يوميات الحرب في غزّة (4)

يوميات الحرب في غزّة (4)

06 نوفمبر 2023
أفراد يتفّقدون مباني دمّرها قصف إسرائيلي في مخيم البريج (2/11/2023/Getty)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، عن أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقا إنسانيا وشخصيا ومجتمعيا، رهيفا وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازيا مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضا من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعا في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

3 نوفمبر
يزدادُ الحزن ويزدادُ الوجع كلّ يوم. لا يمكن للمرء أن يتأقلم مع الحزن. يظلّ الحزنُ حزناً، وفقد من نحبّ، مهما كانت السياقات والظروف، يظلّ مؤلماً. كثيرون من أصدقائي فقدوا أعزّاءهم، وكثيرون، مثلنا، ينتظرون نهاية الحرب، حتى يجدوا جثامين من فقدوهم فيحزنوا بشكلٍ لائق. لا نعرف أن نحزَن بشكلٍ يليق بموتانا. يؤلمنا حزنُنا المؤجّل أكثر من الفقد ذاته، لأنه يكشف لنا شدّة هذا الفقد وشدّة الوجع الذي نحسّ به، ونحن نغذّي عجزنا بتلك الأفكار السوداوية عن اللحظة التي يكتمل بها مشهد الحزن. فقدَت عائلة زوجة فرج كل عائلتها في قصف مخيّم البريج. لا يبدو أن هناك بيتاً لم يفقد أحداً من أفراده. ولا يبدو أن ثمّة شخصا يمكن له أن يُجمل بوليصة حياةٍ تكفل له النجاة من هذه المحرقة. 
كلّ مرّة أفكّر أني نجوتُ أنشغل بالتفكير في فرص النجاة بعد قليل. حين أستيقظ من النوم مثل الآخرين غير مصدّقٍ أنني لم أمُت خلال قصف الليلة الماضية تخفُت فرحتي فجأة، حين أتذكّر أن عليّ بعد ساعاتٍ أن أفكّر في الليل الذي يجب أن يمرّ حتى أنجو غداً. كما عليّ أن أفكر في تفاصيل النهار الذي قد يخطفني فجأة، حين أكون أسير في أحد الشوارع، ويتم استهدافُ بنايةٍ فيسقُط عليّ الركام. أكثر ما يؤلم أن تموت فجأةً من دون وعيٍ منك، فيما أنت منهمكٌ في السعي وراء الحياة. أن تموت وأنت نائمٌ حتى لو سقط عليك البيت أقلّ حدّةً من أنْ تسير قرب بناية، ثم ينزل غضبُ الطائرات من جهنّم على المنطقة، خصوصا حين تنفيذ حزامٍ ناري، فتحترق المنطقة فتجد نفسك قِطعاً، أو تطير في اتجاهاتٍ عدّة. أنت لا تجد نفسك، وربما لن يجدك الآخرون. كل ما في الأمر أنك تُصبح مجرّد قطعةٍ أخرى من الركام. مجرّد ركامٍ بين ركامٍ وركامٍ يملأ مكان القصف. كأنّ الدمار لا يكتمل إلا بك، وكأنّ القصف لا يتجلّى بهيئته الحقيقية من دون قطعةٍ من جسدك. أنت مجرّد اكتمال للمشهد ولستَ إلا جزءاً من خيال الطيار وهو يستعيد رغبته في تدمير المدينة.
قصص النجاة هي قصص حياة مع الموت، تكيّف معه تأقلم رغبتك بالنجاة مع رغبة الموت بقتلك. رغبتان لا تتصارعان، بل رغبة تقود إلى أخرى. لدى الكلّ هذا الإحساس بأنه سيموت، إن لم يكن اليوم فغداً، وأن الحرب كلما استمرّت أكثر أخذت منا أكثر. وأن ارتفاع أرقامنا في سجل الوفيات يسعد كثيراً صنّاع الأخبار، لأنه يعني أن الأخبار تزداد، وليست صرخات الاستغاثة إلا تأكيداً على دقّة الجنرالات في إزهاق أرواحنا. لذلك، على المشهد أن يكتمل، وعلى كل فردٍ منا أن يواصل دوره في جعل الحرب حرباً بالمعني المجازي وبدقّة المخيال.

حين تقف أمام المجنّدة أو الجندي على حاجز إيرز، فإن اللون ودرجته مقابل اسمك يوحيان لهما بمدى خطورتك أو سلامتك

أكمل الجيش اليوم الإطباق على غزّة وشمالها وعزلها عن منطقة الجنوب. لا يربط المدينة وشمالها بالجنوب إلا شارعان كبيران، واحد يحمل اسم صلاح الدين والآخر يحمل اسم هارون الرشيد، في إشارات تاريخية ذات مغزى. يشقّ صلاح الدين قطاع غزّة من أقصى الشمال إلى آخر نقطة في آسيا، فيما يمتد شارع الرشيد على طول الساحل. وربما الشارعان الأكثر جمالاً في كثير من مقاطعهما في غزّة، فشارع الرشيد هو أجمل ما يمكن أن تراه من شوارع في مدينة غزّة حيث يستطيب الناس التنزّه والمشي، فيما الباعة الجوّالة يقدّمون ما يسلّي المصطافين قرب البحر من مكسّرات وذُرة مشويّة ومسلوقة وأيس كريم وغير ذلك.
رمت الطائرات الحربية، مساء أمس، مناشير على سكّان مخيم الشاطئ، يهدّدهم فيها الجيش باستخدام القوة "الساحقة" في المخيم. ولذلك عليهم ترك بيوتهم، والتوجّه جنوباً إلى منطقة المواصي على بحر خانيونس. لون المنشور أحمر، فيما كان لون المناشير السابقة أزرق أو أخضر. تتم صياغة حياتنا وفق المزاج اللوني للجيش، فهو يقرّر حالتنا وفق اللون الذي يمنحنا إياه. مثلاً، حين كان العمّال يتقدّمون للحصول على تصريح عمل في الداخل، كانت الإجابة على الطلب تتم عبر اللون، فإذا كان لونك أحمر فهذا يعني أنك ممنوع، وإذا كان أصفر فهذا يعني أنك في حالة انتظار وأنت ونصيبك، أما إذا كان أخضر فأنت محظوظ يمكن لك أن تحصل على تصريح. حين تقف أمام المجنّدة أو الجندي على حاجز إيرز، فإن اللون ودرجته مقابل اسمك يوحيان لهما بمدى خطورتك أو سلامتك. وإذا ما كان مسموحاً لك بالدخول أو غير مسموح ولو لديك تصريح فلونك على الكمبيوتر هو من يقرّر.
بات واضحاً أن مخيم الشاطئ سيكون مستهدَفاً بشكل أكثر. قال محمّد مازحاً: "لوننا لسّاته أزرق"، قاصداً أن لون المنشور الذي يُسقطونه من الجو علينا في مخيم جباليا أزرق، بالتالي لم ندخل مرحلة الخطورة النهائية. يقول المنشور الموزّع على الشاطئ إننا (الجيش) لا نعد بأنه سيكون هناك تحذير آخر. ... ما يعني أن هذا هو التحذير النهائي. في الطريق من مستشفى الشفاء إلى الشمال عبر شارع النصر، كان الناس يفدون من جوف الشوارع المُفضية إلى مخيم الشاطئ يحملون أغراضهم وملابسهم، ويجرّون أطفالهم بحثاً عن ملاذٍ آمن. لم يكن عشراتٌ منهم يتوقّعون في الصباح أنه سيضطرّ للخروج في المساء يبحث عن مكانٍ يبيت فيه. وجلّهم يخرُج وهو لا يعرف إلى أين سيذهب. كلما تقدّمنا شمالاً في شارع النصر، ازداد عدد الناس الباحثين عن النجاة وازداد سماع صوت الانفجارات وإطلاق الرصاص. يبدو أن الاشتباكات باتت أقرب. قرب مستشفى الأطفال لم يعد بمقدرونا أن نعبر الشارع أكثر، إذ كان الدخان والغبار يغطّيان الشارع، وصار متعذّراً التقدم إلى الأمام، أو بالأحرى خطراً، لأن الرصاص بدأ يصفّر، ويصبح أكثر حدّة، ما يعني أننا صرنا قرب مناطق تبادل إطلاق النار. دخلنا في شارع جانبي، نحاول أن نسلك أي طريق يوصلنا إلى شارع الجلاء، رغم أن المنطقة بعد الجلاء، خصوصا شارع الصفطاوي، ليست آمنة، لكن كل همّنا كان البحث عن مَخرج يُبعدنا عن شارع النصر.
نجحنا في الوصول إلى شارع الجلاء، وانطلقنا عبر شارع الصفطاوي. لم يكن أحدٌ في الشارع، وقد كنّا نريد أن نصل إلى آخره بسلام حتى ننعطف شرقاً نحو شارع المخيم. كنّا بحاجة لمعجزة من أجل ذلك، وكانت قلوبنا تُخفق بسرعة رهيبة، ونحن نتوقّع في أي دقيقة أن تأتينا القذيفة من مكان نجهله، لكننا نعرف مصدرها.

الصورة
غزة

كنتُ أسأل نفسي طوال الطريق: إلى متى يمكن لنا أن نواصل هذه التفاصيل؟ هل سأضطرّ كل يوم للقيام بهذه المغامرة والمخاطرة من أجل الوصول إلى غزّة والعودة إلى المخيّم؟ وكم مرّة يمكن لي أن أنجو؟ وكم "نجاة" ما زالت في بقجة الحياة؟ يموت كثيرون مصادفةً. لا يريدون الموت لكنه يريدهم. رغم كل ما يأخذونه من احتياطاتٍ وتدابير، يجدونه في آخر الزقاق، يبتسم في وجوههم، مثل الجوكر. كأنه يقول لهم: "ألم أقل لكم". ... حين أجلس مع أصدقائي في الحارة أنظُر في وجوهنا، وأقول: من سنفقده بعد أيام؟ ومن سيعيش حتى يقول إننا كنّا هنا وجلسنا هنا وتبادلنا رغبتنا وأمنياتنا بصباحٍ آخر. صباح نكون فيه ما نحن عليه دائماً؟

حين أجلس مع أصدقائي في الحارة أنظُر في وجوهنا، وأقول: من سنفقده بعد أيام؟

كأنني نمتُ بشكل معقول الليلة، إذ آخر شيء أتذكّره قبل أن أغفو أن الساعة كانت قرابة الحادية عشرة، ثم فجأةً صحوتُ، حين أشعل أدهم الضوء فلمع في عينيّ. لا بدّ أن عينيّ لم تكونا مغمَضتين بشكل كامل. نوم الغزلان أو شيء من هذا القبيل. حين نظرتُ إلى "الجوّال"، أفحص الوقت، اكتشفتُ أنها الثالثة فجراً، ما يعني، وفق حساباتي، أنني نمتُ أربع ساعات، وهذه نعمةٌ كبيرة بالنسبة لي. 
ظلّ أدهم قلقاً طوال الليل. يبكي وينام وينام ويبكي ويهلوس ويحلم ويدخّن ربما وهم نائم. يصعُب أن تعرف ماذا يفعل وهو مغلق باب الغرفة على نفسه. كنّا نجلس في الصالون الذي أنام فيه، نستمع للأخبار عبر "الجوّال"، ونتناقش، فيما صوتُ أولاد الحارة يصعد إلينا من النوافذ. كان صوت المدفعية شديداً وهي تبخّ قذائفها فتهزّ أطراف المخيم والمناطق المجاورة. وفي العتمة أنت تعرف عنك من الأخبار. لكن الأخبار لا تجلب لك معلوماتٍ كثيرة. لذا ستزداد حيرتُك وأنت تسمع القصف بجوارك، والمذيع يتحدّث عن شيءٍ آخر. قرابة الرابعة فجراً، قلتُ لأدهم إن عليه أن يحاول أن ينام لأننا بحاجةٍ للراحة. ذهبتُ إلى الغرفة، وعاودتُ إغماض عينيّ لأفيق على أصوات شباب الحارة في الشارع، يتحدّثون عند الخامسة والنصف. كأنهم لا يصدّقون أن النهار طلع، فيبدأونه من بدايته، لشدّة حلكة الليلة وقوة الموت فيه. وقفت أنظر إليهم من النافذة. بدت النافذة مثل شرفةٍ تطلّ على عالم الحارة. وقفتُ أكثر من ساعة أستمع إليهم وأتفاعل معهم. كانوا يقفون ويجلسون في جماعاتٍ متفرّقة، لكنها قريبة بما يكفي لكي يتواصلوا مع بعضهم بعضا. الشيء الوحيد الذي يُسعدنا اليوم أنه لم يكن هناك قصفٌ في الحارة في هذه الليلة، وأننا لم نخرُج نبحث عن أشلائنا في الأزقّة التي تناثرت فيها، وأن الحارة لم تنقُص بيتاً اليوم ولم ننقص نحن واحداً.
في الطريق إلى غزّة، كانت الحياة بدأت تدبّ في المدينة التي تنتظر مثلنا الصبح، حتى ترى الشمس. بائعو الخضار وطابور الخبز وطابور الماء تفاصيل كلها تقترح أننا في مدينةٍ تحت الحرب. هكذا يمكن أن تكون المدن حين تلتهمها الحرب وتدوسُ عليها جرّافات الموت بلا رحمة. هكذا تكون صباحاتها مترعَةً بكثيرٍ من البؤس، ومشوبة بسواد الألم. 
كان العشرات يصطفّون قرب الصرّاف الآلي لبنك فلسطين، يحاولون أن يسحبوا بعض الأوراق النقدية. لم تبلغ الساعة السابعة والنصف، والناس تبدأ حياتها مبكّراً بهذا القدر من القلق، فهم لا يملكون وقتا كثيرا فيبدّدونه بالانتظار. ثمّة انتظارٌ واحدٌ واجبٌ فقط في حياتهم الآن، إنه انتظار نهاية الحرب أو انتظار موتهم أو نجاتهم. يعيشون حياةً تحت مقصلة الوقت. أكوام القمامة تنتشر في كل اتّجاه، إذ ثمّة كومةٌ من القمامة في كل زاويةٍ في الشارع الذي يحمل اسم بطل العرب الكبير عمر المختار، وكانت بلدية غزّة أطلقت اسمه على شارعها الأول الذي يقطعها من الشرق حتى البحر، رغم احتجاج المندوب السامي وإدارته في ذلك الوقت، بعد إعدام عمر المختار. بدا الصباح هادئاً قرب مستشفى الشفاء الذي صار المكان الأكثر إشارةً وذكراً في الأخبار، إذ يرغب الجيش القاتل أن يهدِمه على من فيه، ويريد أن يدخله عنوةً، ويريد أن يرمي بالمرضى الذين في داخله في مقابر جماعية، ويريد أن يدفن تحت بلدوزاراته كل النازحين إليه. في المستشفى قرابة 40 ألف فرد لا بيت لهم ولا مكان يلجأون إليه إلا ممرّات المستشفى وحدائقه الأمامية والخلفية.

الشيء الوحيد الذي يظلّ عالقاً في البال هو الإحساس باللحظة ومحاولة تجاوزها أو التفكير في تخطّيها

كل شيءٍ في غزّة ينقُص إلا الأمل وابتسامات الناس الخفيفة رغم قسوة الحياة. الأمل أننا سننجو، والأمل أنني سأجد ربطة خبز رغم الطوابير الطويلة، والأمل أنني سأجد أن كثيرين منّا ما زالوا أحياء، رغم قسوة الموت وفرط غضبه، الأمل أن ثمّة شمسا ستُشرق رغم السحب الكثيفة، وأن البحر ما زال يريد أن يتهادى، ولو بغضبٍ، خلف سحب الدخان والغبار التي تلفّ المدينة. نظرتُ إلى ذقني في المرأة، بيضاء بشكل شبه كامل. في الحرب نشيخ، نهرم، كأن الحياة وبريقها يهربان من عيوننا. لا أذكُر أنني يوماً تركتُ ذقني تكبُر إلى هذا الحد. بالطبع، أصدقاء كثيرون سيجاملون ويقولون "جميلة"، من دون أن يقصدوا أن تتركها بعد الحرب، وإنما للتخفيف عنك، مثلما نتبادل المجاملات، ونحن ننظر إلى أجسام بعضنا، فنقول "خسّيت" ثم نستطرد "بسّ أحلى عليك". ذلك كله لأننا بالضرورة نفقد وزناً في الحرب، ولا نعتني كثيراً بلحانا، أو لا يوجد وقتٌ لذلك أصلاً، وإن وُجد لا يوجد ما يوفر هذه العناية. 
عموما، في كل الأحوال، لا أريد ما يذكّرني بهذه الحرب، حتى ذقني.

4 نوفمبر
تمرّ الأيام من دون عدد، ثم يتلاشى الإحساس بالوقت والتاريخ تدريجياً. الشيء الوحيد الذي يظلّ عالقاً في البال هو الإحساس باللحظة ومحاولة تجاوزها أو التفكير في تخطّيها وأنت تعرف أن هذا لن يُخرجك من الدوامة الطويلة للبحث عن ذلك الزمن القادم أو اللحظة التي تليها، فتقفز من لحظة إلى لحظة كمن يركض من زقاق إلى آخر ليتجنّب رصاصات القنّاص وصفير الصاروخ الهاوي من عبّ الغيم يحوّله أشلاء متناثرة. هكذا لا يعود للوقت أهمية، لأنه يصبح هدفاً وغاية يتم السعى وراءها وليس إطاراً عاماً للحياة تحدّدها معالمها ويترك بصمته على كل مساراتها. الوقت كائن مثلك في المدينة، فهو مثل الزنّانة التي تحوم فوق رأسك، تطنّ وتطنّ وتطنّ حتى ترجوها أن ترمي عليك بصاروخٍ فترتاح، وهو مثل الموت سيّد يتحكّم بإيقاع المدينة، ويحدد ضربات الحظ فيها، وهو (الوقت) الشيء الذي لا تتوقّف عن التفكير فيه، وتريد أن تهرب منه وتريده أن ينتهي، وتريد منه أن يتركك وحدك، وتريد أن تمضي الحرب إلى سبيلها، ويمضي هو إلى سبيله. تُغمض عينيك، تتخيّل لو أنك تنام مثل أصحاب الكهف سنواتٍ، ثم تفيق، فيكون كل شيء انتهى. الوقت عدوٌّ تريد قتله بتجاوزه، وأنت تعرف أن كل ثانية فيه تعني الكثير، فقد تموت فيها. لذا إذا مرّت ثانية أو ساعة أو ليلة فهذا لا يعني أنك نجوْت، كل ما في الأمر أنك مُنحتَ مزيدا من الوقت. لتعيش التجربة مرّة أخرى، لتتقلّب على جمرها من دون أن تحترق، ومن دون أن تنجو حقيقة. 
أنت تخوض غمار الطريق المقلق والبشع مرّة تلو المرّة من دون توقفٍ. لا تملك أي إشارة أنك ستصل إلى نهايةٍ ما. تشعر فقط أن تلك النهاية هي نهايتُك أنت. النهاية الوحيدة التي يمكن أن يتمخّض عنها ذلك كله هو نهايتك. وتفكّر في كل الذين ذهبوا كأن الحرب انتهت بالنسبة له. وتفكّر أنهم لا بد سعداء الآن في فردوسهم يرفلون بالنعيم، وتفكر أنهم على الأقل ارتاحوا قليلاً من عبء التفكير في الموت والتحموا به وصاروا جزءاً منه، وتفكّر أنهم فازوا، ولو قليلاً، ببعض الطمأنينة. ثم تفكّر كيف أن الطائرات تلاحق الأموات فتقصف المقابر. وتتذكّر أبو صياح، حفّار القبور في مقبرة بيت لاهيا الذي كنتَ تتحدّث إليه قبل أسابيع عن تجهيز قبورٍ لمن ذهبوا خلال الغارة على أحد بيوت العائلة. كان يحمل أدوات الحفر ويُزيح عرقه عن جبينه، وهو يواصل عمله في إيجاد بيوتٍ في جوف الأرض للأموات. المقبرة مليئة، وبالكاد يجد متسعاً هنا أو هناك بين قبريْن أو بين صفٍّ من القبور لإيجاد مكانٍ يليق بإكرام الميّت. ثم لقلة الإسمنت، وتعذّر العمل على "صبّ" بلاطاتٍ تغطّي القبور، يُحضِر ألوح الزينكو ويقوّيها بألواح خشبية حتى تكون غطاءً يحمي أهل القبول من ضوضاء سكّان الأرض.

الصورة
البريج
يحاولون في مخيم البريج إنقاذ عالقين تحت أنقاض مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي (2/11/2023/الأناضول)

تفكّر أن حفّار القبور الآن بحاجةٍ لمن يحفر له قبره. بحاجةٍ لمن يبنى له بيته الأبدي في جوف الأرض، ولمن يجد ما يليق من غطاءٍ يحميه من دبيب أقدامنا نحن الأحياء، وإزعاجنا ونحن نلهث خلف الحياة. تفكّر أن أهل القبور قد أصابتهم الشظايا وهم في نومهم الأبدي. لم يريدوا أن يكونوا جزءاً من هذا الاحتفال، لكن صخب الحياة القاسية وإيقاعها جعلا موتهم وحياتنا واحدا، وأقلقا هدوء موتهم الصاخب أيضاً. تفكّر أن تلك الشظايا التي أصابت جثامينهم التي تتحضّر لرحلة الخلود في الفردوس كانت إشارةً إلى أن القاتل لا يفكّر إلا في القتل، حتى لو قُتل الأموات أيضاً. هل يموت الميّت بعد موته؟ لا أحد يعرف ما الموت، وأنت لا تعرف تحديداً، لكننا كلنا يعرف ما الفقد وما الوجع وما الألم الذي نحسّه ونحن نفكّر فيمن ذهب فجأة. وتفكّر هل يكون موت أحدهم غير مفاجئ. 
في النهاية، كلّ من يموت يموت فجأة، حتى لو كان مصاباً بكل أمراض الأرض. وتفكّر كيف يمكن لصديقك أدهم الذي ظل يئن في الغرفة الليلة، وهو يفكر في ابنه عبد الفتاح الذي قرّر لمصادفةٍ لا يعرفها أن يبيت قبل ليلتين في بيت جدّته حين أخذته القذيفة من هناك إلى العالم الآخر. كنتَ تسمع أنينه، وتعرف أن كل قواميس اللغات لا يمكن لها أن تقنعه أن ابنه ذهب ولن يعود، وأن عليه أن يبدأ في التفكير في أن الحياة ستستمرّ. ثم تفكّر لماذا عليها أن تستمرّ على جراحه، فيما القاتل ينعم بحفلة شواء وشربٍ على شاطئ البحر أو في ظلال واحةٍ في الصحراء.

تفكّر وأنت تشرب القهوة الآن كم مرّة سيخطئك الموت، أو كم مرّة سيعطيك فرصةً أخرى

وتفكّر وأنت تشرب القهوة الآن كم مرّة سيخطئك الموت، أو كم مرّة سيعطيك فرصةً أخرى. سيأتي وقتٌ يملّ منك ويملّ من منحك كل تلك الفرص والمفازات، ثم تصبح، بالنسبة له، مجرّد رقم آخر، الملعون الذي يسب عليه العالم فليسبوا عليه مرة أخرى لأنه أخذك. وتفكر أنه لا يمكن أن يكون لطيفاً وأنيقاً لهذه الدرجة. ثم تنظر إلى ملابسك التي مرّ شهر، والقميص الزهري والبلوزة الزرقاء ذاتها وبنطال الجينز نفسه تتناوب على جسدك، يلتصقون به من كثرة العرق والرطوبة وقلة التهوية، وتسأل نفسك: هل هكذا كنت ترغب أن تموت لو قدر لك أن تختار؟ في اليوم الثاني للحرب، حين كاد عامل الفندق أن يخلع باب الغرفة وهو يطلب الإخلاء لأن المكان سيتم قصفُه، فكّرت أن تحلق ذقنك وتلبس بدلتك التي كانت معلقة في الخزانة هناك (لا تعرف أين هي الآن أو أين رميتَها) وتتعطّر ثم تخرُج، فإذا أصابتك القذيفة متّ أنيقاً. الآن، لا أحد يفكّر كيف يموت، ولا وقت لأحد لأن يستعد لموته. ليس للموت من طقوسٍ، فلا عائلة تلتفّ حول السرير تتبادل معك نظرات العيون، ولمسات اليد والذكريات السابحة في سحبٍ فوقكم. لا دموع تسقط عزيزةً على الخدود ولا نداءات واستغاثات للموت أن يبطئ قليلاً قبل أن يأخذ روحك، ولا أحد يمسح جبينك بالماء البارد، ولا طبيب يمدّ يده في قاع بئر العالم الآخر، يحاول أن يخفّف من سقوطٍ مروّع فيه. قد تموت الآن، وقد تكون فعلاً متّ الآن، وقد لا يعرف أحد أنك ميّت أصلاً، وقد يمرّ زمن قبل أن يكتشفوا أجزاء من جسدك مقطّعة، وقد لا يعرفون أنها لك.
مساء أمس، حين استهدفت الطائرات مدرسة أسامة بن زيد في منطقة الصفطاوي، كان يصعب التعرّف على الشهداء، لكثرتهم ولتداخل قطع أجسادهم وتمازجها، فلا أحد يعرف هذه اليد لمن وهذه الرِّجل لمن، ولا هذا الجزء من الوجه يمكن لصقُه في أي جزءٍ آخر، حتى يصنعا وجها يمكن التعرّف عليه. كان الأمر يشبه لعبة التراكيب، لكن هذه اللعبة لم يخترعها أحد، ولا منطق فيها، ولا طريق من أجل إعادة الوجوه والأجساد إلى ما كانت عليه. تقع المدرسة في الحيّ الذي تسكن فيه. كان ولداك، نعيم وياسر عرفات، يدرسان فيها. أمس، حين مررتَ من جوارها، تبادلتَ التحية مع مجموعة الرجال الذين يجلسون على كراسي بلاستيكية أمام المدرسة. حتى إنك استغربت أن تضمّ المدرسة نازحين، ففي الحرب السابقة لم ينزح إليها أحد، إذ عادة الناس أن تذهب إلى المدارس التي تديرها وكالة الغوث، لظنّهم أن علم الأمم المتحدة الممزوج بكنبتهم يمكن أن يوفّر لهم حماية.

المدارس كما المستشفيات كما المساجد كما الكنائس كما الجامعات كما المراكز الثقافية كما المؤسّسات والمكتبات، كلها أهدافٌ ثمينة للجنرال الذي قرّر أن نفنى

لم تذهب لتفقّد شقتّك المجاورة للمدرسة منذ ثلاثة أيام. بدا الأمر خطراً. في المرّة الأخيرة، كنت وحدك في البناية، إذ غادر الجميع خوفاً من أرتال الدبّابات التي تتقدّم من الغرب، ولا يفصلها عن البناية إلا الشارع الذي تقف فيه، شارع البحر. بدت المدرسة وأنت تمر بجوارها صاخبة، وبدا الرجال الذين يناقشون مصيرهم ومستقبلهم، من خلال الحديث عن رغبات القاتل وتوقيت ساعة يدِه، متعبين غير قادرين على الجلوس بشكل مناسب في عين الشمس، فيصيبهم قسطٌ من دفئها قبل أن تشتعل لهباً. وفي الليل، اشتعل القصف في المدرسة، وتمزّقت أجساد الأطفال والنسوة والشيوخ والرجال. لم يبق شيء. فقط قطع لحم متناثر وعظام تتطاير كلعناتٍ محمومة. لم يتمكّن رجال الإسعاف من فعل شيء إلا أن يلملموا الأشلاء، ويقرّروا أنها ستظلّ أشلاءً لكل ما يتم فقده من الموجودين. 
ثمّة ألمٌ لا يمكن لأحد أن يفسّره، ولا أن يقدّم تحليلاً لكنهه. أنت تصرُخ وغيرُك يصرُخ، أنت تتوجّع والكلّ يتوجّع. لكن ذلك كله لا يخفّف من الأمر شيئا ولا يغيّر فيه. الآن، عليك أن تتظاهر أنك تستمتع بشرب قهوتك التي حضّرتها وأنت تجلس في بيت الصحافة. ظهرُك يؤلمك من النوم المتواصل على فرشةٍ رقيقةٍ على الأرض، ووجهك يبدو متعباً من قلة النوم. ثم تسأل نفسك: هل حقّاً تنام؟ ثم كأنك تسأل: وكيف يكون النوم؟ ثم تقرّر أن نومك وصحوك واحدٌ لا فرقَ بينهما. تفكّر فيما تنظر أن يفور الماء أنّ عليك أن تسارع لوضع القهوة في الماء، فلا وقت لمزيدٍ من الوقت، ولا حاجة لأن تغلي بشكل كامل لأن "جرّة" الغاز إن فرغت لن تجد مكاناً لتعبئتها مرّة أخرى، وستعيش ما تبقى لك بدون غاز وبدون قهوة وبدون أي شيء يحتاج للطهو. 
كان قصف المدرسة ليلة أمس مروّعاً. تبعثر عشرات الشهداء أشلاء في الصفوف التي كانت تحمل ذكرياتٍ عن تلاميذ يقرأون قصيدة لإبراهيم طوقان، أو درساً في العلوم عن ابن سينا. المدارس كما المستشفيات كما المساجد كما الكنائس كما الجامعات كما المراكز الثقافية كما المؤسّسات والمكتبات، كلها أهدافٌ ثمينة للجنرال الذي قرّر أن نفنى، وأن نتحوّل خلف أكمة التاريخ لنختفي، لأنها كلها علامات الحياة، وهو لا يريدنا أحياء. في الليل نفسه، تفكّر كيف قصفوا المدرسة بجوار المستشفى الأندونيسي، وكيف كان الموت أقرب لمن هم يحتضرون في المستشفى، كأنّه يسمعهم خطواته القاسية على إسفلت الطريق القصير الذي يفصل المدرسة عن المستشفى. كأنه يقول لهم: لم أخطئكم. فقط، تأخرت لبعض أشغال أخرى، وسأصل إليكم. في الحرب السابقة عام 2014، تعرّضت مدارسُ كثيرة للقصف، والمدرسة التي حدثت فيها مذبحة رهيبة في ذلك الوقت، مدرسة أبو حسين، تعرّضت قبل ثلاثة أيام لمذبحة أخرى. ذاكرتنا مذابح ومآس، وغرف الفرح والسعادة فيها تطلّ بحياءٍ من شرفاتٍ ملطّخة بالدم.

الصورة
آثار دمار ودخان يتصاعد في غزة إثر قصف إسرائيلي (5/11/2023/الأناضول)

تفكّر أن الموت يوم أمس حين كنت تقف في محيط بوابة مستشفى الشفاء قد أعطاك فرصةً أخرى. انتهيت من زيارة وسام، ونزلت حتى تذهب إلى المخيم للمبيت هناك. وقفتَ قليلاً مع صديق شاب في مدخل المستشفى. كانت سيارات الإسعاف تتأهب لمغادرة قسم الطوارئ، وكان الممرّضون مشغولين في تجهيز من سيتم نقلهم إلى الجنوب باتجاه معبر رفح. كان الحديث عن السلامة وضرورة توخّي الحذر والدعاء المتبادل والوعود المقطوعة التي يجب تحقيقها بعد انتهاء الحرب، ثم سرتُ باتجاه السيارة. وقفتُ مع محمد المقيد. لم أكن قد رأيته منذ أكثر من أسبوع، فهو دائم الانشغال مع زوجته التي ترقد في المستشفى في انتظار العلاج، وأطفاله الذين صاروا يبيتون في ممرّات المستشفى ليكونوا قريبين من أمهم، بعد أن لم يعد البيت آمناً. وقفتُ عشر دقائق. مساحات الذكريات واسعة ومسارات الحديث متشعّبة. كنتما تقفان على فم شارع الوحدة الذي يبدأ من بوابة المستشفى حين سقط الصاروخ وانفجر على بعد ستة أو ثمانية أمتار منكما. امتلأ المكان بالصراخ والعويل. ركضت. ركض ابنُك ياسر. ركض أخوك محمّد. دخل محمّد صديقك في المسجد المقابل. سأل محمّد لو كان حزاماً نارياً يجب أن نسرع لنتجاوز التقاطع القادم، لأن الحزام الناري يغلق المكان في الاتجاهات الأربعة، ثم يقضي على من في المنتصف. قلتُ إن أفضل شيء أن نبقى في المنتصف. قال في الحالتين نموت، أفضل أن نحاول أن نخرج من نطاق القصف. ركضتم. لم يسقط صاروخٌ آخر. لكنكم تجاوزتم القطاع التالي، ثم ركبتم السيارة وانطلقتم بسرعة الريح. ستعرف بعد ذلك أن قرابة 16 ممن كانوا مثلك يقفون قرب بوابة المستشفى قد خطفهم الموت. كان يمكن أن تكون منهم، وأن تكون رقماً آخر في قائمة طويلة قد تصل إلى عشرة آلاف بعد ساعات، أو لعلها وصلت الآن وأنت تفكّر في تلك الكلمات التي تكتبها، والتي تحاول أن تجعل منك أكثر من مجرّد رقم جديد، أو حكاية ألم جديدة أو عذاب آخر.
في الليل، تعود الأشياء إلى مكانها الطبيعي، حيث الخوف يملأ القلوب، والثرثرة الجانبية مع الأصدقاء في الحارة ليست إلا تخفيفا وهروبا من التفكير فيه. ذهبت كالعادة وفق الروتين الذي صار نمط حياتك لزيارة بيت عمّك، والحديث قليلاً مع حماتك، ثم الجلوس في الشارع أمام بيتهم قرب مدارس الإيواء المجاورة لهم، والدردشة مع أبناء عمومتك، وتناول القهوة، ثم إذا جنّ الليل وأكمل إسدال ستارته تذهب إلى بيت والدك، فتجلس معه نصف ساعة، تتحدّثان في أشياء تبدأ بالذكريات، وتنتهي بالقلق مما يجري، ثم تمشي نحو شارع الحارة، حيث جلسة الأصدقاء اليومية، لنصف ساعة أخرى، كأنك تواصل حديثاً من يوم أمس، ثم تصعد إلى منزل فرج. تعرف أنك لم تأكل منذ الصباح، وأنك لم تتمكّن من إيجاد خبز، وأن عليك أن تبتدع ما يشغل العصافير التي تتصارع في بطنك، تريد أن تأكل. تغلي حبّات المعكرونة وتأكلها بدون أي إضافات. في مثل هذا الحال، تبدو وجبة شهية، إذ لا شهوة لك في شيء. لذا تتساوى كل ظروف الحياة، وتخضع لشروط بقائك واستمرارك.

تفكّر أن الموت يوم أمس حين كنت تقف في محيط بوابة مستشفى الشفاء قد أعطاك فرصةً أخرى

ثم تفكّر كيف يمكن للحياة أن تكون لو لم تتوفر لك هذه الوجبة الشهية، لتأكلها في الهزيع الأول من الليل، وكيف يمكن لها أن تكون لو توقّف القصف، لو لم يعد طنين الزنّانة هو موسيقى فيلم الرعب الذي تعيشه، لو لم تعد الصواريخ تمزّق أحشاء الأرض، وتبيد البيوت وتحوّلها إلى تراب فوق ساكنيها، ولو لم تعُد تفكّر بالموت، ولو لم تفكّر في ربطة الخبز وماء الشرب. تفكّر هل ستكون حياة أصلا لو لم يعد ذلك كله؟ حقيقة، لا تعرف، لكنك تعرف أن ما تعيشه أيضاً حياة. وحياة باتت الشيء الوحيد المتوفر لك، وباتت هي الحياة الوحيدة التي تعرفها جيدا، كأنك نسيت ما سواها ولم تعد تقدِر إلا أن تكون جزءاً من تلك المنظومة التي تعمل وفق توقيت الجنرالات، وهم يعدّون أنفاسك ويحسبون نبضات قلبك.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون