أم كلثوم ومحاولة تطبيع إسرائيلية

04 فبراير 2015

أم كلثوم في باريس (16 نوفمبر/1967/أ.ف.ب)

+ الخط -
أعلنت وسائل إعلام الاحتلال الإسرائيلي الناطقة بالعبرية عن فعاليات عدة، لإحياء الذكرى الأربعين لوفاة أم كلثوم. وفي الحقيقة، كان صوت أم كلثوم وأغنياتها، منذ عشرات السنين، أحد مسارب محاولات التقرّب من الوجدان العربي. فمنذ ما يربو على خمسين عاماً، كانت "صوت إسرائيل" بالعربية المحطة الإخبارية والسياسية الأولى التي تخصّص لأم كلثوم، عصراً، ساعة غنائية، تعقبها نشرة الأخبار الإسرائيلية وسمومها. لكن كل الذي فعلته إسرائيل، في هذا السياق، لم يستطع كسر تعيين الفارق بين قامة أم كلثوم وقيمتها وروحها وشجنها، وهؤلاء الأوغاد الذين انتهبوا فلسطين، لا سيما أن أم كلثوم نفسها، كانت تتمتع بروح قومية عالية، وذات مناقبية على صعيد رفد الموقف السياسي القومي التحرري، بفنها الغنائي المحبّب.
أذكر في طفولتي أن رجلاً بسيطاً من عائلتي كان في ذروة نشوته وهو يستمع إلى أغنية لأم كلثوم، من دون أن يعرف المحطة التي تبثها. وبينما هو في ذروة استمتاعه، يردد مع أم كلثوم مقطعاً، سأل صاحب المذياع: "أي محطة هذه؟". أجابه "إسرائيل" فصرخ نجيب حانقاً: "إقلب، يلعن أبوهم". كأنما أحس نجيب أن المحتلين يقرصنون، ويسرقون فناً هو ملكية حصرية له ولأمته، ولأم كلثوم التي يحبها.
رأت إسرائيل نفسها مطلقة اليد، لبث الأغنيات الكلثومية دونما حقوق مستحقة، تدفعها، مقابل الاستفادة متعددة المقاصد، من هذا المنتج الفني الرفيع. ولأن إسرائيل، أرادت من استخدام فن أم كلثوم تعزيز محاولات التطبيع الثقافي مع العرب؛ فقد تنوّعت أشكال السطو، فأصبح بعض مطربيها يغنون لكوكب الشرق، في حفلات سمر، مخصصة لاجتذاب الجمهور العربي. واشتهر المطرب الإسرائيلي، زئيف يحزقئيل، بتقديم أغنيات أم كلثوم، وبخاصة "أمل حياتي" فيما يعتمر القلنسوة اليهودية "الكيباه". وربما لم يكن من المصادفة، أن يركز يحزقئيل على هذه الأغنية أكثر من سواها. ففي الحفلة الأولى التي غنت فيها سيدة الغناء العربي هذه الأغنية من ألحان محمد عبد الوهاب (1965) حضر الزعيم جمال عبد الناصر، وثمة شريط على "يوتيوب" ظهر فيه الرجل، وهو يدخل إلى الصالة ويتخذ له مجلساً. وفي الواقع، حظيت أم كلثوم باحترام كبير لدورها التعبوي، في الفن الغنائي، لصالح ثورة 1952، وفي رفع منسوب الحماسة الشعبية للتصدي للعدوان الثلاثي في 1956، وفي ترويج مشروع الاستقلال الاقتصادي، والتنمية، ومناهضة الاستعمار، ودعم التوجهات القومية في العالم العربي. وقد رافقت أم كلثوم، بصوتها الشجي، القضية الفلسطينية، في جميع مراحلها حتى وفاتها. وكانت في لقاءاتها الإذاعية، كلما تطرقت إلى فلسطين، تحدثت بلغة حانية وشديدة التعلّق بأمل التحرير والخلاص من الصهيونية. ولعل ذلك كان معطوفاً على تجربتها الشخصية في فلسطين، وذكرياتها فيها ومع شعبها. فقد زارت فلسطين مراراً، وغنت لجمهورها، وعن المرة الأولى، قالت إنها لبّت بلا تردد، في 1928 دعوة من شباب "الرابطة العربية" في حيفا، لتقديم حفلة غنائية، ووصفت الحدث قائلة "ذهبت، وفي قلبي ألف شوق وألف حنين". وللمفارقة، لم تكن تلك العاطفة قد تأسست في وجدان معظم أسماء شريحة النخبة الأدبية والفكرية في مصر. فمن بين هؤلاء من حضروا حفل افتتاح الجامعة العبرية قبل ثلاث سنين في القدس. وفي المرة التالية، استقلت أم كلثوم القطار من القدس إلى الساحل الفلسطيني، لكي تغني وتبتهج مع الفلسطينيين في وطنهم. لذا، تعجّلت أم كلثوم، في مايو/أيار 1967، لكي تغني أغنية "جيش العروبة الله معك"، قبل أن تحفظ الكلمات كاملة، فظهرت على المسرح، ومن خلفها الشاعر صالح جودت، يمسك بورقة فيها الكلمات، ويلقنها جملة جملة، فتتلقفها وتهتف في حماسة: "كلمة فلسطين زي دقات الطبول بتقوّي وتحمّس وتدفع للعمل". فمن الطبيعي أن يستبيح المحتلون حقوق أغنياتها، ويحاولوا توظيفها للتطبيع الثقافي.