القضية الفلسطينية... حاضرة رغم كل العقبات

09 اغسطس 2022
رفح في اليوم الأول للهدنة، أمس (سعيد خطيب/فرانس برس)
+ الخط -

إذا كانت فلسطين تبدو غائبة عن جدول أعمال الدبلوماسيتين الغربية والعربية، فإنّها متجذرة في الواقع الإقليمي وفي ذاكرة الشعوب. إذ لا يمكن القضاء على تطلعات التحرّر بسهولة. لم تغيّر زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، في يوليو/تموز الماضي، السياسة الأميركية في المنطقة بشيء.

فهي كانت تهدف بالأساس إلى خفض أسعار الطاقة في أعقاب الحرب في أوكرانيا التي تهدد الاقتصاد العالمي، ولذلك تجاهل بايدن المسألة الفلسطينية، تاركاً الشعب الفلسطيني مهمّشاً أكثر من أي وقت مضى.

لم يضع بايدن تنازلات سلفه دونالد ترامب لإسرائيل، موضع تساؤل، ولم تلقَ المستوطنات الإسرائيلية أيّ إدانة رسمية. ما زالت القنصلية الأميركية في القدس الشرقية مغلقةً، بما يؤيد المطالبة الإسرائيلية بهذه المدينة المتنازع عليها.

كما لا يزال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن مغلقاً. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ملتزمة بدعم حلّ الدولتين، لكنها لم تعرض إطاراً لمفاوضات جديدة. أعاد بايدن، بالطبع، المساعدات إلى الفلسطينيين، بيد أن ذلك سيتيح فقط للسلطة الفلسطينية، الفاسدة وعديمة الفعالية، البقاء. 

على الرغم من أن هذه اللامبالاة كانت على الدوام جزءاً من السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، إلا أنها تعكس اليوم التراجع الكبير لفلسطين في العالم العربي. إذ تغيّر إدراك المسألة الفلسطينية على مدار العقد الأخير، بينما كان النظام الإقليمي في العالم العربي يتغيّر.

وهذا في الوقت الذي يبقى فيه الرأي العام في كامل المنطقة مؤيداً للفلسطينيين بقوة، ويبدو تأييده لاتفاقات أبراهام والتطبيع مع إسرائيل فاتراً على أقل تقدير. لكن التضامن لا يعني دوماً التعبئة.


تكبّد الفلسطينيون ثمن تراجع الأيديولوجيات الوحدوية عربياً

لم يعد للقضية الفلسطينية القدر نفسه من التأثير على السياسات الوطنية مقارنةً بالذي كان في الماضي. أيديولوجياً، تكبّد الفلسطينيون ثمن تراجع الأيديولوجيات الوحدوية عربياً، سواء فيما يخص القومية العربية أو الإسلام السياسي، لأن هذه الأيديولوجيات كانت تحثّ على دعم تقرير الفلسطينيين لمصيرهم.

وبالإضافة إلى ذلك، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فإن عدة دول عانت منذ بدء الربيع العربي من نزاعات أو عمليات انتقال سياسي مضطربة. وصارت مجتمعات الدول العربية تصبّ اهتمامها أكثر على النزاعات المحلية لأجل الكرامة والعدالة، بدلاً من الشواغل الإقليمية على غرار فلسطين.

اجتماعياً، حال كذلك القمع وتفكك مجتمعات مدنية عدة دون الحشد جماهيرياً في وجه الاعتداءات الإسرائيلية. بالتالي، تراجعت التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين عددياً ونطاقاً، باستثناء الأردن ربما نظراً إلى قربه جغرافياً.

إن أحداثاً كانت في السابق تثير ردود فعل شعبية قوية، على غرار تحليق مسيّرات تابعة لحزب الله فوق إسرائيل في الآونة الأخيرة، بات الرأي العام بالكاد يتناولها. أخيراً، على الصعيد الجيوسياسي، لم تعد فلسطين تنظّم الأجندة الإقليمية، لأنه لم يعد ثمة وجود لأجندة إقليمية. فالنظام العربي القديم، القائم على توافق مستدام تتولى الجامعة العربية تنسيقه، قد انهار عملياً.

تحفيز على التطبيع

وعلى الرغم من ذلك، فإن زمن التطبيع الجديد، المتجسّد في اتفاقات أبراهام، لا يمثّل تقاطع مصالح عرضي بقدر ما هو هيكلة جديدة للديناميكيات الإقليمية. برز تحفيز جديد على التطبيع في كل مرحلة.

وجاء الزخم الأول نحو التطبيع من المحور المناهض للثورات. فبدفع من السعودية والإمارات خلال الربيع العربي، سعت الثورة المضادة إلى إفراغ كافة الأيديولوجيات من معانيها، تلك المتعلقة بالقومية والإسلام السياسي العربيين، وكذلك الليبرالية والنشاط الديمقراطي. وكان هدفها تحصين الأنظمة الاستبدادية عبر تجفيف أي منبع للتعبئة الشعبية.

وعقب ذلك، تأتّى الزخم الثاني نحو التطبيع من الرغبة في الاستجابة للسياسة الأميركية الخارجية في ظل إدارة ترامب. أتاحت "صفقة القرن" فرصةً، لحلفاء الولايات المتحدة القدامى، لتعزيز مكانتهم الجيوسياسية، وللحلفاء الجدد، لكسب النفوذ في واشنطن عبر إبراز مواقفهم المؤيدة لإسرائيل.

ثم دخلنا في مرحلة ثالثة منذ رحيل ترامب. تخلّت الدول العربية عن التزاماتها وتحالفاتها القديمة، وفي ظل هيمنة أميركية متقهقرة، أخذت تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة. إن بلورة سلام منفصل مع إسرائيل تعود بالفائدة على كل "مطبّع" بصورة مختلفة، لكن أياً من هذه الفوائد لا ينبع فعلياً من الوعود السامية لاتفاقات أبراهام التي عليها، وفق واضعيها، أن تُحدِث موجة غير مسبوقة من الاندماج الاقتصادي والازدهار في كافة أرجاء المنطقة.


تطورت القضية الفلسطينية لتتحوّل إلى مسألة تتعلق بحقوق الإنسان، بدلاً من كونها نضالاً من أجل التحرّر الوطني

في الخليج، مثلاً، ترى الإمارات في إسرائيل حليفاً في إطار الترتيبات الأمنية المتبادلة والهادفة إلى مواجهة إيران التي ينظران إليها على أنها تشكّل تهديداً وجودياً. كما أن الإمارات تعتبر أيضاً أن الصلات التكنولوجية والمالية الإسرائيلية حيوية من أجل النفاذ الاقتصادي إلى أفريقيا. يرى المغرب، من جهته، في إسرائيل شريكاً مفيداً في وجه تقدّم الجزائر في بعض القطاعات العسكرية.

أما المسؤولون السودانيون فقفزوا في قطار التطبيع لأنه أتاح حذف البلاد من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، مانحاً إياهم إمكانية الانفتاح على التعاون الاقتصادي والعسكري مع الغرب.

نهاية التحالفات الدائمة

لم يتم إغفال المسألة الفلسطينية في أي توافق إقليمي جديد، بل تحديداً لأنه لم يعد ثمة نظام إقليمي. فالتحالفات التقليدية جرى استبدالها بمشهد دائم التبدّل من النزاعات والتكتلات الظرفية، وكل دولة تنظر إلى النظام الإقليمي على أنه بمثابة مائدة كبيرة بمقدورها أن تأكل منها وتتخذ مواقف تبدو متناقضة. المحاور الدائمة أقل من التحالفات المؤقتة. ونماذج التعاون هذه نفعية، لا تقوم على توافق أيديولوجي، وإنما على تقاطعات مؤقتة لمصالح متماسة.

على سبيل المثال، تتعاون تركيا مع روسيا لتسهيل عبور الحبوب عبر البحر الأسود، ولكنها وافقت أيضاً، بعد التماسات أميركية متكررة، بالسماح لفنلندا والسويد بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.

كذلك، تشارك تركيا في لقاءات ثلاثية مع إيران وروسيا، في الوقت الذي تبيع فيه مسيّرات عسكرية إلى أوكرانيا. يظلّ المغرب من جهته قريباً من الغرب في توجهاته الاقتصادية والسياسية، ولكن الرباط اختارت عدم إدانة روسيا لغزوها أوكرانيا (امتنع المغرب عن إدانة التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس/آذار الماضي).

كما أن "اللعبة الكبرى" الجديدة حول مكامن الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط انبثقت عنها شراكات جديدة وتوترات بين ليبيا، وتركيا، وقبرص، ومصر، وإسرائيل، واليونان، يجري التباحث في شأنها بمعزل عن الضغوط الإقليمية الأوسع. ولا تزال دولتان في الخليج لم توافقا بعد على التطبيع مع إسرائيل، وهما السعودية وقطر.

بالنسبة إلى السعودية، تعرقل وصايتها على الأماكن المقدّسة في مكة والمدينة المنوّرة التطبيع. فالتسامح إزاء التوسع الاستيطاني لإسرائيل في فلسطين سيعني التخلي رمزياً عن القدس التي تؤوي "ثالث الحرمين". ولا تريد قطر التطبيع للاحتفاظ بدورها كوسيط محايد، مع حفظ نفوذها عبر قوتها الناعمة. فالتطبيع سيحرم الدوحة من موقعها المتميز، فوق خلافات النزاعات الإقليمية.

في وقت تتكاثر فيه هذه التشكيلات الجيوسياسية في أرجاء المنطقة وتصير أكثر تعقيداً، نشأ في إسرائيل تقسيم فعّال للعمل بين الدولة والمستوطنين. تطبّع المؤسسة السياسية الإسرائيلية العلاقات مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية، مقيمةً بذلك الدولة "اليهودية" الوحيدة كأمر واقع.

في الأثناء، يقوم المستوطنون بتطهير عرقي ويواصلون احتلال الأراضي الفلسطينية. ولأن هؤلاء المستوطنين لا يتحركون وفق توجيهات رسمية للدولة، فيمكن للحكومة الإسرائيلية رسمياً نفي دعمها لتلك الممارسات.

من جانبه، يقدّم المجتمع الدولي الدعم لهذا الترتيب من خلال إبقائه رأس السلطة الفلسطينية المحتضرة فوق سطح الماء بقليل. وكنتيجة نهائية يبرز نظام شبيه بـ"الأبرتهايد"، تعمل فيه الدولة والمجتمع الإسرائيلي على تصنيف الفلسطينيين وتفرقتهم وإدارتهم كمجرّد أفراد. تندد الأنظمة العربية باحتلال فلسطين وعمليات الاستيطان، ولكنه تنديد خجول.

وهي أيضاً تلعب لعبة بمستويين، إذ يبحث المسؤولون عن المنافع المادية التي يمكن أن يجنوها من اتفاق سلام مع إسرائيل، تزامناً مع تعزيز الضغط على المؤيدين للفلسطينيين في المجتمعات المدنية. وعلى الرغم من ذلك، يهدد هذه الاستراتيجية تطوران جديدان.

مسألة المقدّس

بدايةً، تطورت القضية الفلسطينية لتتحوّل إلى مسألة تتعلق بحقوق الإنسان، بدلاً من كونها نضالاً من أجل التحرّر الوطني. وهي تدخل في إطار دفاع عالمي عن الحقوق المدنية والحق في الكرامة.

وبما أن حلّ الدولتين جُعِل مستحيلاً بصورة منهجية على يد اليمين الإسرائيلي، فإن الإطار المرجعي الأساسي للفلسطينيين، هو احترام حقوقهم في ظلّ الهيمنة الإسرائيلية. ويلقي الاستنكار الذي أثاره مقتل الصحافية الأميركية – الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، الضوء على مدى ذاك التطور.

كذلك الأمر بالنسبة إلى موجة الدعم الدولي لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التي تقرّب النضال من أجل فلسطين من حملة مناهضة "الأبرتهايد" في وجه جنوب أفريقيا.

ثانياً، منذ النزاع في حي الشيخ جرّاح في 2021، دخلت مسألة المقدّس عنوةً إلى النزاع الفلسطيني. فمشكلة القدس لم تعد تعني بصورة حصرية موقعها كعاصمة أبدية لإسرائيل أو كعاصمة مستقبلية لفلسطين.

صارت المسألة تتمحور حول القدسية التي تسري على إرثها المسلم وعلى حرم المسجد الأقصى، بما في ذلك قبّة الصخرة. إذاً، كان النزاع حول فلسطين موصولاً على الدوام بتحديد النطاق الترابي للجانب الروحاني، فإن هذا البعد الديني صار أقوى من أي وقت مضى.

ومسألة المقدّس هذه تستحدث موضوعات أكثر عمقاً متصلة بالهوية الإسلامية وبالانتماء الديني، وتثير مسائل ذات بعد روحي وديني تعني المسلمين في كافة أرجاء العالم.


لم تعد فلسطين تنظّم الأجندة الإقليمية لأنه لم يعد ثمة وجود لأجندة إقليمية

في وقت يودّ بعض السياسيين الإسرائيليين تأمين القدس في أسرع وقت، يراعي آخرون هذا البعد المقدّس ويفضلون بالتالي عدم احتلال المدينة إلا على مراحل، بغية تقليص احتمال اندلاع ثورة بدافع ديني.

غير أن هؤلاء يقفون على النقيض من شركائهم، أي المستوطنين، الذين لا يتصرفون بمنطق سياسي بل بآخر ديني، بل مسيحانيّ ويمضون بحماس في حلم إقامة يهودا كبرى.

هذا الازدواج بين السياسي والتديّن يقلق الأنظمة العربية. فهم يدركون المنطق الاستراتيجي القائم في التنازل عن أراضٍ فلسطينية لإسرائيل، ولكنهم عاجزون عن التعامل مع الصدمة الارتدادية الدينية التي يتسبب فيها احتلال القدس، ومع تحويل المسألة الفلسطينية إلى حملة عالمية للحقوق المدنية.

لذلك، تفسّر الخشية من الصدمة الارتدادية تردّد السعودية أمام التطبيع، إذ ليس بمقدورها التضحية بالقدس والادعاء في الوقت نفسه حماية مكة والمدينة باسم الأمة الإسلامية.

لا ريب أن فلسطين تعرضت لانتكاسة في هذه المرحلة الجديدة. وعلى الرغم من ذلك، لن تتبدد الأزمة. الفلسطينيون في مأزق اليوم. غير أن التاريخ يظهر أن مطالب التحرّر تبقى حتى في وجه استعمار لا يرحم.

إن إيرلندا الشمالية ثمرة الاستعمار البريطاني لإيرلندا قبل 600 عام، ومع ذلك حتى اتفاق الجمعة العظيمة (عام 1998) لم يحلّ تماماً التوتر الديني والقومي. بالمثل، ستستمر القضية الفلسطينية. فالتحرّر تطلّع إنساني أساسي، يصمد أمام كافة الضغوط الجيوسياسية والدينية التي تحكمه حالياً.

ينشر بالتزامن مع أوريان 21

تقارير عربية
التحديثات الحية