قالت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، إن إشارات جديدة تلقتها القاهرة خلال الزيارة الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى باريس، ومن بعض القيادات الديمقراطية المقربة من دائرة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، أكدت أن القوى الأوروبية والولايات المتحدة لن تقبل بإيقاع أضرار بمصر أو السودان بسبب سد النهضة الإثيوبي. كما عرضت الاستعداد لاتخاذ خطوات جديدة خلال الشتاء الحالي، لتقديم رؤى وسيطة مغايرة لما هو مطروح الآن على طاولة المفاوضات المتعثرة برعاية الاتحاد الأفريقي.
وقال بيان حكومي في السودان، أمس الأحد، إن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، اتفق مع نظيره الإثيوبي آبي أحمد، على استئناف مفاوضات سد النهضة الأسبوع المقبل، دون الدخول في أي تفاصيل أخرى.
وأضافت المصادر الدبلوماسية المصرية أن مسؤولين في الرئاسة والخارجية والاستخبارات الفرنسية أكدوا لنظرائهم المصريين استعداد باريس، وعواصم غربية أخرى، للانخراط في تقديم حلول فنية، على ضوء خبرات أوروبية سابقة في التعامل مع قضايا الأنهار المشتركة، خاصة في حالات النزاع، التي نشبت بين بعض دول الكتلة الشرقية السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وليس فقط في صورة مشاركة الاتحاد الأوروبي كمراقب للمفاوضات، ولكن أيضاً بمشاركة الدول الأوروبية ذاتها.
استطاعت إثيوبيا إبقاء النزاع محصوراً برعاية الاتحاد الأفريقي
وأشار المسؤولون في هذا الصدد إلى أن فرنسا تحديداً تتمتع بمصداقية عالية لدى الحكومة الإثيوبية، كونها إحدى الدول التي شارك مستثمروها في إنشاء السد، ولكنها في الوقت ذاته لا تتصور أن يعود العمل بأي ضرر على مصر، وفقاً للحديث الذي "كانت له صبغة إيجابية أكثر من أي وقت مضى" بحسب المصادر المصرية. وقارنت المصادر بين لهجة المسؤولين الفرنسيين خلال هذه الزيارة، ومواقفهم المحايدة سلبياً سابقاً، عندما كانت مصر تُطلعهم على تطورات العمل بالسد، وتطلب منهم التدخل لوقف العمل به من خلال الضغط على الشركات الفرنسية. حيث أبلغوا الخارجية المصرية وقتها مراراً بأن الحكومة لا تستطيع الضغط على المستثمرين بهذه الصورة.
وحول إمكانية اللجوء لمجلس الأمن مرة أخرى لبحث حل جديد للقضية، خاصة مع تلويح السودان باحتمال لجوئه لما وصفه مصدر بالحكومة "تدويل القضية في حالة استمرار تعثر المفاوضات بسبب إصرار كل من مصر وإثيوبيا على موقفهما"، قالت المصادر المصرية إن المسؤولين الفرنسيين نصحوا بعدم اتخاذ هذه الخطوة. ويأتي ذلك من واقع خبرتهم الخاصة، عندما فشلوا في توفيق وجهات النظر بين واشنطن وبكين لإصدار بيان يطالب بعدم اتخاذ أي خطوات أحادية، في إشارة لضرورة امتناع أديس أبابا عن ملء السد للمرة الأولى قبل التوصل إلى اتفاق. الأمر الذي لم يتم، وأفشل المساعي المصرية التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، بل وألقى بالملف في جعبة الاتحاد الأفريقي، الذي سمحت وتيرة المفاوضات التي يرعاها لإثيوبيا بإتمام عملية الملء الأول للسد دون إخطار مسبق.
وفي ذلك الوقت، كانت مصر تسعى، مدعومة من الولايات المتحدة، لطرح مشروع قرار يتضمن ثلاثة أقسام، الأول يؤكد على دعوة كل من مصر وإثيوبيا والسودان إلى استئناف المفاوضات الفنية للتوصل إلى اتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بشكل مستدام، يضمن مصالح الجميع ويمنع إلحاق الضرر بأي طرف. والقسم الثاني، يتضمن دعوة الدول إلى الالتزام بمبادئ القانون الدولي في حماية الحقوق المائية لجميع الدول المشاطئة للنيل الأزرق، وأن يكون الاتفاق منظماً لآلية دائمة لفض النزاعات التي قد تنشأ بين الأطراف. أما القسم الثالث، فيدعو جميع الأطراف -والمقصود بذلك إثيوبيا بالطبع- إلى عدم اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب بشأن السد إلا بعد التوصل إلى اتفاق.
وفي المقابل استطاعت إثيوبيا، مدعومة من الاتحاد الأفريقي، ودول أعضاء كالصين وجنوب أفريقيا، إبقاء النزاع محصوراً تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، بحجة أن المنظمات القارية هي الأجدر بالنظر في النزاعات الداخلية. وهي النقطة التي ركز عليها ممثل أديس أبابا في مجلس الأمن خلال جلسة الأمس، في طلبه عدم نظر الموضوع في مجلس الأمن. وفي سياق قريب، وخلال الاتصالات الجارية حالياً بين دبلوماسيين وقيادات استخباراتية مصرية مع دائرة بايدن، من خلال مجموعات ضغط وقيادات ديمقراطية مقربة، جاءت المؤشرات الخاصة بقضية سد النهضة تحديداً "إيجابية". وقد نقل الوسطاء تأكيد حرص إدارة بايدن على عدم الإضرار بمصر والسودان، واستعداد واشنطن للعب "دور جديد" في التوصل لحل يرضي جميع الأطراف.
مصر تريد أن تلتزم إدارة جو بايدن بالضغط على إثيوبيا لاحترام التعهدات السابقة
وأوضحت المصادر أن مصر ليست طامعة بعد رحيل الرئيس الخاسر دونالد ترامب، الذي كان له موقف مبدئي ضد إثيوبيا في سد النهضة، إلا في أن تلتزم الإدارة الجديدة للبيت الأبيض بالضغط على إثيوبيا لاحترام التعهدات السابقة، وخاصة اتفاق المبادئ الموقع عام 2015 -والذي تنازع إثيوبيا دولتي المصب في تفسير العديد من مواده- خاصة وأن العديد من مساعدي بايدن ومساعدي وزرائه من ذوي الأصول الأفريقية، وبعضهم كانت لهم مواقف معلنة مساندة لأديس أبابا. وأوضحت المصادر أن هذه المؤشرات الإيجابية من أوروبا والولايات المتحدة لن يكون لها أثر في الواقع قبل تولي بايدن الرئاسة في الأسبوع الأخير من الشهر المقبل، وهي تقريباً نفس الفترة التي ستتولى فيها الكونغو الديمقراطية رئاسة الاتحاد الأفريقي خلفاً لجنوب أفريقيا. وتعلق مصر على هذا الحدث أملها أيضاً، وأن تلعب العلاقات المتطورة في الآونة الأخيرة بين القاهرة وكينشاسا، على الصعيدين الاقتصادي والتنموي، دوراً في الضغط على أديس أبابا، إذا استمرت المفاوضات في مسارها الأفريقي، أو أن يدفعها ذلك إلى عدم الممانعة في دخول الدول الغربية أو الصين -التي سبق وعرضت وساطتها- للعب دور أكبر من مجرد المراقبة.
ويتضمن جدول التشغيل الخاص بالسد، والاتفاقات المبرمة مع عدد من الشركات الصينية والإيطالية المختصة بالإنشاءات، بتشغيل توربينين وردتهما الشركة الفرنسية "جي أو هيدرو فرانس" و5 وحدات لتوليد الطاقة، بتكلفة تصل إلى 62 مليون دولار، وذلك قبل منتصف العام المقبل. وسبق أن أبلغت إثيوبيا، في مايو/أيار الماضي، الدول الغربية بأنها لا ترى غضاضة في استكمال المفاوضات الفنية على أساس اتفاق المبادئ، دون أي إشارة لمفاوضات واشنطن، وترحب بتدخل "الدول والمنظمات الصديقة"، قبل أن تعود وتسعى لحصر المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي، وبحضور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمراقبين فقط. وتسبب هذا الأمر في تعطيل المسار التفاوضي واقتراب إفشاله، خاصة مع رفض القاهرة اللجوء لخبراء الاتحاد الأفريقي، لإعداد صياغات بديلة للاتفاق الذي رعته واشنطن ربيع العام الماضي، وامتنعت أديس أبابا والخرطوم عن التوقيع عليه.
وكشفت مصادر حكومية مصرية، لـ"العربي الجديد" في أغسطس/آب الماضي، عن اتفاقات وشيكة بين السيسي والقيادة الصينية، ومع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، كل على حدة، على مجموعة من القروض والمنح لعلاج آثار السد، حيث سيظل قسم كبير منها سرياً. وسيتم تخصيصها لمشاريع رفع كفاءة شبكة الري ومياه الشرب وتحسين استفادة مصر من كميات المياه الواردة إليها وتنقيتها، وجلب نظم حديثة لتحسين الجودة والتحلية والمعالجة، بقيمة إجمالية ستفوق 350 مليار جنيه مصري (22.2 مليار دولار)، تمثل النسبة الكبرى من مبلغ إجمالي قدره 430 مليار جنيه لتنفيذ جميع المشاريع الخاصة بهذا المجال خلال 10 سنوات. على أن يتم تمويل 50 ملياراً أخرى من النسبة الباقية من المساعدات والقروض الإماراتية والسعودية. ويتبقى نحو 30 مليار جنيه سيتم تمويلها عن طريق طرح بعض المشاريع ذات العائد من تلك الحزمة لدخول القطاع الخاص مع الشركات التابعة للقوات المسلحة.