الشرق الأوسط والثوب الأميركي

الشرق الأوسط والثوب الأميركي

14 ابريل 2014

جنود أميركيون في أفغانستان، 31 مارس 2014 (Getty)

+ الخط -

أعلن وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، بداية أبريل/ نيسان الجاري، أنّ بلاده لن تنسحب من أية منطقة في العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من ضغوطٍ على ميزانية وزارة الدفاع (البنتاغون). ولعلّ استدراكه الشرق الأوسط مُلحقاً ببقية العالم يضمر تأكيداً على أنّ التعميم هو القاعدة، وأنّ استدراك الجزء المثقل، والغارق إلى أذنيه في خضم الأزمة الماثلة، هو تأكيد أكثر منه تمييز، فالموقف الآني في الشرق الأوسط متشابكٌ، لكنه ليس عصياً على الفهم.
يدحض هذا التأكيد افتراضاً جرى بشأنه حبرٌ غزير في الصحافة الأميركية، ودهاليزها التحليلية، أواخر العام الماضي 2013، هو أنّ دور الولايات المتحدة بدأ يتراجع، بسبب تفاقم الأزمات الداخلية والخارجية، وتفضّل الانكفاء إلى الداخل، تاركة الملعب الخارجي إلى روسيا فلاديمير بوتين، وحلمه في إعادة مجد الاتحاد السوفياتي الآفل، مشاركةً مع قوى صاعدة مثل الصين. ولكن، يبدو من تصريح هيغل أنّ الثوب الأميركي أوسع من أحلام الدب الروسي، وأقوى مما تحتمله طاقة التنين الصيني. لذلك، عادت أميركا، ثانيةً، تمارس هواية توزيع الأحجار على رقعة الشرق الأوسط، بالمواقف المعلنة تارة، والمواربة تارة أخرى.
دحضَ تأكيد تشاك هيغل كذلك قول هيلاري كلينتون، إبان مسؤليتها وزيرة للخارجية الأميركية: "إذا كان القرن العشرون قرن المحيط الأطلسي، فإنّ الحادي والعشرين قرن المحيط الهادي، بالنسبة إلى الولايات المتحدة". وواضحٌ، الآن، أنّ القرن الحادي والعشرين هو قرن المحيط الهادي والأطلسي معاً، فاتجاه أميركا صوب دول شرق آسيا لن يحوّلها كلياً عن الشرق الأوسط، وإنّما تستطيع الإمساك بزمامي العالم، والجمع بين المحيطين.
الواقع أنّ الإدارة الأميركية لا تحتاج إلى أن تثبت ذلك، فمنذ طرحت إدارة جورج دبليو بوش مشروع الشرق الأوسط الكبير في 2004 على مجموعة الدول الصناعية الثماني، وهي لا تستطيع الابتعاد عن المنطقة، وفي حالة سعيٍ بين الدبلوماسية والخيار العسكري المخبأة أشواطه الإضافية للضرورة.


وإذا كنا نلاحظ انكماشاً في الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، منذ أعلن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في عام 2009، عن انسحاب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، وإطلاق "إستراتيجية إعادة التوازن" في آسيا والمحيط الهادي، فهي لا تعبّر بوضوح عن انسحابٍ حقيقي، ولكن، في غياب الخصم تقلّ المنافسة. فليس صحيحاً تماماً أنّ الشرق الأوسط يدخل عهد ما بعد أميركا، وما يحدث الآن من عدم الاعتناء الأميركي الكامل بدعم التنمية وتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط لا يشي بحالٍ من الأحوال عن تراجع النفوذ والسيطرة الأميركية، فالشرق الأوسط بالنسبة لأميركا جنتها وجحيمها، وليس في إمكانها غضّ الطرف عما يحدث فيه كلية، لكنها تنتهز الفرصة لتوليد المستقبل من رحم الفوضى الخلاقة بطريقة أشبه بالطبيعية. تنتهج السياسة الأميركية طريقاً جديداً، يسهّل لها الوصول إلى النتائج نفسها في المنطقة، ذات التعقيدات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية. استفاد النهج الأميركي من تجارب سابقة، استهلكت فيها أميركا كثيراً من إمكاناتها ومواردها، وليس من الحكمة تجريب المجرّب مرة أخرى، خصوصاً إذا كان في مقدورها سلك طرق جديدة، تحافظ بها على مصالحها في المنطقة، من دون إهدار موارد كثيرة. 
إزاء هذا الوضع، ليس أوباما متردداً في التدخل المباشر بعيد الغور في الشؤون الداخلية للمنطقة، ولكن، وفي ظل تشابك المصالح بين الدول والذي فرضته العولمة، عملت الولايات المتحدة على تفعيل استراتيجيتها تجاه المنطقة، بشكل أعمق وأكبر، ولكن الأهم أنّه يطرح التعاون من أجل تحقيق المصالح المشتركة، ولا يستبعد خياراتٍ أخرى.
لا يمكن إلقاء تقاطعات العودة الأميركية إلى الشرق الأوسط على المصادفة وحدها، لأنّ توالد التاريخ أحدث فعلاً إقليمياً آخر غير معزول، وهو توجه أميركا نحو جنوب شرق آسيا. وما بين الخطوتين من مفارقات وتوازٍ جعل المنطقتين تبدوان وكأنهما الصورة وظلها. وقد جعل استمرارية العملية في الشرق الأوسط دول جنوب شرق آسيا تتحسس أمنها من تزايد الدور القيادي للولايات المتحدة، وتزايد نفوذها العسكري، ما ساهم في سيادة حالةٍ من الهلع من تزايد سباق التسلح، وبالتالي، تزايد احتمالات الحروب والنزاعات.
قرار أميركا ترك الشرق الأوسط الجديد في طور التشكّل الآن بفضل الفوضى الخلاقة، والآلية للسماح لهذا النمو الطبيعي هو إتاحة الفرصة للتعبيرات المختلفة، اجتماعياً وأيديولوجياً وطائفياً وإثنياً، لتظهر من خلف الأضابير بأي شكل تختاره. ما تفعله أميركا، في الوقت الحالي، هو مراقبة وتحليل صراع هذه القوى مع بعضها، حتى إذا ما تم انتصار إحداها، تبرز الرؤية الأميركية التي فرضت هذا النهج من خلف ستار، لتُحال المنطقة، بأكملها، إلى وصاية "الشيطان أمير العالم"، أو كما قال الخبير في كشف المخططات السرية وسياسة صنع الحروب وحبك المؤامرات، وليم جاري كار، من أجل السيطرة على العالم، أو القضاء عليه.


 

دلالات

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.