ماذا وراء التصعيد الإسرائيلي؟

ماذا وراء التصعيد الإسرائيلي؟

03 سبتمبر 2019
+ الخط -
بين شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، الصيف الحالي، قامت إسرائيل بخطوتين عسكريتين يمكن اعتبارهما بداية لتغيير قواعد الاشتباك المتبعة حيال إيران وحلفائها منذ التدخل الإسرائيلي في الأزمة السورية عام 2012. الأولى قصف إسرائيل أهدافا إيرانية داخل الجغرافيا العراقية، في سابقة من نوعها منذ عام 1981 عندما دمّرت إسرائيل مفاعل تموز النووي. والثانية هجومان مختلفان داخل الأراضي اللبنانية. الأول، استهداف طائرتين مسيّرتين أهدافا في الضاحية الجنوبية من بيروت، والثاني هجوم جوي على مواقع تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة في البقاع.
ما أسباب هذه التغيرات في قواعد الاشتباك؟ هل الأمر متعلق بأغراض انتخابية ضيقة تدفع رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، للهروب إلى الأمام وإشعال جبهاتٍ تعتبر، بالمقاييس الإسرائيلية، خطيرة جدا؟ أم ثمة أسباب استراتيجية كبرى؟ تكشف قراءة بسيطة للخريطة الاستراتيجية في المنطقة أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في العراق ولبنان ليست بهدف ضرب أي تحرّك إيراني مسبق ضد إسرائيل، فالتهديد الإيراني في العراق لم يصل إلى حد كسر إسرائيل قواعد الاشتباك، كما أن حالة الستاتيكو العسكري لحزب الله في لبنان لم يطرأ عليها أي تغيير يستدعي القيام بهجومين.
واضح أن لإسرائيل أهدافا أخرى متعلقة بخلط الأوراق الإقليمية والدولية حيال الملف الإيراني. يؤكد ذلك أن الولايات المتحدة لم تدعم القصف الإسرائيلي في العراق، بل ذهبت باتجاهٍ آخر، وإن لم يكن على المستوى الرسمي، فقد أعلن مسؤول أميركي، رفض الكشف عن هويته، لوكالة "فرانس برس" بعد الهجوم الإسرائيلي، أن لدى الولايات المتحدة "أسبابا تدفعها إلى الاعتقاد" أن إسرائيل هي التي شنت الغارة، في وقتٍ أعلن مسؤولون آخرون في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن إسرائيل تهدد المصالح الأميركية في العراق من خلال هذه الهجمات. وتوحي طبيعة هذه التصريحات التي سبقت كشف صحيفة نيويورك تايمز تفاصيل الغارة 
الإسرائيلية بأن الإدارة الأميركية مستاءة من هذا الهجوم، فالساحة العراقية تختلف تماما عن الساحة السورية، ومن شأن الضربات الإسرائيلية في العراق أن تزيد من تعقيد الحضور الأميركي هناك، وربما تدفع المليشيات المحسوبة على إيران إلى شن عمليات ضد أهداف أميركية. وهذه النقطة هي ما تعمل إسرائيل على تحقيقه، أي استفزاز المليشيات العراقية ـ الإيرانية للقيام بعمليات عسكرية ضد أهداف أميركية، أو تعزيز عمليات نقل الأسلحة عبر الأراضي السورية. وفي الحالتين، ستضطر واشنطن إلى التدخل العسكري، ما يزيد من تفاقم الأوضاع.
وما يؤكد ذلك إلى حد كبير أن الولايات المتحدة منعت إسرائيل العام الماضي من الاستمرار في ضرباتها الجوية للمليشيات الإيرانية داخل الأراضي السورية عند الحدود العراقية، فكيف الحال إن انتقلت هذه الهجمات إلى العراق. وفي لبنان، وعلى الرغم من عدم رغبة إسرائيل وحزب الله في الانحدار إلى مواجهة عسكرية مباشرة، إلا أن إسرائيل تحاول استفزاز الحزب للرد العسكري، ليس من أجل توجيه ضربات عسكرية لمنظومة الصواريخ التي يمتلكها الحزب، وإنما الأهم، لإرباك الساحة اللبنانية، ما يدفع واشنطن إلى زيادة الضغوط على إيران. ويؤكد ذلك أن الهجوم الذي نفذه حزب الله باستهدافه آلية إسرائيلية عند طريق ثكنة أفيفيم لم ينجم عنه رد إسرائيلي كبير.
الهدف الإسرائيلي هو إرباك الساحات العربية التي توجد فيها إيران، ودفع الأمور نحو حافة الهاوية، من أجل قطع الطريق على أي تغيير في الموقف الأميركي تجاه إيران، بعدما ظهرت بوادر أميركية تشير إلى عدم رغبة واشنطن في تأجيج الأمور مع طهران. ولكن الاكتفاء بهذا التفسير للهجمات الإسرائيلية غير كافٍ، ويحجب إمكانية فهم المشهد بالكامل، ذلك أن التصعيد الإسرائيلي لا يتعارض بالأساس مع المبدأ الذي اعتمدته حكومة نتنياهو منذ سنوات، "المعركة بين الحروب"، وهو المبدأ الذي جعل إسرائيل تضرب ما تعتبره تهديداً إيرانياً، وكانت الهجمات الإسرائيلية ضد قوافل نقل السلاح في البوكمال ودير الزور دليلا على ذلك.
يتناسب توسيع مساحة القصف الإسرائيلي تماما مع الاستراتيجية الإسرائيلية ـ الأميركية حيال إيران، ففي بداية الأزمة السورية، اقتصرت الهجمات الإسرائيلية على عمليات نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله، أو نقل الأسلحة إلى مناطق الجنوب السوري، ومع مطلع 2018، بدأت إسرائيل توسع دائرة قصفها، لتشمل أي وجود إيراني خطير في سورية، وكان هذا سبب الهجمات العديدة ضد مواقع إيرانية مهمة. ويسمح توسيع إسرائيل دائرة هجماتها لها بتعزيز مبدأ "المعركة بين الحروب" عبر الاستمرار في توجيه ضربات استباقية، والحيلولة دون اندلاع مواجهة مباشرة مع إيران وأطرافها، كما أن توسيع دائرة الهجمات يضع حكومتَي بغداد وبيروت أمام مسؤوليتهما للضغط على إيران.