لهجة تصالحية لعبد الفتاح لبرهان: هروب للأمام وسط خلافات داخل معسكر الانقلاب

17 ابريل 2022
خلال تظاهرة في الخرطوم ضد الانقلاب العسكري (فرانس برس)
+ الخط -

بعد نحو 6 أشهر من انقلابه العسكري في السودان، يمضي رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان في تغيير خطابه، وبعث رسائل في أكثر من اتجاه بما في ذلك التعهد بتقديم تنازلات تصل إلى حد التنحي.

ففي خطاب له، أول من أمس الجمعة، وعلى مائدة رمضانية دعا لها عضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطا في منزله، حضرها عدد من أعضاء المجلس ووزراء وقادة أحزاب سياسية، أقر البرهان بفشل الجميع في إدارة الفترة الانتقالية وعجزهم عن تحقيق تطلعات الشعب.

وعدّد البرهان المشكلات التي تواجها البلاد حالياً؛ من معاناة اقتصادية وصراعات قبلية وتفلّتات أمنية، قائلاً إن هذه المشكلات "تحتاج إلى الجميع لإيجاد معالجات لها". لذا جاءت دعوته للأحزاب السياسية ولجان المقاومة "لتقديم تنازلات، وتغليب المصلحة الوطنية من أجل تحقيق التراضي الوطني"، متحدثاً عن "استعداد الجيش للتنحي وتسليم السلطة للمدنيين حال حدوث توافق بين القوى السياسية".

تحدث البرهان عن استعداد الجيش للتنحي حال حدوث توافق سياسي

ويطرح ذلك تساؤلات حول توقيت هذه الرسائل، وما إذا كانت نتيجة الأزمات والضغوط التي تحاصر السودان، أم أنها مجرد مناورة جديدة هدفها الأساس رمي الكرة في ملعب المعارضة وتحميلها المسؤولية، أو أنها ترتبط بالخلافات التي بدأت تظهر للعلن بين شركاء الانقلاب.

وانقلب قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وجمّد العمل بالوثيقة الدستورية، وأطاح شريكه الأول في الحكم "قوى إعلان الحرية والتغيير" وأودع الكثير من قادتها في السجون. وقد أكد في عزّ انقلابه أن الجيش السوداني "لن يسلم السلطة مرة أخرى للمدنيين، إلا بعد إجراء انتخابات".

وبعد أسابيع من الانقلاب، وتحت الضغط الشعبي الرافض لهذا الانقلاب والعزلة الدولية، أعاد البرهان حمدوك لرئاسة الوزراء في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لكن الخطوة لم تخفف الضغوط الشعبية، حتى اضطر حمدوك للاستقالة في مطلع العام الحالي.

وبعد ذلك، فشل الانقلاب في تكوين حكومة جديدة، فيما استمر الحراك الثوري، وزادت الأوضاع الاقتصادية تعقيداً، كما تضاعفت وتيرة التفلتات الأمنية داخل العاصمة الخرطوم، ليبدأ بعد ذلك يظهر تغيير في خطاب البرهان؛ تارة بدعوته للحوار الوطني وتارة أخرى بالإعلان عن استعداد الجيش للتنحي إذا حدث توافق.

تفسيرات عدة لتنازلات عبد الفتاح البرهان

وفي خطابه الأخير أول من أمس الجمعة، بدت الرغبة لدى البرهان في تقديم تنازلات أكثر وضوحاً، متحدثاً عن أنه يريد للمرحلة الانتقالية أن تمر بسلام وتوافق وتراض بين الجميع.

وأكد "أهمية السعي للبحث عن الطريقة المثلى التي يتم بها إكمال ما تبقى من الفترة الانتقالية، إلى حين قيام انتخابات حرة ونزيهة يختار فيها المواطن من يحكمه عبر التداول السلمي للسلطة".

وأعلن البرهان عن ترحيبه بـ"المبادرات الوفاقية"، وأكد أن "القوات المسلحة ليس لديها مانع في قبول أي مبادرة، وقبول أي نتائج توافقية"، معلناً "استعداد الجيش للتنحي وتسليم السلطة للمدنيين حال حدوث توافق بين القوى السياسية".

ولمزيد من الطمأنة، قال البرهان إن قراراً سيصدر بالإفراج عن المعتقلين السياسيين "ليكونوا طلقاء خلال يومين أو ثلاثة، لتهيئة المناخ للحوار وليساهموا مع الآخرين في تحقيق الوفاق". كما أعلن عن أوامر منه للأجهزة المختصة بمراجعة حالة الطوارئ والإبقاء على بعض البنود المتعلقة بالأمن الوطني والاقتصاد.

ويمثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارئ ووقف العنف ضد التظاهرات السلمية، مطالب رئيسية لـ"قوى إعلان الحرية والتغيير"، للدخول في حوار مع العسكر بموجب مبادرة بعثة الأمم المتحدة لحل الأزمة السودانية، ومبادرات وطنية أخرى في مقدمتها مبادرة "الجبهة الثورية" الشريك الرئيس في الحكم الحالي.

وتجد الاستعدادات الواضحة والصريحة من البرهان لتقديم تنازلات، أكثر من تفسير؛ منها وصوله إلى قناعة بانسداد الأفق السياسي والاقتصادي ما بعد الانقلاب، وإخفاقه وفريقه في تسويق الانقلاب داخلياً وخارجياً، وصعوبة تشكيل أي مؤسسات انتقالية في ظل تعقيدات المشهد السياسي.

كما أنه، وفق تفسيرات أخرى، يعمد إلى اللعب على حبال الخلافات في صفوف المعارضة المنقسمة أصلاً إلى فريقين؛ الأول يقوده بطريقة أو بأخرى الحزب الشيوعي و"تجمع المهنيين السودانيين" ولجان المقاومة، وهو يرفض أي تقارب مع العسكر ويدعو لاجتثاثهم كلياً من العملية السياسية. ويتحفظ هذا الفريق حتى على "قوى الحرية والتغيير" التي تشكل الفريق الآخر، وشاركت العسكر في الحكم خلال السنتين الماضيتين.

لم يعد الحديث سراً عن الخلافات بين البرهان وحميدتي

خلافات داخل معسكر الانقلاب في السودان

كما يتردد تفسير آخر يتعلق ببروز تناقضات داخل معسكر الانقلاب نفسه، والمشكّل من الجيش وقوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، إضافة إلى حركات سياسية مسلحة وقعت اتفاق سلام مع الحكومة في عام 2020.

فخلال الأيام الماضية، لم يعد الحديث سراً عن الخلافات بين البرهان ونائبه حميدتي، وكذلك بين الأخير وعضو آخر بمجلس السيادة هو أبو القاسم برطم. والأخير هو أحد أعضاء المجلس المحسوبين على البرهان، وتم تعيينه العام الماضي على أساس تمثيله شمال السودان، وهو واحد من أبرز أنصار التطبيع مع إسرائيل.

كما انتخب البرطم أثناء حكم الرئيس المعزول عمر البشير عضواً مستقلاً في البرلمان السوداني. وبحسب بعض التسريبات التي تتداولها مواقع إخبارية سودانية، فإن الخلاف بين برطم وحميدتي سببه الأساسي تعيينات جديدة في مؤسسات الدولة؛ يسعى كل طرف لأن تكون من معسكره، وتعد هذه التعيينات جزءاً من الخلافات الكبيرة وسط الانقلابيين.

وكثير من المعلومات والتسريبات تؤكد أن ثمة معارك داخلية مؤجلة بين الانقلابيين أنفسهم. ومن أكبر المؤشرات على الخلاف والتباين هو مسألة عدم الاجتماع في إفطار رمضاني واحد، فضلاً عن الرسائل المتناقضة خلال المشاركة في تلك المناسبات.

ففي اللحظة التي كان يتشارك فيها البرهان المائدة مع الفريق ياسر العطا، ويقدم خطابه المهادن للخصوم في "قوى الحرية والتغيير"، كان حميدتي يتشارك إفطاراً رمضانياً آخر مع مجموعة شبابية ويوجه خطاباً مغايراً وحاداً تجاه "الحرية والتغيير"، ويضع رسائل في بريد جهات أخرى بما في ذلك في مجلس السيادة، حين اتهم مجموعات، لم يسمها، بإعاقة حركته في العمل من أجل حلحلة المشكلات الخدمية للمواطنين، تماماً كما وضعت له العراقيل خلال الفترة الانتقالية قبل الانقلاب، على حد زعمه.

ومع كل تلك الوقائع، يمكن تفسير خطاب البرهان الأخير على أنه محاولة لاستقطاب أطراف جديدة للمعركة المنتظرة أو على الأقل تحييدها منذ الآن.

وحتى التقارب الحاصل بين البرهان ومجموعة من نظام البشير، والذي أفضى أخيراً إلى إطلاق سراح بعض رموز ذلك النظام والسماح لهم بإقامة نشاطات سياسية مفتوحة، على الرغم من قانون حظر نشاط الحزب الحاكم سابقاً (المؤتمر الوطني) وحله، ليس بعيداً عن حسابات التناقضات الداخلية داخل الصف الانقلابي.

أسامة سعيد: مطلوب من الأطراف الأخرى مثل "قوى الحرية والتغيير"، إجراءات مماثلة لبناء الثقة

ترحيب ورفض لخطاب البرهان

في هذه الأثناء، وجدت اللهجة التصالحية للبرهان ترحيباً من أسامة سعيد، الناطق الرسمي باسم الجبهة الثورية، وهي تحالف لأحزاب وحركات مسلحة وقعت على اتفاق سلام مع الحكومة عام 2020، ولا تزال تحتفظ بمناصبها على مستوى مجلس الوزراء ومجلس السيادة، وتقدمت بمبادرة في الأيام الماضية لإنهاء الأزمة.

وقال سعيد، في حديث مع "العربي الجديد"، إن ما صدر عن البرهان "يعدّ بادرة حسن نيات من جانبه، خصوصاً في ما يتعلق بإعلانه عن إجراءات لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارئ". واعتبر أن تلك الخطوة "مهمة جداً وحددتها الجبهة الثورية في مبادرتها وخريطة طريقها لحل الأزمة، وذلك لتهيئة مناخ الحوار بين الفرقاء السياسيين".

ورأى سعيد أن المطلوب من الأطراف الأخرى مثل "قوى الحرية والتغيير"، "إجراءات مماثلة لبناء الثقة من جديد وتهيئة مناخ الحوار، ولا سيما القبول بالحوار مع العسكر ووقف خطاب التجييش ضد المكون العسكري". وأكد أنه إذا حدث ذلك "فإن الطريق سيكون ممهداً لتفاوض مباشر بين كل الأطراف لإيجاد مخرج حقيقي للأزمة".

وحول الرفض المسبق من قبل أحزاب سياسية ولجان المقاومة لمبادرة "الجبهة الثورية" وقبلها مبادرة رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيرتس، على مبدأ "لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية مع العسكر"، قال سعيد إن الجبهة "بدأت حملة تواصل مع كل القوى الحيّة وفي مقدمتها لجان المقاومة السودانية". وحذر المتحدث نفسه من رفض الحوار "لأن ذلك يفتح الطريق أمام عودة النظام البائد وأساليبه الشمولية".

من جهته، قال الأمين العام لحزب الأمة القومي، الواثق البرير، إن حزبه "سيعقد اجتماعاً خلال الساعات المقبلة، لمناقشة ما جاء في خطاب البرهان وسيصدر بياناً للتعليق عليه". لكن البرير أكد في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "من حيث المبدأ، فإن خطاب البرهان يعد بالنسبة لنا خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح للوصول لحلول وفتح أفق جديد بعد حالة انسدادية طويلة".

وأشار إلى أن "إطلاق سراح المعتقلين وتعليق حالة الطوارئ ووقف العنف تجاه المواكب السلمية، أمر مطلوب ومهم في مسار إعادة الثقة". ورجح البرير "جلوس الأطراف السودانية على مائدة مستديرة تحت إشراف المسهلين الدوليين للنقاش والتحاور حول مستقبل العملية السياسية في البلاد، إذا ما تواصلت الأمور وفق التطورات الإيجابية الحاصلة حالياً"، معرباً عن أمله "بعدم حدوث أي عارض يلغي تلك التطورات الإيجابية".

عادل خلف الله: قوى الحرية والتغيير ماضية بثبات نحو تشكيل جبهة شعبية للديمقراطية والتغيير هدفها الأساسي هزيمة الانقلاب

لكن القيادي في "قوى إعلان الحرية والتغيير"، عادل خلف الله، لا يرى "جديداً يذكر في خطاب البرهان الرمضاني، والذي تكرر فيه منهج التنصل من المسؤولية وتقديم الوعود الفضفاضة".

واعتبر خلف الله في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الخطاب في مجمله اعتراف صريح بالفشل الذريع لانقلاب 25 أكتوبر". وأوضح أن "البرهان وعلى الرغم مما يظهره من رغبات في التنحي، فإنه متشبث بالسلطة ولا يريد تسليمها، ويظهر ذلك من خلال وضعه شروطاً مستحيلة للتنحي على شاكلة حدوث توافق بين الأحزاب السياسية".

ونبّه خلف الله إلى أنه "لا يمكن حدوث توافق على سبيل المثال بين قوى الثورة الحيّة المؤمنة بالمدنية والديمقراطية وأحزاب كانت جزءاً أصيلاً من نظام البشير، والآن شاركت في التخطيط والإخراج لانقلاب البرهان".

وأضاف خلف الله أن "الانقلاب غير راغب حقيقة في تسليم السلطة، إنما يتلاعب بالوقت، ويلعب على وتر التباين وسط القوى الثورية، ويستقوي بالعدو الصهيوني الذي بات مُهدِداً للانتقال الديمقراطي في السودان". وتابع "كما أن الانقلاب يسعى بجهد كبير لإعادة فلول النظام القديم إلى المشهد، فضلاً عن عمله على إلغاء كل قرارات لجنة إزالة تمكين النظام السابق".

وأشار المتحدث نفسه إلى "عدم نيّة تحالف الحرية والتغيير، للجلوس في أي مفاوضات مع العسكر"، نافياً بشدة "وجود أي تواصل بين الجانبين حالياً". وتابع "وحتى في ما يتصل بمسألة إطلاق سراح معتقلي الحرية والتغيير، فإن ذلك حق وليس مجال للمساومة السياسية".

وأكد خلف الله أن "الحرية والتغيير ماضية بثبات نحو تشكيل جبهة شعبية للديمقراطية والتغيير هدفها الأساسي هزيمة الانقلاب وإعادة عسكره للثكنات".

من جانبه، رأى القيادي في الحزب الشيوعي، كمال كرار، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "خطاب البرهان هو هروب للأمام من حال الفشل الاقتصادي والتردي الأمني والضياع الكلي".

واعتبر أن "ما يدعيه البرهان من تقديم تنازلات، يستشف منه وجود تسوية سياسية جديدة تطبخ على نار هادئة تعيد إنتاج الأزمة، وتعترف بالانقلاب وتشرعنه". وقال كرار إن "أي تسوية من رحم الانقلاب العسكري سيكون مصيرها مزبلة التاريخ"، مؤكداً "استمرار الحراك الثوري لحين هزيمة الانقلاب إلى الأبد".

المساهمون