلا البيوت الصامتة والدمار. أحياء كاملة باتت مهجورة. حيّ النصر الذي كنت أسلك الطريق منه وصولاً إلى مخيم جباليا بات فارغاً، وبات تحت مرمي نيران دبّابات الاحتلال وبوارجه، وأي حركةٍ قد تكون سبباً للقصف.

العشرات الذين أعرفهم وعشت معهم حياة طويلة مليئة برذاذ السعادة وأمطار الأمل لم يعودوا موجودين

أين يمكن أن يذهب الناس؟ حتى الممرّات التي زعمت دولة الاحتلال أنه فتحتها من أجل أن يتوجّه الناس جنوباً من خلال شارع صلاح الدين ليست آمنة. قُتل العشرات، وهم يحاولون الوصول إلى الجنوب، ناهيك عن أن بعضهم مات وهو في الجنوب، فالطائرة لا تميّز بين شمالٍ وجنوب. قال الجيش أمس إنه سيسمح للناس بالخروج عبر صلاح الدين من الساعة الواحدة حتى الرابعة. حاول بعضُ الناس تصديق ما يقوله الجيش. ثمّة شروط غير إنسانيّة لا يتحمّلها بشر ولا يقبلها منطق. فعلى الجميع أن يتركوا كل شيء معهم قبل أربعة كيلومترات من وصولهم إلى الجنوب، بمعنى إنه لا يمكن لك أن تحمل شيئاً. فقط تسير بمفردك بدون ملابس ولا حاجيات. ثم على الرجال أن يكشفوا عن بطونهم ويرفعوا هوياتهم بأيديهم ويسيروا كل تلك المسافة. أما السيدات فثمة تفتيش خاص بهن خلف الدبابات. قال صديق لي: ذهبتُ وحين وصلت إلى دوار الكويت، وهو النقطة التي عليك ترك كل حاجياتك وأمتعتك فيها، لم أتحمّل المشهد، وقلتُ سأموت في الشمال. الموت هنا أو في الجنوب واحد. الأصعبُ من ذلك أن عليك أن تسير أربعة كيلومترات تحت تهديد القصف والقتل، فإذا ما قمتً بحركة خاطئة، اعتقد الجندي أنها قد تهدّده، وهو المحصّن خلف برج الدبّابة فقد يقتلك، وفي حالاتٍ كثيرة مثل هذا وارد.

لم يتوقّف القصف. نسمعه في كل مكان وفي كل ثانية. وحيث إنه صار جزءاً من تفاصيلنا، بتنا لا نسأل أين القصف، أو في أي اتجاه. فقط، حين تتطايَر الشظايا حولنا، أو يسقط شيءٌ من أمتعتنا، نتوقّف قليلاً لنسأل الأسئلة نفسهان بادئين بالملاحظة نفسها: شكله قريب. ثم حين نتأكّد أننا لم نتأثر أو لم نُصب بأذى، نواصل حياتنا وأشغالنا. حين أتذكّر أن اليوم هو الأول في الشهر الثاني للحرب، أحاول أن أستعيد ما جرى، أعيد ترتيب الأحداث فأضيع أمام هوْل ما خبرته خلال هذا الشهر، وأمام قسوة الفقد الذي مررْنا به وما زلنا، وأنا أعدّد أسماء من رحلوا من الأهل والأحبّة. العشرات الذين أعرفهم وعشت معهم حياة طويلة مليئة برذاذ السعادة وأمطار الأمل لم يعودوا موجودين.

الصورة
قنابل مضيئة فوق قطاع غزة في 7/ 11/ 2023 (فرانس برس)
قنابل مضيئة ترميها قوات الاحتلال الإسرائيلي فوق قطاع غزذة (7/11/2023 فرانس برس)

استوقفني من القصف قول أحد المارّة إنهم استهدفوا مستشفى الشفاء، وتحديداً الطابق الرابع. هرعتُ إلى المستشفى. كان كل شيء على ما هو عليه. فقط استهدافٌ للطاقة الشمسية في المبني الخلفي. سألتُ وسام: "خفتي؟". بالطبع، من نجا مثلها من هول الكارثة كلمة خوف تبدو سطحيةً في وصف أيّ شيءٍ مقابل خبراته. مع ذلك، يظلّ الإنسان إنساناً وتظلّ رغبته في الحياة جزءاً من أسرار الحياة ذاتها أو هي صبغتها الوراثية.

يظلّ الإنسان إنساناً وتظلّ رغبته في الحياة جزءاً من أسرار الحياة ذاتها أو هي صبغتها الوراثية

رغبتُ بالمرور من الشارع الذي كان يقطن فيه صديقي محمّد لأرى شقّته بعد تدميرها. لم أتمكّن لأسبابٍ كثيرةٍ جزء منها الألم الذي أشعر به. وقفتُ على ركام كثير، خصوصا ركام بيت حاتم وهدى، وتجرّعت الألم والمرارة، لكنْ للمرء طاقة تنفد ولقدراته حدود لا يستطيع تجاوزها. طبعاً ثمّة مجازفة غير محمودة العواقب، لو سِرنا من شارع النصر. ظللتُ أفكّر في محمّد وفي اللحظات الأخيرة من حياته. كان يفكّر ربّما في عدد ربطات الخبز التي سيتمكّن غداً من توفيرها لتوزيعها على المنكوبين في مراكز الإيواء، وربما واصل، عبر الهاتف، رجاءه لصاحب سوبرماركت ضخمة أو تاجر جملة كبير أن يوفر له أكبر عدد ممكن من السلال الغذائية. ثم شعر بقليلٍ من الراحة، وهو ينجز بعضاً من تلك المعونات التي نجح في إيصالها إلى النازحين في المدرسة المجاورة لبيته. ولعلّه حاول سماع الأخبار مثلما نفعل، أو انشغل بإرسال رسائل عبر "واتساب" يطمئن على إخوته وأخواته وبعض الأصدقاء، ثم حاول أن ينام. ولعله نام نومته الخالدة.

كنتُ كثيراً أفكّر في تلك اللحظات الأخيرة. كثيراً أعدتُ السؤال على وسام: ماذا كانوا يفعلون قبل ثانية من القصف؟ وكانت تروي لي كل مرّة تفصيلاً جديداً. وكنتُ ألاحظ التناقض في مرّات في روايتها، وأدرك أن هوْل الصدمة قد يُفقد المرء بعضاً من تركيز الذاكرة. كنتُ أتخيّل حاتم وهدى يتحدّثان في فكرة الخروج إلى جباليا للمبيت عند والد هدى، مثلما فعلوا في كل حربٍ سابقة، أو ربما الذهاب إلى النصيرات، ولم تكن فكرة التوجّه إلى الجنوب رائجة. وكانت وسام تؤكّد، كل مرّة، أنها كانت تجلس مع والدتها وتتحدّثان، وكان والدُها يقف بجوارهما. وفي مرّاتٍ تسأل السؤال نفسه: كيف لم أمُت معهم؟ وكانت ترغبُ لو أنها ماتت معهم. أمّا صديقي فخري، فقد كان يتحدّث إليّ من بعيد. وكان يقول لي إنه سيعود عما قليل، وكان يمكن أن أتوجّه إليه ليعانقنا الموتُ سوية. كانت تلك لحظة أخيرة لم تقع، مشهداً كتبه ربما السيناريست، لكن المُخرج لم يجعل الممثلين يؤدونه. وقلت لنفسي: لابد أن فؤاد كان يهم بالخروج من البيت، حيث وجدناه قرب الباب، ولو فتح الباب وخرج وتركه مفتوحاً لربما نجت عائلته ولم تخْتنق. وهذا كله ليس إلا من باب مساعدة الموت في التفكير بأننا أحياء فيرأف بنا.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون