أنطونيو غوتيريس... الأمين العام للأمم المتحدة الذي لا يغضب أحداً

26 يناير 2021
مهمة غوتيريس لم تكن سهلة بتاتاً (Getty)
+ الخط -

"إنها أصعب وظيفة في العالم"، هكذا وصف الأمين العام الأول للأمم المتحدة، النرويجي تريغفي لي، الذي تولى مهامه من عام 1946 حتى استقالته عام 1952، وانتقال المنصب للسويدي، داغ همرشولد، الذي شغله من عام 1953 إلى أن لقي حتفه في حادثة سقوط طائرة في أفريقيا عام 1961. هذه الوظيفة الأصعب أو "المستحيلة"، إن استخدمنا الترجمة الحرفية من الإنكليزية لوصف تريغفي لي، هي التي يرغب أنطونيو غوتيريس، الأمين العام الحالي والتاسع للأمم المتحدة بالترشح لها مجدداً، بحسب ما أكده رسمياً أخيراً. اجتمع غوتيريس بسفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن على غداء، ليخبرهم بقراره، ويبدو أن ردود الفعل كانت مرحبة جداً، بحسب مصادر دبلوماسية. بريطانيا أعلنت رسمياً دعمها لترشحه وفي الغالب ستلحقها دول أخرى بإعلانات مماثلة تباعاً.
يأتي ترشّح غوتيريس لفترة ثانية تستمر لخمس سنوات، وتبدأ مطلع العام المقبل، بعد أربع سنوات صعبة شهدها العالم. فبعد ثلاثة أسابيع من تولي غوتيريس لمنصبه رسمياً في 1 يناير/كانون الثاني 2017، تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، ليبدأ حربه على التعددية الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة وتضييق الخناق عليها سياسياً ودبلوماسياً ومادياً. إذ إنّ الولايات المتحدة أكبر مموّل للمنظمة الدولية ومؤسساتها. ونقلت وسائل إعلام أميركية عن مصادر مقربة من غوتيريس، قوله إنّ قراره بالترشح لفترة ثانية، جاء بعد أن تأكد فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية.

قرار غوتيريس بالترشح جاء بعد تأكيد فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية

مهمة غوتيريس لم تكن سهلة بتاتاً، ولعل التحدي الأكبر ما زال أمامه، على الرغم من فوز بايدن، وعزم الأخير اتباع سياسة مختلفة في أغلب الملفات الدولية عن سلفه، إن لم يكن في كلها. فهناك ملفات عدة على المحك حالياً لعل أبرزها، جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية عالمياً، واللقاح الذي يبدو بعيد المنال بالنسبة لأغلب الدول الفقيرة، ومحاولة تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الوقت الذي يبدو فيه ذلك الآن أصعب من أي وقت مضى، وكذلك محاربة التغيير المناخي بخطوات أسرع والتزامات أكبر. وهناك أيضاً الملف الإيراني والمفاوضات حوله. هذه الملفات تبدو عاجلة وملحة أكثر من غيرها، وعدم إحراز تقدم ملموس فيها، سيؤدي إلى تبعات ستتخطى عواقبها السلبية بلداً بعينه. ولا شكّ أنّ هناك تقدما سيتم إحرازه على مستوى هذه الجبهات، لكن السؤال الأهم هو مدى حجم وجدية الالتزام الأميركي والدول الأخرى.

اختيار الأمين العام للأمم المتحدة يمر عبر مجلس الأمن الدولي، وأعضائه الخمسة عشر، ويخضع لحق النقض (الفيتو) من الدول الخمس دائمة العضوية؛ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا، ومن ثمّ يُرفع للجمعية العامة التي تصوت فيها 193 دولة عضوا على مرشح مجلس الأمن. من غير المتوقع، حتى اللحظة، أن يقابل ترشّح غوتيريس بأي اعتراضات من "دول الفيتو" الخمس في مجلس الأمن. وحتى إن كان هناك مرشح آخر، فإن حظوظ غوتيريس هي الأوفر. فهو قام بجهود لا يستهان بها كي لا يغضب أياً من الدول النافذة، وليس فقط دونالد ترامب، بل غيره كالصين وروسيا، أو حتى الدول الحليفة لتلك البلدان، حتى عندما استمرت بممارسات معادية لحقوق الإنسان. وانتقاداته كانت خافتة، وفي الغالب لم يسم تلك الدول بالاسم. فإمساك العصا من الوسط وعدم إغضاب الدول النافذة، هو بالضبط ما تأخذه عليه منظمات مدنية ومنظمات حقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، وبعد إعلان غوتيريس نيته الترشح لفترة ثانية، وجه المدير التنفيذي لمنظمة "هيومان رايتس واتش" كين روث، انتقادات له خلال مؤتمر صحافي له أخيراً، قال فيه "عندما يتعلق الأمر بانتقاد خروقات حقوق الإنسان، فإنّ غوتيريس لم يترك أثراً ملموساً. وهذا هو الاختبار الحقيقي، إذ لا يسمي في الغالب أيا من تلك الجهات". وفي مقابلة حصرية مع "العربي الجديد" في نيويورك في وقت سابق من العام الماضي، كان روث قد عبّر عن خيبة أمله من أداء غوتيريس "عندما يتعلق الأمر بالوقوف بوجه الدول ذات النفوذ"، قائلاً: "لقد علقنا الكثير من الآمال على اختيار أنطونيو غوتيريس لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، لأنه ترأس مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ويدرك جيداً هموم الناس. ولكنه خيّب الآمال. وهو غير مستعد للحديث بشكل صريح عندما تكون الدول التي تمارس اضطهادات بمجال حقوق الإنسان ذات نفوذ، ويستخدم مصطلحات عامة وفارغة، لا تلقي الضوء على الاضطهاد، ولا تشكّل ضغطاً على الدول التي تمارسه، وكأن شيئاً لم يحدث. يقوم بدبلوماسية خلف الأبواب، ولكن لم نر أي نتائج مثمرة لها. على سبيل المثال، سبق أن أظهر كوفي عنان أن منصب الأمين العام كان منصباً ذا نفوذ، وصوتاً مهماً لتعزيز حقوق الإنسان".
لكن المدافعين عن غوتيريس يرون أنّ ترامب لم يترك له أي مجال للمناورة، وأنّ أي مواجهة مع حلفاء أميركا أو مع الدول الأخرى، كانت ستعني تضييق الحصار على ذاته والمؤسسة. ومهما يكن، فإنّ غوتيريس ربما كان حريصاً أكثر مما يجب ولم يستخدم نفوذه ورمزية مركزه في هذا السياق كما المطلوب.

من غير المتوقع أن يقابل ترشّح غوتيريس بأي اعتراضات من "دول الفيتو"

برز دور غوتيريس في المبادرات العديدة التي قادها خلال جائحة كورونا، ومحاولاته للفت الانتباه لتبعات الفيروس الاقتصادية والصحية والاجتماعية. كما عمل داخل المنظمة وعلى مستويات قيادية، على رفع مستوى تمثيل النساء في المراكز القيادية داخل الأمم المتحدة. وفي السياق، يقول البعض إنه ربما من الأفضل ألا يترشح لفترة ثانية ويترك المجال لامرأة لتقود المنظمة الدولية للمرة الأولى.
يدرك مراقبون أنّ قدرات الأمين العام للأمم المتحدة وإمكانيات تأثيره الفعلية تبقى محدودة، خصوصاً أنه يحتاج إلى الموازنة بشكل مستمر بين مصالح المؤسسات التي يقودها والخدمات التي تقدمها والأهداف المختلفة من التنمية المستدامة، بما فيها القضاء على الفقر والمناخ والصحة والتعليم، وبين مصالح الدول ذات النفوذ المالي والسياسي، بما في ذلك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي. في الوقت ذاته، يؤكد هؤلاء أنّ عدم استخدامه لسلاح الدبلوماسية الدولية المتمثل بالرمزية الأخلاقية لمنصبه يضعف موقفه. ويرى هؤلاء المراقبون أنّ الدول تهتم بصورتها وتحاول جاهدة تحسينها، وأن انتقادها يضعها تحت المجهر، ومن ثم يشكل وسيلة ضغط سياسية؛ محلياً ودولياً. إضافة إلى أنّ ذلك، يحرجها ويزيد الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية عليها. لكن الأهم هو أنّ لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة رمزية وسلطة أخلاقية عموماً، ومن الضروري أن تكون هناك رسالة واضحة للشعوب التي تنتهك حقوقها، بأنّ الأمم المتحدة تقف إلى جانبها، وتدافع عن تلك الحقوق ولا تعمل فقط من أجل التفاوض مع الحكومات وتسيير الأعمال. ليس صدفة أن أول جملة في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تبدأ بـ"نحن شعوب الأمم المتحدة".

المساهمون