لم تفض كل المحاولات التي قامت بها المعارضة السورية، على مدى 11 سنة، في تحقيق أي انفراج في الملف الأكثر حضوراً في المشهد السوري، وهو ملف المعتقلين والمغيّبين والمخفيين قسرياً لدى النظام، الذي يرفض مقاربة هذا الملف.
وتحمل وفود المعارضة السورية ملف المعتقلين معها في كل المحادثات والمفاوضات مع النظام، سواء في جنيف حيث مسار الأمم المتحدة التفاوضي، أو مسار أستانة، الذي يرعاه "الثلاثي الضامن" (تركيا وروسيا وإيران)، ولكن بلا جدوى. وكان هذا المسار أخذ على عاتقه التعامل مع هذا الملف، إلا أنه لم يحقق نتائج، ما خلا عمليات تبادل أسرى محدودة بين قوات النظام وفصائل المعارضة بين وقت وآخر.
ومنذ الأيام الأولى للثورة السورية، التي انطلقت منتصف آذار/ مارس 2011، انتهج النظام سياسة البطش بالمتظاهرين، من تصفيات في الشوارع والميادين إلى الاعتقال لدى الأجهزة الأمنية المتعددة. وعلى مدى سنوات الثورة، اعتقل النظام عشرات آلاف السوريين، بينهم آلاف النساء والأطفال وكبار السن، حيث لم يستثن أحداً، قتلاً واعتقالاً وتغييباً.
لم يجرِ التوصل لأرقام دقيقة عن المعتقلين والمخفيين قسرياً
وقبيل أيام من الذكرى 11 للثورة السورية، استذكر الناشطون والحقوقيون السوريون الطبيبة رانيا العباسي، التي اعتقلها النظام مع أطفالها الستة (خمس بنات وصبي)، بعد يومين من اعتقال والدهم في مارس 2013. ولم يُعرف مصير العائلة منذ ذلك الحين، رغم أن أكبر الأطفال كان عمره 14 سنة، وأصغرهم كان رضيعاً.
وتعد هذه القضية مؤشراً واضحاً على مصير المعتقلين لدى أجهزة النظام، حيث يُعتقد أن عدداً كبيراً منهم قتل تحت التعذيب على يد الأجهزة الأمنية التي حاولت القضاء على الثورة السورية.
وفي مطلع 2014 سُرّبت 55 ألف صورة توثق مقتل 11 ألف معتقل في سجون النظام السوري. وتبدو على جثثهم آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرح، وتكسير العظام والخنق، والأمراض المختلفة، من بينها الجرب، إلى جانب الغرغرينا. وبين القتلى فتيان تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاماً، ونساء وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 سنة.
المجتمع الدولي يكتفي باستنكار إعلامي
وكان من المتوقع أن تدفع هذه الصور الصادمة المجتمع الدولي للتحرك لإنقاذ عشرات آلاف المعتقلين لدى النظام، لكن هذا المجتمع اكتفى بـ "استنكار إعلامي"، وهو ما يدفع النظام إلى الاستمرار في نهجه القائم على الفتك بالسوريين.
ولم تتوصل المنظمات والشبكات الحقوقية إلى أرقام دقيقة عن المعتقلين والمخفيين قسرياً والمغيبين والمقتولين تحت التعذيب. فالأعداد كبيرة على مدى 11 سنة، ومن الصعوبة بمكان توثيق كل الحالات، خصوصاً أن الكثير من العائلات ترفض توثيق أسماء معتقليها لدى الشبكات الحقوقية، تفادياً لانتقام أجهزة النظام منها، أو من المعتقلين داخل السجون.
وأعلنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن حصيلة الاختفاء القسري من مارس 2011 وحتى أغسطس/آب 2021 على "يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة على سورية"، بلغت 102287، بينما حصيلة الاعتقال التعسفي من مارس 2011 وحتى مارس 2020 وصلت إلى 151462. وبيّنت الشبكة أن عدد القتلى تحت التعذيب من مارس 2011 وحتى مارس 2020 بلغ 14664، بينهم 181 طفلاً و93 امرأة.
أكثر القضايا إيلاماً
وقال مدير الشبكة فضل عبد الغني، لـ"العربي الجديد"، أن قضية المعتقلين والمغيّبين والمخفيين قسرياً في سورية من أكثر القضايا إيلاماً، مؤكداً أنه كارثة حلت بالسوريين. وأوضح أن 85 في المائة من المعتقلين والمخفيين والمغيبين مصيرهم مجهول، ولا نعرف عنهم شيئاً، وعائلاتهم تعيش في قلق وخوف منذ سنوات.
وبيّن عبد الغني أن عدد المعتقلين "كبير جداً مقارنة بعدد سكان سورية"، مضيفاً أن سورية هي الأسوأ في العالم على هذا الصعيد، وللأسف لا يوجد أي تقدم في هذا الملف على الإطلاق.
وقال: لم يحدث أي اختراق في هذا الملف المؤلم، والنظام ما يزال بلا محاسبة على جرائمه بحق ملايين السوريين، ولا توجد أي ضغوط على النظام وحلفائه للإفراج عن المعتقلين.
وأشار إلى أنه "يجب السماح للجنة الدولية للصليب الأحمر، باعتبارها جهة حيادية، بالدخول إلى مراكز الاحتجاز"، معتبراً أن على المجتمع الدولي الضغط على النظام بما يتناسب وحجم هذه الكارثة التي تعد جريمة ضد الإنسانية.
وكانت منظمة العفو الدولية وثقت، منتصف العام 2016، مقتل 17723 معتقلاً، أثناء احتجازهم في سجون النظام السوري، ما بين مارس 2011 وديسمبر/كانون الأول 2015، أي بمعدل 300 معتقل كل شهر. وفي تقرير، صدر بداية 2017، ذكرت المنظمة أن النظام نفذ إعدامات جماعية شنقاً بحق 13 ألف معتقل، أغلبهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015.
من جانبه، بيّن الباحث في مركز "الحوار السوري" للدراسات أحمد القربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الملف الحقوقي يؤرق النظام أكثر من أي ملف آخر، وأحد جوانب هذا الملف هم المعتقلون والمغيبون قسراً".
النظام تعامل مع ملف المعتقلين بطريقتين
وأشار إلى أن النظام "تعامل مع الملف بطريقتين، الأولى الدخول بصفقات تظهر المعارضة السورية وكأنها مشابهة للنظام في هذا الأمر". وأوضح أن الحديث عن تبادل معتقلين بين النظام والمعارضة، يعني أن الانتهاكات متساوية، والنظام كان حريصاً أن يكون عدد المفرج عنهم متساوياً بينه وبين الفصائل، ليعطي انطباعاً بأنه لا يعتقل أعداداً أكبر.
فضل عبد الغني: عدد المعتقلين كبير جداً مقارنة بعدد سكان سورية
وتابع القربي: الطريقة الثانية هي الإنكار التام لوجود معتقلين في سجونه، بل ذهب أبعد من ذلك، عندما حاول إدراج هذا الملف الإنساني ضمن ما يسمّيه "مكافحة الإرهاب". وأشار إلى أن النظام، ومنذ بدء الثورة، ربط كل شيء يهدده بقضية الإرهاب.
وأوضح القربي أن "النظام يرفض التعاطي والتعامل الإيجابي مع ملف المعتقلين والمغيّبين والمخفيين قسرياً، لخشيته من المحاسبة والمساءلة القانونية الدولية". وقال: "مارس النظام انتهاكات واسعة ضد حقوق الإنسان، وارتكب جرائم حرب في ملفّين، هما ملفا المعتقلين والمخفيين قسرياً، والقصف العشوائي للمدنيين بكل أنواع الأسلحة".
وأعرب القربي عن اعتقاده أن "عدداً كبيراً من المعتقلين قتلهم النظام تحت التعذيب، أو جرت عمليات تصفية واسعة النطاق لهم، وما سُرب من صور يؤكد ذلك". وأضاف: النظام يدرك أن التعاطي الإيجابي مع هذا الملف ينسف شرعيته. ملف المعتقلين هو الأكثر إيلاماً، وعلى المعارضة السورية التمسك به، وطرحه في كل المحافل الدولية، فهو الكفيل بمنع إعادة تعويم نظام بشار الأسد.