سلمية الحراك الجزائري في مهب "الهيب هوب"

27 اغسطس 2019
+ الخط -
كان الأمر يحتاج إلى حفل فني كبير واحد، في قلب العاصمة الجزائرية، يقيمه فنانٌ من حجم سولكينغ، مغني "الراب" و"الهيب هوب"، في ساعتين، حتى تسقط الأرواح التي لم تسقط في أكثر من ستة أشهر من الحراك من أجل الحرية والديمقراطية. خمسة قتلى وعشرات الجرحى سقطوا جراء التدافع داخل ملعب معد ليتسع لثمانية آلاف متفرّج، تدفق عليه قرابة الثلاثين ألفا، من الشبان والشابات المهووسين بموسيقى "الريغي" والـsoul والهيب هوب، والنتيجة تحول الحفل إلى مجزرة، والفرح إلى جنازة.
الحادث الذي زلزل الجزائر كلها، ولا تزال ارتداداته مستمرة، أحدث هزة كبرى على عدة مستويات، كان من نتائجه المباشرة سقوط رؤوس كبيرة، بينها وزيرة الثقافة مريم مرداسي، ومدير الأمن العام الوطني عبد القادر قارة بوهدبة، ومدير الديوان الوطني لحقوق المؤلف سامي بن شيخ، بل وجعل حكومة نور الدين بدوي برمتها في وضع أكثر ضعفا، وهي التي ظل الحراك يطالب بسقوطها، باعتبارها من بقايا منظومة الفساد البوتفليقية.
الهزّة الكبرى الأولى، بغض النظر عن الرؤوس الكبيرة التي سقطت، هي في مفهوم السلمية والحضارية الذي ظل الشعب الجزائري يفخر به أمام العالم، كيف ترنّح فجأة، تحت أقدام آلاف الشباب المتدافع، وبعضهم متحرّش جنسيا، وهو يحاول الوصول إلى الحفل الفني، على جثث شباب مثله، سقطوا على مذبح حرية من نوع خاص، فلقد غنى الفنان (العالمي) أغنيته الشهيرة "لاليبرتي" (الحرية)، ولكن لذوي السراويل المتدلية، والشعر المنفوش والمنكوش، والسجائر الملوّنة، ممن لا يتورّعون، في سبيل تحقيق حريتهم المزعومة، عن الدوس على رقاب الآخرين. وما ترك المراقبين في حالةٍ من الصدمة أن من هؤلاء الشباب من كانوا جزءا من حراك شعبي سلمي مبهر، أبدع فيه الحراكيون في صيانة أرواح بعضهم، واحترام مقامات الناس، كبارا وصغارا، وحماية النساء من أي اعتداء أو تحرّش.. فما الذي حدث حتى بدأت حجج النظام السابق تلوح برأسها في التحاليل من جديد، لتذكّر من نسي بأن الإنسان الجزائري عنيف بطبعه، وانه "همجي" لا يستحق الحرية، ولا الحق في التظاهر؟
كان نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يعتمد زمنا طويلا على مثل هذه الترّهات، وقد منع
التظاهرات في العاصمة بشكل كامل تقريبا منذ العام 2001، بعد الأحداث الدامية وعمليات التخريب الواسعة التي تسببت بها مسيرات العروش الأمازيغ، وقبلها أحداث منطقة القبائل، وقبلها سنوات الدم والدموع في العشرية السوداء، وقبلها أحداث الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 1988، وقبلها أحداث الربيع البربري.. من دون الحديث عن آلاف الحركات الاحتجاجية الاجتماعية التي تتكرّر سنويا، بعنفها المعروف بقطع الطرقات، والمواجهات مع قوى الأمن، والقائمة طويلة جدا، عن كم العنف الرهيب الذي برّر به النظام خنق الحريات، ومنع التظاهر وحق التعبير الحر.
ولكن ما حدث أخيرا في حفل سولكينغ لم يكن منعزلا للأسف، فقد سقط في أفراح التتويج بالكأس الأفريقية أخيرا التي انتظمت في مصر، 14 قتيلا، فقد عبر الجزائريون عن فرحتهم العارمة تلك بهذا العدد من الضحايا، ما يذكّر بحال البطولة الجزائرية لكرة القدم، وحجم العنف الرهيب الذي تتميز به، والذي تجاوزت فيه مجموعات "الكواسر"، و"المسامعية"، و"الشناوة" و"الجراد الأصفر" وغيرها (من تسميات جماهير بعض الفرق الكروية) عنف الهوليغانز الإنكليز بمراحل. ولذلك جاءت حادثة سولكينغ بمثابة الصفعة التي أيقظت الجزائريين الذين كانوا، طوال أشهر الحراك، منتشين بسلميّتهم التي فاجأتهم هم قبل غيرهم، حتى وإن حاول بعضهم تبرير ما وقع في ملعب "20 أوت" بأن الجمهور الذي حضر الحفل هو خاصة من المراهقين المهووسين، بل إن جماهير الكرة أيضا هي ذات طبيعة منفلتة، وهو ما يعاكس بالمطلق سلوك الشباب الحراكي، ومسيرات الطلبة التي تلتئم كل ثلاثاء، حيث يظهر الفرق كبيرا ومهولا، إلى درجة تظهر أن التجمعات "الفنية" أو الرياضية تنتمي 
إلى كوكب، بينما ينتمي التجمع "الحراكي" إلى كوكب آخر.
أما الهزة الثانية، فهي في تراجع نظرية الوعي داخل المجتمع، بعدما اعتقد الجزائريون، عقب انطلاق حراكهم من أجل الحريات والديمقراطية، أنه وصل إلى درجة غير مسبوقة، تخلى فيها الجزائري، بسبب هذا الوعي، عن السلبية والعدمية والاهتمام بسفاسف الأمور (من رقص وكرة) لطالما استغلتهما النظم الشمولية لتخدير الشعوب. وامتدّ حديث الوعي الزائف بعد مجزرة الحفل الفني، بعيدا، إذ كيف أن المشاركين في الحفل، وجزء كبير منهم شارك في الحراك، وطالب بإسقاط الحكومة، وفي مقدمتها وزيرة الثقافة، يسقطون في أول امتحان حقيقي، بعدما لوحت لهم الوزيرة بتنظيم الحفل العالمي، لتستجيب تلك الجموع الغفيرة لدعوة وزيرة مرفوضة، إلى درجة أنهم، وهم يسحقون بعضهم بعضا عند مداخل الملعب مكان الحفل، كانوا
قد نسوا الوزيرة والحكومة والحراك والجزائر، بل ونسوا أنفسهم أيضا. بل امتدّ حديث الوعي الزائف إلى أبعد من ذلك، إلى اكتشاف تناقضاتٍ خطيرةٍ داخل الحراك نفسه، بينها أن جماعات كانت مع الانقلاب العسكري في يناير/ كانون الثاني 1992، صارت اليوم في طليعة المعارضين للعسكر، فقط لأن قيادة الجيش الحالية لم تأت على هواهم، كما أظهر هذا الوعي الزائف كيف تتحرّش قوى حراكية منفلتة برموز الجزائر، أمثال العلامة عبد الحميد بن باديس، والشهيد الرمز العربي بن مهيدي، عبر طرد من يحمل صورهم أو شعاراتهم، فقط لأن الجيش تبنى النوفمبرية (مبادئ ثورة نوفمبر التي أدت إلى استقلال الجزائر)، والباديسية (الحركة الإصلاحية التي قادها الشيخ بن باديس قبل الثورة).
ربما ذهبت سلمية الحراك الجزائري في مهب "الهيب هوب" فعلا. ومع ذلك، من الإجحاف حقا إسقاط الجزئيات المنفلتة هذه على مجمل الحراك في كلياته، والذي يبدو أنه بدأ يستعيد بعض زخمه المفقود خلال الصيف، مع اقتراب الدخول الاجتماعي، فأعداد هائلة ممن انسحبوا من الحراك، بسبب التجاذبات الأيديولوجية، ربما وجدت في مجزرة سولكينغ مبرّرها للعودة، حتى لا تتكرّر مثل هذه المشاهد في الجزائر، في الجزائر الجديدة التي يريد الشعب بناءها. ألم يكن الحراك والثورة أصلا معركة وعي بالأساس، ومنهجا للسلمية والتحضّر؟ من يريد أن يعبث بهذه المكاسب التي انتزعها الشعب انتزاعا خلال الأشهر الماضية سيجد أمامه شعبا كاملا يحرص أن لا تعود الجزائر إلى عهود الهمجية والجهل وانسداد الأفق والأمل في التغيير.
133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية