عندما ضحك زعماء العالم قلقاً وتوجّساً

عندما ضحك زعماء العالم قلقاً وتوجّساً

28 سبتمبر 2018
+ الخط -
قد يكون الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نجح في انتزاع ضحكاتٍ من قادة العالم المجتمعين في اللقاء السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، غير أن تلك الضحكات لم تكن تعبيراً عن سعادة، ولا حتى بالضرورة عن استهزاء بكلام رجلٍ يتهمه كثيرون، بمن في ذلك بعض كبار أركان إدارته، بأنه يعيش حالة إنكار لمعطيات محيطه، وبأنه محدود القدرات الذهنية والعقلية. في الغالب، منبع تلك الضحكات والهمهمات التي سادت بين زعماء العالم المحتشدين لسماع كلمة "زعيم العالم الحرِّ"، يوم الثلاثاء الماضي، قد يكون القلق والتوجس والخوف، أكثر من أي شيء آخر.
بدأ ترامب الخطاب الثاني له أمام الجمعية العمومية، منذ توليه الرئاسة مطلع العام الماضي، بعباراتٍ تنم عن مدى الغرور الذي يميز شخصيته، والتمركز حول ذاته وتعظيمها، وحالة الانفصال عن الواقع التي يعاني منها. "قبل عام، وقفت أمامكم لأول مرة في هذه القاعة الكبيرة. لقد تناولت التهديدات التي تواجه عالمنا، وقدّمت رؤية لتحقيق مستقبل أكثر إشراقاً للبشرية جمعاء". كانت هذه هي الجملة الافتتاحية لترامب. ثمَّ عقّب بالجملة التي أثارت الضحك والدهشة بين الحضور الدولي. "اليوم أقف أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لأشارككم التقدّم المذهل الذي أنجزناه. في أقل من عامين، حققت إدارتي أكثر مما حققته أي إدارة أميركية أخرى في تاريخ الولايات المتحدة". هنا انفجر الحضور بالضحك، ليعقّب ترامب الذي يبدو أنه فوجئ بذلك بالقول: "هذه هي الحقيقة. لم أتوقع ردة الفعل هذه، ولكن حسناً".
ما تلا الافتتاحية التي استهل بها ترامب خطابه كان إعادة إنتاجٍ لشعاره "أميركا أولاً"، والذي 
من خلاله تراه يسير على خطى ثابتة في نقض أسس النظام الدولي الذي عملت إدارات أميركية متعاقبة، جمهورية وديمقراطية، على ترسيخه على مدى العقود الماضية. طبعاً، لا يمكن هنا بحال تصوّر أن أي إدارة أميركية سعت إلى تأسيس نظام دولي يصطدم بالمصالح الأميركية، أو ينتقص منها، بل على العكس، فكل أساس وكل لبنة أضيفا، أميركياً، إلى هذا النظام الدولي كانا يرومان تحقيق مصلحة أميركية معتبرة. ولكن ترامب، والدائرة الإيديولوجية الضيقة المحيطة به، والمؤثرة فيه، يظنون أنهم في مهمة "وطنية" لاستنقاذ الولايات المتحدة من براثن الابتزاز والاستغلال من الآخرين جرّاء "غباء" الإدارات الأميركية السابقة. وهكذا، منذ وصل إلى البيت الأبيض، عمل ترامب على الانسحاب من اتفاقيات دولية، كاتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران، كما انسحب من اتفاقيات تجارية، كاتفاق الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، وأطلق حروباً تجارية وجمركية مع منافسين وحلفاء للولايات المتحدة على حد سواء، كالصين والاتحاد الأوروبي وكندا. أيضا، هدّد ترامب، غير مرة، بمعاقبة شركاء بلاده في حلف شمال الأطلسي، إن لم يزيدوا مساهماتهم المالية في ميزانيته، بل إنه لمح للانسحاب منه، إن لم يقوموا بذلك. الأكثر إثارة أن ترامب، في مقارباته للأمن والمصالح القومية الأميركية، يدمج بين خلفيته رجل أعمال وكونه رئيساً لأعظم قوة على الأرض، ومن ثمَّ فإنه لا، ولم، يتردّد في مطالبة كل المنتفعين من القوة الأميركية أن يدفعوا مقابل الحماية التي توفرها لهم. هذا بالضبط ما قاله سابقاً عندما طالب دول الخليج بالدفع مقابل الحماية، وأعاد الأمر نفسه في خطابه أخيرا عندما طالب، بصيغةٍ أقرب إلى الأمر، منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، بخفض أسعار النفط "الذي ينهبون به العالم"، خصوصا الدول التي "نحميها مجاناً، ثمَّ يستغلوننا بأسعار النفط المرتفعة".
قد يجادل بعضهم هنا أن ترامب ينطلق في مقاربته من منطق حمائي للصناعات والتجارة الأميركية، وهذا صحيح، وشكوى ترامب المتكرّرة، مثلا، من الميزان التجاري المختل بشكل كبير لصالح الصين، مشروعة، وإن كان يغضّ الطرف عن أن المستهلك الأميركي، وصناعات أميركية كثيرة كذلك، يستفيدون أيضا من التجارة المتبادلة مع الصين. المشكلة هنا، بالنسبة لمؤسسة الحكم الأميركي التقليدية والحلفاء الأميركيين، أن مقاربة ترامب غير محصورة في الجانب الحمائي، بقدر ما أنها تؤسّس لانسحاب أميركي محتمل من ساحات دولية حساسة كثيرة، وتركها لمنافسين آخرين، كالصين وروسيا، فضلا عن إرجاع أميركا إلى سياسة العزلة التي سادت في الثلاثينيات من القرن الماضي، مدفوعة، حينئذ، بالـ"كساد العظيم" The Great Depression، والخسائر البشرية والمادية المروّعة التي ترتبت على الحرب العالمية الأولى. ولم تنته تلك الحقبة إلا بعد الهجوم الياباني الجوي، عام 1941، على الأسطول العسكري الأميركي الراسي في ميناء بيرل هاربر في جزر هاواي في المحيط الهادئ، ما أدى إلى دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء.
قد لا يكون ترامب مستوعباً أصلاً جدلية السياسة الانعزالية، وتداعياتها في الحسابات 
الاستراتيجية التقليدية الأميركية، ونحن نعلم الآن، كما جاء في كتاب الصحافي الأميركي الشهير، بوب وودورد: "الخوف.. ترامب في البيت الأبيض"، أن وزير الدفاع، جيمس ماتيس، كان اتهمه بأن مستوى استيعابه لا يتعدّى مستوى تلميذ في الصف الخامس أو السادس الابتدائي. كما نعلم أيضا أن وزير خارجيته السابق، ريكس تيلرسون، كان قد وصفه بـ"الأحمق"، ولم يتردّد مسؤول كبير في إدارته، في وقت سابق من شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، في كتابة مقال، باسم مجهول، في صحيفة نيويورك تايمز، وصف نفسه فيه بأنه جزء من "المقاومة" داخل إدارة ترامب لحماية أميركا من طيشه ونزواته. ولكن، تبقى الحقيقة هي الحقيقة، وهي أن ترامب هو الرئيس، وأن كل الحديث الذي يتم تناقله عن نقاشات مسؤولين كبار في إدارته جرت لعزله فشلت.
اليوم، يعيد ترامب، ومن حوله من هواة السياسة والإيديولوجيين، تشكيل السياسة الخارجية الأميركية والدور الأميركي في العالم، متخندقين خلف ذرائع "السيادة" و"الوطنية" ورفض "العولمة"، وهي المصطلحات التبسيطية التي حفل بها خطاب ترامب أخيرا. لقد تحدث ترامب في الأمم المتحدة وكأن أميركا دولة هشّة على أعتاب أن تفرض عليها وصاية أجنبية! هذا الانسحاب الأميركي، كما ترى مؤسسة الحكم الأميركية وحلفاء الولايات المتحدة، ستترتب عليه فراغاتٌ واسعةٌ تملأها، قوى منافسة، كما روسيا والصين، ونحن نرى بوادر ذلك في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا. كما يتخوف هؤلاء من فوضى عالمية تهمّش القوة والنفوذ الأميركيين، وربما تقود إلى حربٍ كونيةٍ جديدةٍ قد تنجرّ إليها الولايات المتحدة، للدفاع عن نفوذٍ تخلت عنه في لحظة شاذّة في تاريخها. هذا هو أكثر ما أضحك الحاضرين القلقين في الأمم المتحدة، خصوصاً من الحلفاء الأميركيين، فترامب عاجز عن استيعاب أن أميركا لم توفّر الحماية لأحد مجاناً، ولم تساعد أحداً من دون مقابل، ولم تفعل ذلك غباءً، بل كله كان، ولا يزال، لخدمة المصالح الأميركية وحمايتها أولاً وأخيراً، ولضمان أن تبقى أميركا متربعةً على عرش زعامة العالم من دون منازع، ومن دون الاضطرار لدخول حرب كبرى من أجل ذلك. هذا ما لا يفهمه ترامب، وهذا ما تحاول مؤسسة الحكم التقليدية في الولايات المتحدة تحصينه، حتى تمضي عاصفة ترامب بطريقةٍ أو بأخرى.
D010C1F7-152B-4D4C-9C8B-30DD6BA24CCB
أسامة أبو ارشيد

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن