جان لوك ميلانشون... غزة ترفع الرصيد السياسي لزعيم فرنسا غير الخاضعة

جان لوك ميلانشون... غزة ترفع الرصيد السياسي لزعيم "فرنسا غير الخاضعة"

22 مارس 2024
جان لوك ميلانشون بتظاهرة دعماً لغزة في جنيف، فبراير الماضي (فابريس كوفريني/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- جان لوك ميلانشون، زعيم "فرنسا غير الخاضعة"، يبرز بقدرته الفريدة على التأثير في النقاش العام وتحريك الشارع، خاصةً في قضايا محلية ودولية، معززًا مكانته خلال الحرب على غزة بموقف معارض لإسرائيل.
- يواجه ميلانشون اتهامات بالعداء للسامية بخطاب متماسك يعتبر الصراع بين فلسطين وإسرائيل استعماريًا لا دينيًا، مؤكدًا أن دعم إسرائيل هو دعم لسياسات نتنياهو الاستعمارية.
- تنامي شعبية ميلانشون وحزبه يعكس تحولًا في السياسة الفرنسية، مقدمًا كقوة سياسية رئيسية ضد اليمين المتطرف ومرشحًا قويًا في الانتخابات الرئاسية، مما يعكس تخوف الأطراف السياسية الأخرى من قوته.

يمثل زعيم حزب "فرنسا غير الخاضعة" جان لوك ميلانشون حالة فريدة ضمن النخبة السياسية الفرنسية، وهو الوحيد الذي لا يزال يتمتع بثقل شعبي، وقدرة على تحريك الشارع حول قضايا محلية وخارجية.

زاد رصيد ميلانشون سياسياً على نحو ملحوظ خلال حرب إسرائيل على غزة، حيث وقف منذ الأسبوع الأول في الخندق المواجه لإسرائيل، وساند غزة، وخاض معركة مفتوحة مع مؤيدي الحرب وخصوصاً من المسؤولين الفرنسيين.

أدرك جان لوك ميلانشون أن غزة ليست جولة عابرة في الحروب بين إسرائيل والفلسطينيين، بل ستتحول إلى القضية الأولى عالمياً، وستأخذ في فرنسا مكانة مهمة، نظراً إلى حدّة الاستقطابات، وتأثير اللوبيات المؤيدة لإسرائيل. 

غزة تتصدر أولويات حزب جان لوك ميلانشون

وعلى هذا الأساس، قفزت حرب غزة إلى المرتبة الأولى في أولويات حزب "فرنسا غير الخاضعة"، وباتت البوصلة التي تتحكم بتحركه على مستوى حراك الشارع، وداخل المؤسسات الرسمية، وفي وسائل الإعلام.

أدرك ميلانشون أن غزة ليست جولة عابرة في الحروب بين إسرائيل والفلسطينيين

كانت البداية من المعركة التي خاضها ميلانشون مع رئيسة مجلس النواب الفرنسي يائيل براون بيفيي، التي كانت أول من أطلق تصريحات تقول فيها إن فرنسا تؤيد إسرائيل. هبّ ميلانشون ليقول ليس باسم الفرنسيين، وأن براون بيفيي لا يحق لها أن تتخذ هذا الموقف الذي يظلّ من اختصاص رئيس الدولة، ووزير الخارجية.

استطاع جان لوك ميلانشون أن يفضح مسعى رئيسة البرلمان، التي قال إنها ذهبت إلى إسرائيل متنكرة في زيّ جندي، برفقة عضو البرلمان الصهيوني ماير حبيب، وزعيم اليمين التقليدي إيريك سيوتي، متنكرين بنفس الطريقة: الزيّ العسكري والسترة المضادة للرصاص. واعتبر أن ظهور هؤلاء بهذه الصورة، يعكس رغبة في إعطاء صورة للمشاركة العسكرية.

وتجرأ ميلانشون على أن يرفع الصوت عالياً: "ليس باسمنا، عندما نقوم بحملة من أجل وقف فوري لإطلاق النار"، وعكس مجرى النقاش، في فترة كان فيها صوت الترهيب عالياً، وأثّر ذلك على أصوات أخرى مثل رئيس الوزراء الأسبق دومينيك دوفيلبان.

بعد أن فضح مخطط رئيسة البرلمان لقيادة الرأي العام نحو دعم اسرائيل، خرجت في فرنسا تظاهرات تضامنية مع غزة، في حين أن هناك حالة من الخوف من الشعارات وإمكانية حصول تجاوزات. وما حصل هو العكس: ضبط للنفس وسخرية من الموقف العدائي الذي تتبناه رئيسة البرلمان وأعوانها.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

أراد جان لوك ميلانشون خلق حالة من الجدل كي لا تمر الدعوة لدعم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وتصويرها على أنها حالة من الانحطاط السياسي والأخلاقي، وأصبح تعبير "تخييم" (التخييم في تل أبيب) الذي استخدمه في وصف رئيسة البرلمان موضوعاً أساسياً في نشرات الأخبار، وانقلبت الآية. فبدلاً من إسكات المعارضين للحرب، صارت الكرة في ملعب أنصار إسرائيل.

واجه ميلانشون فوراً تهمة "العداء للسامية"، وحين جرى تنظيم تظاهرة في باريس لهذا الغرض، رفض أن يشارك فيها، واعتبرها مخالفة للشعار المرفوعة من أجله، بل من أجل تأييد اسرائيل.

لم يتمكن أنصار إسرائيل من محاكمة ميلانشون بتهمة "معاداة السامية"، وساجلهم على أكثر من منبر، ومنها من خلال مندوبيه في البرلمان، لتبيان أن استخدام هذا المصطلح يتم دون تمييز أو ضبط، من أجل شيطنة كل من يفكر بطريقة مختلفة عنهم. يتم إطلاق هذا العار على كل من لا يؤيد خط نتنياهو حتى على مسافة مليمتر.

لم يتمكن أنصار إسرائيل من محاكمة ميلانشون بتهمة معاداة السامية

وقال ميلانشون: "الوضع بين فلسطين وإسرائيل هو صراع استعماري، صراع على الأرض والحدود، وليس صراعاً دينياً. ومن 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى اليوم، هو تسلسل واحد. وإن رفض الانحياز إلى أحد طرفي الصراع لا يعني الحياد أو الوقوف على مسافة متساوية. إننا لا نشارك "الدعم غير المشروط لإسرائيل" الذي أعربت عنه رئيسة البرلمان الفرنسي، لحكومة نتنياهو. باسم التمثيل الوطني الفرنسي، ولم يفوضها أحد، خلافاً لادعاءاتها!".

جاهر جان لوك ميلانشون برأيه في أن "الدعم غير المشروط لإسرائيل"، لا يمكن أن يكون له أي معنى آخر، غير الدعم غير المشروط لسياسات نتنياهو. وتحدث عن الاختلاف مع تركيبة حكومته، ومع المبادئ السياسية التي يدافع عنها، ومع سياسته الاستعمارية.

"ليس باسمنا"

جعل ميلانشون من النقاش حول غزة فرنسياً داخلياً، ومرّت الأشهر الماضية من عمر الحرب عليه وعلى حزبه، بين كرّ وفر، وهو في قلب الحدث. ورغم حملات الترهيب الكثيرة، لم يتراجع، واستفاد على نحو كبير من التعاطف الشعبي الكبير الذي حظيت به غزة.

لعب تيار ميلانشون هذه الورقة بقوة، وشارك أنصاره والنواب المحسوبون عليه في الحراك الشعبي، ما أعطى التظاهرات والفعاليات التضامنية زخماً، وشجّع قطاعات كثيرة على كسر حاجز الخوف، والانخراط في التضامن.

قامت أطروحة ميلانشون على أن ما يحصل في غزة ليس دفاعاً عن النفس، كما تدعي إسرائيل، بل هو إبادة جماعية. وقد كان سبّاقاً إلى هذا التوصيف نتيجة إدراك لطبيعة أهداف إسرائيل، التي لم تتغير في كافة حروبها ضد القطاع.

لعب ميلانشون دوراً هاماً في توضيح نقاط عدة مهمة. الأولى هي محاولة تبييض سجل اليمين المتطرف من تهمة معاداة السامية. وهذه مسألة تاريخية وليست جديدة. ويعمل اليمين المتطرف على خلط الأوراق من خلال التحالف مع إسرائيل رغم تبنيه الفكر النازي، وذلك في مواجهة مع الهجرة العربية.

النقطة الثانية هي، مواجهة الخلط بين القضية الفلسطينية والتطرف والمنظمات الإرهابية مثل "داعش". وساجل تيار ميلانشون ضد الإسلاموفوبيا، وتبنى قضايا الهجرة من منظور الحقوق ومحاربة العنصرية والتمييز.

ساجل ميلانشون بأن فلسطين هي قضية تحرّر وطني في مواجهة استعمار استيطاني

منع زعيم حزب "فرنسا غير الخاضعة" سمّ العنصرية من الاستشراء بقوة. كل العنصرية: العنصرية ضد اليهود، العنصرية ضد العرب، العنصرية ضد المسلمين، كلّها. وشدد على ضرورة خوض هذه المعركة باعتبارها قضية سياسية وتوعية الناس على أساس أن العنصرية عملية أيديولوجية هدفها تقسيم فرنسا من أجل إضعافها، وإغراقها في نزاعات محلية، تستفيد منها أطراف خارجية، واليمين المتطرف.

أما النقطة الثالثة فهي أن فلسطين قضية تحرّر وطني في مواجهة استعمار استيطاني، يمثل آخر شكل من أشكال الأبارتهايد (الفصل العنصري)، وأن الحل يقوم على أساس وقف حرب الإبادة والاستيطان وحلّ الدولتين لشعبين.

وفي كافة مداخلاته وخطبه، كرّر ميلانشون الدفاع عن "الرغبة في تحرير المستعبدين والمستعمرين والبائسين في الأرض"، وأعاد صياغة عبارة (الزعيم الجنوب أفريقي الراحل) نيلسون مانديلا: "لن تكتمل حريتنا إلا عندما يتحرر الفلسطينيون".

الأولوية هي وقف الحرب على غزة. ومن ثم الاحتكام إلى القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة. وبالتالي لا يخوض ميلانشون معركة دونكيشوتية في الهواء الطلق، وقد حاز خطابه على تأييد واسع، وأدى إلى تنامي قوة الحركة التي يقودها.

ساهم موقفه في تغيير موقف فرنسا من حرب إسرائيل على غزة بدرجات مختلفة، وسار من الانحياز إلى تل أبيب باتجاه البحث عن نقطة توازن، ولم يقتصر الأمر على قوى المعارضة التي تدور في فلك ميلانشون، بل شمل حتى الوسط الرسمي، بما في ذلك موقف رئيس الدولة إيمانويل ماكرون.

تنامي قوة "فرنسا غير الخاضعة" يطرحها اليوم كقوة سياسية أولى في الساحة الفرنسية، وتكمن مصادر قوتها في عناصر عدة. العنصر الأول أنها كسبت في أوساط الهجرة بقوة، بفضل تبنيها شعار وقف حرب الإبادة على غزة. العنصر الثاني هو إفلاس القوى السياسية في اليمين واليسار التقليدي، وخروجها إلى الهامش، وتراجع تمثيلها في الشارع إلى حدود متدنية إلى حد كبير، ما ترك فراغاً سياسياً كبيراً.

العنصر الثالث فشل ماكرون في بناء تيار سياسي يقوم على خلطة يسارية يمينية، تقرب الحزبين التقليديين، الاشتراكي والجمهوري، من الوسط، وكانت النتيجة تفكيك الحزبين، وعدم نجاح مشروع بناء الحزب الجديد.

أما العنصر الرابع فهو إن حزب ميلانشون هو القوة السياسية الوحيدة التي تقف في مواجهة اليمين المتطرف الزاحف بقوة في غالبية بلدان القارة. ويعد حزب "فرنسا غير الخاضعة" صاحب مشروع اجتماعي سياسي اقتصادي، يقوم على كبح جماح العنصرية، وإعادة بناء الاقتصاد الفرنسي على أسس جديدة أهمها كاقتصاد دولة، بعد أن خضع لاهتزازات كبيرة، بسبب التوجهات الليبرالية في العقود الثلاثة الأخيرة.

يبدو تيار ميلانشون الوحيد القادر اليوم على تقديم مرشح رئاسي قوي، يحظى بتأييد واسع وذي كاريزما وحضور. ذلك أنه وجه يحظى بالتقدير في الأوساط كافة، رغم محاولات الشيطنة التي يقوم بها إعلام اليمين المتطرف، وذلك المؤيد لإسرائيل.

والأمر ذاته ينطبق على تقديم مرشحين للانتخابات التشريعية المقبلة. ويشكل فريق الحزب قوة برلمانية مهمة، وهي قابلة لأن تتسع، في ظل تنامي الحركة، وقد برهن خلال الفترة الماضية عن أنه يستطيع أن يشكل قوة، تغير المجرى العام للمؤسسة التشريعية.

قد تجرى الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة في مايو/أيار 2027 بين ميلانشون وزعيمة اليمين المتطرف الفرنسي (حزب التجمع اليميني)، مارين لوبان، وبحسب ما هو واضح لا تمتلك الأطراف السياسية الأخرى القدرة على تقديم مرشح قوي منافس. لا يمتلك ماكرون حقّ الترشح لولاية رئاسية ثالثة، ولا يبدو أن تياره يحظى بمرشح رئاسي قوي قادر على المنافسة، والأمر ذاته بالنسبة لليمين التقليدي، الذي بات تياراً مهلهلاً، يدور في فلك ماكرون، ولا يمتلك قراره المستقل.

يحوز ميلانشون الأفضلية على لوبان لأسباب كثيرة، وهي أن القطاع العريض من الشارع الفرنسي لا يصوت لليمين العنصري. والثاني هو أنه بنى شعبية كبيرة متعددة الاتجاهات. والثالث هو أن مؤيدي غزة سوف يصوتون له بالإجماع، وهذه كتلة مهمة تستطيع أن تغير المجرى العام.

هناك مؤشرات واضحة على المستوى الرسمي تعكس تخوفاً من قوة جان لوك ميلانشون المتنامية، ويظهر ذلك من خلال بعض المواقف الرسمية، التي تعمل على وضع حواجز في طريقه.

تحليلات
التحديثات الحية