لا تحمّلوا الصين أكثر مما تحتمل

11 ابريل 2020

وجه من ووهان في الصين (10/4/2020/فرانس برس)

+ الخط -
ليست الصين قائدة النظام الدولي، ولن تكون كذلك في المستقبل القريب، أو في ما أصبح يطلق عليه نظاماً دولياً بعد وباء كورونا. سارع كثيرون إلى الاستنتاج أن كورونا سيقوّض أركان النظام الدولي الحالي، ويؤسس لآخر جديد تقوده الصين التي نجحت وحدها على الساحة الدولية في الوقت الحالي بالتصدّي للفيروس ومحاصرته، لا بل بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها في بعض المناطق، ومنها مدينة ووهان مهد الفيروس، وكانت الأكثر تضرّراً منه، في حين أن عواصم غربية تئن تحت هجماته، وكأن سباقاً فيما بينها من يسجّل عدد إصاباتٍ أكثر من الأخرى. وقد ساعد على التوصل إلى هذا الاستنتاج أعلاه مدّ الصين يد العون إلى الولايات المتحدة نفسها لمحاربة كورونا، وإلى عواصم أوروبية أيضاً، في حين أن دول الاتحاد الأوروبي عجزت عن مساعدة بعضها بعضاً. 
يمكن تفهم مبرّرات القول إن الصين ستقود النظام الدولي الجديد بعد كورونا إذا ما نُظر إلى النجاحات التي حققها هذا البلد بالتعامل مع جائحة الوباء، بغض النظر عن الطريقة التي استخدمها للتوصل إلى هذه النتيجة، والتي يدور حولها لغط كبير من عدم شفافية وإخفاء معلومات وتلاعب بالأرقام الحقيقية للضحايا والمصابين، فالاستنتاج بقيادة الصين "النظام الدولي الجديد" مبنيٌّ على درجة عالية من التعميم، لا علاقة لها بأزمة كورونا ولا بإدارة بكين لها. فلا ندري أولاً أنه سيكون هناك نظام دولي جديد، حيث لا يعلم أحد إلى متى ستستمر الأزمة الراهنة، وكيف ستصمد الدول الأخرى، تحديداً الغربية، أمام ضرباتها المتتالية، وماذا ستسفر عنه في نهاية المطاف. والسبب الثاني والأهم أن النتيجة الفعلية لإدارة الصين الأزمة أنها صمدت أمام كورونا ولم تنهر، وهي بذلك عادت إلى الوضع الطبيعي الذي كانت عليه قبل الأزمة، أي لم تكتسب قوة إضافية، يمكن تعميمها لتنتقل إلى قيادة العالم في النظام الدولي المفترض.
ولوضع الأمور في نصابها، لقيادة النظام الدولي متطلبات أساسية لا علاقة لها بالصمود أمام 
فيروس كورونا. تاريخياً، اعتبرت القوة العسكرية للدولة أحد هذه الشروط، وهو ما امتلكته الصين قبل كورونا، ولم يُحدث نجاح بكين باحتواء خطر الفيروس أي تأثير على هذا العامل. وفي الوقت نفسه، وهذا الأهم، أنه ليس بالقوة العسكرية وحدها تقود الدول النظام الدولي الحالي أو ما بعد كورونا. عوامل أساسية تتطلبها القيادة، من أهمها:
أولاً: الإرادة السياسية لدى الدولة للقيام بهذا الدور. في النقاشات التي كنا نجريها مع مسؤولين وأكاديميين الصينيين، كانوا يردون على تساؤلاتنا لماذا لا تقوم الصين بدور أمني منافس للولايات المتحدة في الشرق الأوسط "إننا لا نمتلك الإمكانات (capabilities) ولا الرغبة (interest) بالقيام بهذا الدور". ومعلوم طبعاً أن استراتيجية الصين الخارجية اقتصادية بامتياز، تركز على فتح أسواق جديدة لمنتوجاتها تحديداً من خلال مبادرة "طريق الحرير".
ثانياً: لا بد لمن يقود العالم من تبني منظومة قيمية ذات بعد عالمي، أو إنساني، تعتبر بمثابة "القوة الناعمة" أو ما يمكن تسميته (software) الذي يتكامل مع القوة العسكرية (hardware) من أجل تحقيق قيادة دولية. ما ساعد الولايات المتحدة على قيادة العالم ليس قوتها العسكرية المجرّدة، وإنما تبنّيها قيماً ديمقراطية وحقوق إنسان، وهي قيم ذات أبعاد كونية، بغض النظر إن كانت فعلاً قد عملت على نشرها أو استغلالها لبسط نفوذها، فالمهم أنها لعبت دوراً مهماً في تمدّدها. ما تمتلكه الصين على هذا الصعيد هو "نظام شيوعي" لا تستطيع تسويقه، ولا تسعى إلى ذلك، حتى لأقرب حلفائها.
ثالثاً: لم تقد الولايات المتحدة العالم بمفردها، وإنما بشبكة من التحالفات الدولية، كان أهمها أوروبا
 الغربية وشرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وحتى دول شرق أوسطية مثل تركيا والسعودية التي لعبت دوراً محورياً في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. ولكن أين هي شبكة التحالفات الدولية التي ستؤهل الصين للقيادة الدولية.
رابعاً: كان لعامل الثقة بالإنتاج العلمي والمعرفي للولايات المتحدة أيضاً دور محوري بتعزيز موقعها بقيادة النظام الدولي. وعلى النقيض من ذلك، بنت الصين "سمعتها العلمية" على انخفاض الجودة المرتبطة بانخفاض السعر. بمعنى آخر، هناك ثقة بالمنتوج الياباني والألماني والأميركي، ولكن من يثق بالمنتوج الصيني، حتى يثق بقيادتها.
والأهم من كل ما ذكر، من قال إن النظام الدولي ما بعد كورونا سيكون نظاماً أحادي القطبية (حتى تقوده الصين) أو ثنائي القطبية أو حتى متعدّد الأقطاب، فلربما كان نظاماً لا قطبياً أصلاً كما جادل ريتشارد هاس في مقالته في مجلة فورين أفيرز عام 2008 (The Age of Nonpolarity) والتي جادل فيها أن السمة الرئيسية لنظام العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين لن تكون عالماً يسيطر عليه دولة أو دولتان أو حتى عدة دول، بل بجهات عديدة فاعلة تمتلك وتمارس أنواعاً مختلفة من السلطة.
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وسابقاً في جامعتي جورجتاون وجورج واشنطن ومعهد بروكينجز. من مؤلفاته "وساطة الصراع في العالم العربي (جامعة سيركيوز- الولايات المتحدة 2023) و"إدارة صراع فوضوي" (جامعة أدنبرة في بريطانيا 2020) و"ثورات غير مكتملة" (جامعة ييل في الولايات المتحدة 2016).
إبراهيم فريحات