الهوية خياراً فردياً في مواجهة التعصّب

05 يونيو 2019

هل يمكن الحديث عن هوية وطنية بين قاتل وقتيل؟(Getty)

+ الخط -
أساعد مكتبة المدينة التي أعيش فيها في السويد في انتقاء عناوين كتب عربية، لشرائها وزيادة عدد الكتب العربية في المكتبة، بسبب زيادة عدد السوريين في المدينة، بعد موجة الهجرة أخيراً، للحفاظ على صلة هؤلاء مع ثقافتهم الأصلية. كنت أقف مع أمين المكتبة في بهوها، ومقابلنا صندوق اقتراع لانتخابات الاتحاد الأوروبي. أشار الرجل إلى الصندوق، وسألني عن تصويتي في هذه الانتخابات الجارية في كل أوروبا، فقلت له إنني لا أملك حق التصويت بعد، لم أصبح مواطناً سويدياً بعد. وعندها سألني إن كنت أنتخب في بلدي، ابتسمت وقلت له: لم أعرف الانتخابات يوماً، لأني قضيت حياتي لاجئاً، ولدت لاجئاً لأب لاجئ، وأنجبت أولاداً لاجئين. ولا أعرف حتى ماذا يعني الوطن، لأني ببساطة لم أعرف وطني الذي يُفترض أني أنتمي إليه، فأنا عشت بعيداً، ومنعت من العودة إليه كما منع والدي... ارتسمت الدهشة على وجه الرجل، ولم يفهم ما أقول، وكأني قلت شيئاً من الطلاسم، أو اعتبرني أهذي، أو اعتبر أن التعبير خانني لتواضع لغتي السويدية. سألني كيف ذلك؟ قلت له، أنا فلسطيني ولدت في سورية، وبذلك بقيت لاجئاً طوال حياتي. سأل، ولماذا لم تصبح سورياً؟ قلت له، لا جواب عندي. فأنا لا أملك القدرة على شرح كيف يمكن أن يبقى الشخص لاجئاً طوال عمره لرجل تمنح بلده الجنسية للمقيمين بعد سنوات قليلة؟ وحتى يتجاوز النقاش السوريالي، سألني، ألا تعتقد أن أوروبا تفتقد الهوية واللغة المشتركتين الجامعتين؟ قلت: لا أعتقد ذلك، سويسرا بلد صغير بلا مشكلات، بثلاث لغات. وأوروبا التي خاضت بلدانها حروباً بينية، بينها حربان كبيرتان عالميتان، اليوم ليس هناك احتمال لأي حربٍ بين دولها، وتحاول أن تطور هوية ومصالح مشتركة، على الرغم من كل المشكلات التي يعانيها الاتحاد الأوروبي. قلت، في النهاية: الهوية اختراع بشري، نحن نقرّر من نكون.
لم أكن واثقاً مما أقول، فسؤال الهوية يشغل العالم، سألت نفسي: ما الذي يجمعني مع هذا
 الرجل، أي هويةٍ مشتركة بيننا، على الرغم من عائق اللغة الذي يمنعنا من نقاش القضايا بشكل عميق. وسألت نفسي، من أنا؟ وماذا تعني الهوية بالنسبة لي، ما الهوية أصلاً؟
سؤال الهوية يعني أن التجمعات البشرية والأفراد مشغولون دائماً بتعريف أنفسهم، وعادة ما يكون هذا التعريف بالسلب، أو بالضد من الآخر. أنا لست أنت، أنا أتميّز عنك بالهوية المحمولة على معطياتٍ تتفارق مع الهوية التي تحملها أنت. وإذا كانت هويتي ذات طابع تعصبي، بالتأكيد لا أراك مساوياً لي، والهوية التي تحملها تعطيك مكانةً أقل من التي أحوزها، ومن ثم أنت أقل مني شأناً. وقد ترى أنت ذلك من زاويتك أيضاً، فتراني أقل منك، وتبدأ عملية تصغير الآخر، والتقليل من شأنه حتى يبقى في موقعٍ دوني، وعندما لا يقبل هذه المكانة أفرضها عليه، وعندما يتمرّد، يصبح مستحقاً للعقاب، وحتى للقتل. تبدأ قصة الهوية من المتخيل، وتنتهي بالجرائم الواقعية.
هل يحمل الجلاد والضحية، القاتل والقتيل، الهوية ذاتها، وهل يمكن الحديث عن هوية وطنية بين قاتل وقتيل، نموذج سورية اليوم؟! هل يعطينا الاشتراك في العيش في المكان نفسه هوية مشتركة؟ هل المشترك في الهوية بين الرجل الذي يقف إلى جانبي، وأتناقش معه بلغة متعثرة، والذي يقبل أن أكون مواطناً في بلده، لأني عشت فيه عدة سنوات، أقل من المشترك مع جاري الداعشي الذي يريد أن يقتلني، لأنه يعتقد أني كافرٌ سيدخل الجنة على جثتي؟ وهل المشترك بين المجرم الداعشي الذي يقتل المصلين في المسجد والمجرم الأسترالي الذي قتل المصلين في نيوزيلندا أقل من المشترك معي أم أكبر؟ وهل المشترك بين المجرم الأسترالي والسويدي الذي يناقشني في انتخابات الاتحاد الأوروبي أكثر من المشترك بين المجرمين، الاسترالي والداعشي؟
واحد من عيوب الهوية الكبرى أنها تعرّف أصحابها بالسلب في أغلب الأحيان، وهذا يعني التركيز على المختلف والمفارق. ومن ثم، القضايا التي تنجم عنها النزاعات. ومن هنا، كلما انغلقت على هويتي، وكلما كانت هذه الهوية أفقر، كانت منتجة للصراعات أكثر، التي يمكن أن تتصاعد إلى مرحلة الصراعات الدامية، أو حتى الحروب. الهوية تولد من التعصب، ولا تولد من التسامح، لأن التسامح يولد من الإقرار بتشابهنا وبحقوقنا المتساوية، وبتضامننا باعتبارنا بشراً. بينما الهوية تولد، من متخيل التمييز الوطني أو الطائفي أو العرقي أو الديني.. إلخ، فتنطلق من تصنيف البشر إلى أصناف، الذين أنتمي إليهم هم المركزيون، سواء كانوا على حق أو على باطل، والآخرون هم دائماً على باطل، وأنا/ نحن وأنت/ هم ننتمي إلى دائرتين مختلفتين لا تتقاطعان.
ليست كل الهويات تولد في السياق السلبي، لكن الفرق بين الهويات المنطلقة من التضامنات 
الإنسانية، ومن هويات السلب، أن الأولى أقل قدرةً على مأسسة نفسها في مؤسساتٍ وسلطاتٍ تملك قوة التأثير في واقع العلاقات الدولية والاجتماعية، هي دائماً تفعل فعلها في خلفية المشهد، لأنّ الجلاد على سبيل المثال، لا يحتمل أي تضامن مع الضحية من البيئة التي ينتمي إليها والمؤيدة له، لأنّ ذلك يُعرّض المتضامن للخطر بتحويله عدواً، وإخراجه من الجماعة. وهذا لا ينطبق على المجتمعات الاستبدادية فحسب، بل ينطبق على المجتمعات التي تدّعي الديمقراطية. إسرائيل على سبيل المثال، التي تدعي أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تحاصر مواطنيها الذين يحملون وجهات نظر نقدية تجاه احتلال الفلسطينيين، وتطلق على هؤلاء "اليهود كارهي أنفسهم". في المجتمعات الديمقراطية، هناك إمكانية أفضل أن تعبر الأصوات المنشقّة عن نفسها، إلا أنها تبقى أيضاً أصواتاً معزولة، في مواجهة مؤسسات الهوية الوطنية والاجتماعية، القابلة لتحشيد قواها وتحويلها إلى نتائج سياسية وحيازة سلطات، والاستمرار في خطاب الأنا الهوياتي، سياسياً واجتماعياً. وهو ما نراه اليوم في الخطاب الهوياتي الشعبوي المنتشر في الولايات المتحدة، الذي جاء بترامب رئيساً، والمنتشر في أوروبا، ويعطي أحزاب اليمين واليمين العنصري نتائج كبيرة في كل انتخابات أوروبية، على الرغم من أن هؤلاء أقلية صغيرة في هذه المجتمعات، لكنهم الأكثر تنظيماً، لتمركز عملهم حول خطاب هوياتي سلبي عنصري تجاه الأجانب/ اللاجئين.
نعم، أعتقد أن الهوية اختراع بشري، ونستطيع أن نقرّر من نكون في مواجهة كل الهويات الضيقة والمتعصبة التي تضعنا في قوالب تجعلنا مختلفين بالمعنى السلبي للكلمة، وليس بمعنى التنوع البشري الطبيعي الذي يعطي الغنى للتجربة الإنسانية. يمكن أن نتمسك بهذه الهوية، باعتبارنا أفراداً في مواجهة الهويات السلبية المنتجة للصراعات، والتي تحاول السلطات تعزيزها، مطلق سلطات في كل العالم.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.